الرئيسيةأحدث الصورمركز الرفعالتسجيلدخول

Share
 

 محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
baconecdz
baconecdz


مدير المنتدى : خالد khaled
مدير المنتدى : خالد khaled


الجنس الجنس : ذكر
هوايتي : الرياضة
مسآهمآتے مسآهمآتے : 11463
التقييم التقييم : 368

محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق Empty
مُساهمةموضوع: محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق   محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق Emptyالإثنين 11 مارس 2013 - 20:17

محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق (01)

منقول من منتديات الحقوق والعلوم القانونية

مقدمة
الجذور التاريخية والفكرية التي سبقت نشأة القانون الدولي
العلاقات الدولية ثمرة مساع مشتركة قامت بها الشعوب قديماً
قانون الشعوب ارتضته الدول لتنظيم العلاقة فيما بينها في السلم والحرب
ثلاثة قرون هي عمر نشأة القانون الدولي إثر المنازعات الأوروبية
● العلاقات الدولية هي ثمرة مساع مشتركة قامت بها الشعوب قديما وفرضتها عليها المنازعات والمصالح التجارية، ومنها انبثق ما يسمى بالقانون الدولي ومن ثم تفرع إلى قانون دولي عام وخاص بمفهومه الواسع حديثا.
وكما تسرد الدراسة التالية أن نشأة القانون الدولي تمتد تاريخيا فقط من ثلاثة قرون وبالطبع سبقته العلاقات الدولية بين الدول بعضها ببعض.. الأمر الذي يؤكد فطرة الله التي خلق الناس عليها وهي حاجتهم لبعضهم البعض مهما تعددت مصالحهم واختلفت مشاربهم وتناقضت أهواؤهم.. إلا أن الفطرة البشرية هي الغالبة عليهم ولهذا لابد من تنظيم هذه العلاقة. والدراسة التالية تحكى قصة نشأة العلاقات الدولية ومن ثم القانون الدولي..
عندما خلق الله تعالى الإنسان جعل فيه نوعا من النزوع إلى الحياة مع الآخرين والالتقاء بهم، إذ أنه لا يستطيع أن يعيش منعزلا بمفرده عن بني جنسه، يستوي في ذلك الأفراد والجماعات والدول. ومن هنا نشأت العلاقات بين الأمم البشرية، بل وحتى بين الأمم غير البشرية، حيث قال سبحانه وتعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) الأنعام 38.
وقد جعل الله تعالى الناس شعوبا وقبائل وميَّز بينهم ليكون هذا التمايز سببا للتعارف والتعاون، فقال: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) الحجرات 13.
ومن هنا كان للأمم في علاقاتها مع غيرها قواعد مرعية ومبادئ تعارفت عليها منذ العصور الغابرة، وعليها أقامت أساس العلاقات في حالي السلم والحرب حتى قال مونتسكيو: «ما من أمة إلا ولها في حقوق الدول نظام، حتى قبائل إركوا ـ في أمريكا الشمالية ـ الذين يأكلون أسراهم لهم نظام من هذا القبيل! فإنهم يرسلون رسلهم ويستقبلون رسل غيرهم، ويعرفون أحكام السلم والحرب. ولكن من سوء أمرهم أن نظام حقوقهم غير مبني على الصحيح من الأصول».
وقال بعض الكاتبين: « إن مجرد تعايش الشعوب جنبا إلى جنب يخلق في نفوسها شعورا بالواجب الخلقي والشرعي يتبلور ويستحيل على مرِّ الزمن إلى نظام من القانون الدولي».
