من أمثال القرآن (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)
قال تعالى:
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)البقرة(17-20)
قال ابن القيم:ضرب الله للمنافقين بحسب حالهم مثلين, مثلا ناريا, ومثلا مائيا, لما في الماء والنار من الإضاءة, والإشراق والحياة, فإن النار مادة النور, والماء مادة الحياة, وقد جعل الله سبحانه الوحي الذي أنزل من السماء متضمنا لحياة القلوب, واستنارتها ولهذا سماه روحا ونورا, وجعل قابليه أحياء في النور, ومن لم يرفع به رأسا أمواتا في الظلمات, وأخبر عن حال المنافقين بالنسبة إلى حظهم من الوحي أنهم بمنزلة من استوقد نارا لتضيء له وينتفع بها, وهذا لأنهم دخلوا في الإسلام فاستضاءوا به وانتفعوا به, وآمنوا به وخالطوا المسلمين ولكن لما لم يكن لصحبتهم مادة من قلوبهم من نور الإسلام طغى عنهم, وذهب الله بنورهم ولم يقل نارهم, فإن النار فيها الإضاءة والإحراق فذهب الله بما فيها من الإضاءة, وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق, وتركهم في ظلمات لا يبصرون فهذا حال من أبصر ثم عمي, وعرف ثم أنكر ودخل في الإسلام ثم فارقه بقلبه لا يرجع إليه, ولهذا قال (فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ)
ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي فشبههم بأصحاب صيب, وهو المطر الذي يصوب أي ينزل من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق, فلضعف بصائرهم وعقولهم, اشتدت عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه وخطابه الذي يشبه الصواعق فحالهم كحال من أصابه مطر فيه ظلمة ورعد وبرق, فلضعفه وخوفه جعل أصبعيه في أذنيه خشية من صاعقة تصيبه, وقد شاهدنا نحن وغيرنا كثيرا من مخانيث تلاميذ الجهمية والمبتدعة, إذا سمعوا شيئا من آيات الصفات وأحاديث الصفات المنافية لبدعتهم رأيتهم عنها معرضين, كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ويقول مخنثهم سدوا عنا هذا الباب, واقرأوا شيئا غير هذا وترى قلوبهم مولية وهم يجمحون لثقل معرفة الرب سبحانه تعالى وأسمائه وصفاته على عقولهم وقلوبهم, وكذلك المشركون على اختلاف شركهم إذا جرد لهم التوحيد وتليت عليهم نصوصه المبطلة لشركهم اشمأزت قلوبهم وثقل عليهم, ولو وجدوا السبيل إلى سد آذانهم لفعلوا, وكذلك نجد أعداء أصحاب رسول الله ثقل ذلك عليهم جدا, فأنكرته قلوبهم وهذا كله شبه ظاهر ومثل محقق من اخوانهم من المنافقين في المثل الذي ضربه الله لهم بالماء فإنهم لما تشابهت قلوبهم تشابهت أعمالهم.[1]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ
[1] إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/175)