فالعلاقات الدولية والقانون الدولي ثمرة المساعي المشتركة التي تقوم بها الشعوب وتتعاقب عليها الأجيال. ويكفي أن توجد جماعتان حتى تشتبك بينهما المصالح، وتضطرهما إلى التعامل والتعاقد قواعد وتقرير قواعد الحرب والسَّلم، فلذلك ترى الأوضاع الدولية ـ على رغم ما فيها من ضعف ظاهر ـ قليلة التحول، كثيرة التشابه، ولابد لكل جماعة ذات كيان أن تحرص على توثيق عُرى الصلات بمجاوريها، وأن تحافظ بقدر ما تستطيع في صلاتها على المبادئ الشريفة والقواعد العادلة، التي يحترمها ـ في الغالب ـ أهل العصر، ويوحي بها الوجدان والعقل.
وجدت هذه القواعد بوجود الجماعات الإنسانية ذاتها، وقبل أن تكتسب صفة الدولة كما يعرفها القانون الدولي الحديث، فكان ذلك بداية لنشأة العلاقات الدولية أو القانون الدولي العام، على تسامح في التعبير، لأن القانون الدولي بمعناه الحديث لا يتجاوز عمره ثلاثة قرون منذ أواسط القرن السابع عشر الميلادي على إثر المنازعات الأوربية التي انتهت بإبرام معاهدة وستفاليا سنة (1648م) والتي تعتبر فاتحة عهد جديد للعلاقات الدولية والنقطة التي يبدأ عندها تاريخ القانون الدولي في وضعه الحالي، حيث نشأ ـ في الأصل ـ في أوربا ثم امتدَّ سلطانه خارجها إلى الدول التي اعتنقت المدنية الأوربية. ولذلك كان القانون الدولي ظاهرة حديثة ذات جذور بعيدة موغلة في القدم.
وقد كان الكاتبون الغربيون الذين يبدؤون البحث في القانون الدولي يتلمسون طريقهم وسط الإبهام والغموض اللَّذَيْن يرافقان معظم حقول البحث الجديدة. وكان الإبهام الذي اتصف به القانون الدولي في بداية نشأته ظاهرا بوجه خاص في النظريات المشوشة التي اعتمدت لتفسير طبيعته ومصادره. ثم بسبب انعدام القوة القهرية الكافية لتأمين احترام القواعد الدولية ومحدودية المخاطبين بأحكامها، تردّد بعض الكتاب حتى في إعطاء صفة القانون الإلزامي لمثل هذه القواعد.
ولذلك نجد ضرورة لدراسة التطور في العلاقات الدولية بين الأمم والشعوب في الحضارات القديمة ثمَ ما يليها من العصور حتى نصل إلى العصر الحديث، لأن ذلك ضروري لفهم قواعد العلاقات والتعرف على حوادثها التاريخية وكيفية وقوعها وأسبابها، لئلا نقبل قواعد على أنها حقة لا تقبل المناقشة، وهي في الواقع مخالفة له، وقابلة للرد ومن الواجب العمل على إلغائها واستبدالها.
العلاقات الدولية في العصور القديمة
يقصد بالعصور القديمة تلك الحقبة الزمنية الممتدة منذ اكتشاف الإنسانية الكتابة، المعتبر بداية التاريخ، إلى انقسام الإمبراطورية الرومانية في عام (395) أو إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية عام (476م).
ويرجع بعض الشراح من القانونيين في بحثهم التاريخي عن أصول العلاقات الدولية في العصور القديمة إلى الشعوب الآسيوية والإفريقية، حيث ازدهرت المدنيات الكبرى على التوالي في مصر وسوريا و قرطاجة وبلاد اليونان وروما، وكلها على البحر المتوسط، وقد كشفت آثار بابل وآشور ومصر والصين والهند عن قيام علاقات دولية ووجود عدد من القواعد التي كانت تحكم هذه العلاقات.
(أ) ففي مصر: أبرم رمسيس الثاني معاهدة صلح مع ملك الحيثيين في شمال سوريا في آسيا الصغرى، في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، بقصد إقامة سلام دائم وتحالف وصداقة وتبادل تجاري. كما نصت المعاهدة على تسليم المذنبين على ألا توقع عليهم عقوبات معينة. وكان ذلك حينما أغار خيتا ملك الحيثيين على حدود مملكة فرعون في سورية، فهزمه رمسيس وطلب خيتا الصلح واقترح شروطا سلَّم فيها بكل ما طلبه رمسيس، وكتبه باللغة الهيروغليفية في نسختين على صحائف من الفضة وأرسلها مع الهدايا إلى فرعون مصر.
كما نجد في الوثائق التاريخية التي تحدثت عن المصريين والبابليين القدماء نصوصا لاتفاقات ومعاهدات عقدت مع جيرانه تتعلق بقضية مياه الأنهار المشتركة وحق كل دولة منها باستهلاك الماء وتسوية الخلافات حول الحدود وتبادل الأسرى.
(ب) وأما في مملكة الحيثيين، التي ظهرت قبل الميلاد بسبعة عشر قرنا: فقد أظهرت الكشوف الحديثة في بداية القرن العشرين وثائق غنية بالمعلومات عن هذه المملكة التي كان لها دور في أحداث آسيا الصغرى وما جاورها، في مرحلة من تاريخ الإنسانية هامة، وقد كشفت الوثائق ما كان عندهم من نشاط دبلوماسي وافر، وكانت معاهداتهم مع مصر الفرعونية ـ كما تقدم ـ نوعا هاما من أنواعه. وكان الحيثيون يعتبرون العالم فيما وراء حدود بلادهم ـ وباستثناء من تربطهم بهم معاهدات يقوم على احترامها السلم المتبادل ـ دار حرب، للأقوى فيها أن ينال ما تَقْدِرُ جيوشه على تناوله، غُنْما مباحا، لا يحميه دونها قانونٌ مّا.
(ج) وكانت الصين ترسل البعثات الدبلوماسية للدول المجاورة، واحتوى قانون «مانو» الذي انتشر في الهند سنة ألف قبل الميلاد، على قواعد تتعلق بالعلاقات الدولية من حرب ومعاهدات وسفارات.
(د) أما اليهود، فقد كانت علاقتهم مع الآخرين ـ كالعمالقة ـ علاقة عداء لم تعرف السلم بأي حال. وعند القتال لم يقتلوا المحاربين وحدهم، بل أعملوا القتل في الشيوخ والنساء والأطفال في عقر دورهم، ففي سفر صموئيل «قال صموئيل لشاول: فالآن اذهب واضرب عماليق، وحرِّموا كل ماله، ولا تَعْفُ عنهم، بل اقتلهم رجلاً وامرأة، طفلا ورضيعا، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً».
وكانوا ينظرون ـ ولا يزالون ـ إلى الأمم الأخرى نظرتهم إلى شعوب وضيعة في سلَّم الإنسانية، وتضع نظمها وقوانينها على هذا الأساس، فيتم التفريق بين هؤلاء وأولئك أمام القانون وفي كثير من شؤون الاجتماع. فمن ذلك مثلا أن الإسرائيليين محرّم عليهم أن يقتل بعضهم بعضا وأن يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، على حين أنه مباح للإسرائيليين، بل واجب عليهم أن يغزوا الشعوب الأخرى و«أن يضربوا رقاب جميع رجالها بحدّ السيف ولا يُبْقٌوا على أحد منهم، وأن يسترقُّوا جميع نسائها وأطفالها، ويستولوا على جميع ما فيها من مال وعقار ومتاع أو ينهبوه نهباً».
ومن ذلك أيضا: أنه لا يجوز للإسرائيلي أن يتعامل بالربا مع أخيه الإسرائيلي، ولا أن يأخذ منه رهنا بدينه، أما غير الإسرائيلي فيجوز له أن يتعامل معه بأشنع أنواع الربا الفاحش.
وأما الشعوب الأخرى التي لم يكن بينها وبين اليهود عداء، فقد أقاموا معهم علاقات دولية واحترموا المعاهدات التي كانوا يبرمونها مع الشعوب الصديقة، وذلك نزولا على حكم الضرورة، أو التزاما بحكم الدين قبل أن يحرّفوه، حيث عقد سليمان عليه السلام مع حيرام ملك صور الفينيقي عهد سلام وتجارة، كانا فيه نِدَّيْن متكافئين. وكان ملوك إسرائيل ويهودا يعاهدون ملوك آرام في دمشق وغيرهم من أمراء الشام ومصر وجزيرة العرب. وفي هذا أيضا نجد في كتابهم ما يدل على ذلك كما في سفر التثنية، حيث جاء فيه:
«حين تقترب من مدينة (غير مدن الأعداء التقليديين) لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء الأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا (مدن غير الأعداء التقليديين) التي ليس من هؤلاء الأمم هنا (الأعداء التقليديين) وأما من هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة مّا».
(هـ) وأما اليونان: فقد بلغت شأواً عظيما في الفلسفة والعلوم والفنون والآداب في ذلك الوقت، وكان لهذا أثره في تنظيم العلاقات بين المدن اليونانية التي تشكل الوحدات السياسية الدولية، كأثينا وإسبارطة وتيرا وبولوني، وكانت علاقة هذه المدن ببعضها ـ إلى ما قبل الغزو المقدوني ـ على قدر كبير من الاستقرار، تسيطر عليها فكرة المصلحة المشتركة والرغبة في بقاء العلاقات الودية بحكم ما بينها من صلات الجنس واللغة والدين. وبسبب التكامل الاقتصادي الذي طبع علاقاتها. لذلك كانت تتبادل الممثلين، وتعقد الاتفاقات فيما بينها، وتشترك في المؤتمرات، وتقبل التحكيم في المنازعات في وقت السلم. أما في وقت الحرب فكانت تراعي قواعد معينة في إعلان الحرب ومعاملة الأسرى ودفن الموتى، وحرمة أماكن العبادة والأماكن التي تقام بها الألعاب الرياضية.
وأما الوجه الثاني، وهو علاقات هذه المدن بغيرها من البلاد غير اليونانية، فكان أساسه نظرة الاستعلاء والتفوق على سائر الشعوب الأخرى، لأنهم يعتبرون أنفسهم عصرا ممتازا، من حقهم استعباد الشعوب الهمجية ـ بنظرهم ـ والسيطرة عليها وإخضاعها، لأنها شعوب بربرية، لذلك يؤكد أرسطو أن الطبيعة قد قضت أن يكون البرابرة عبيدا، حيث قال: إنما الطبيعة وهي ترمي إلى البقاء هي التي خلقت بعض الكائنات للإمرة وبعضها للطاعة.
وعلى الرغم من أن أفلاطون قد نصح مواطنيه أن يكونوا أكثر تساهلا في معاملاتهم المتبادلة، إلا أنه لم يستسغ قطّ فكرة أن غير الإغريق يستحقون أي نصيب مما يقترح من معاملات أكثر ليناً أو تسامحاً. ولذلك كانت علاقتهم بغير الإغريق علاقات حروب وعداء، لا تخضع لأي قواعد أخلاقية، ولا تراعى فيها أي اعتبارات إنسانية.
وأَنَّى للوطنية الضيقة، التي كانت سائدة في اليونان، أن تقبل فكرة عالمية دولية! ولذلك كانت «الفكرة العالمية التي نطق بها بعض حكمائهم كسقراط وانسكاغوراس شاذة لم تنل أنصارا وانتصارا في اليونان، فكان نظام أرسطو طاليس الأخلاقي مبنيا على التمييز بين اليوناني وغير اليوناني، وكان حب الوطن يتقدم فضائل الأخلاق التي أجمع عليها حكماء اليونان، وأن أرسطو طاليس لم يكتف بحب وطنه والولاء له، بل قال: إن اليونانيين ينبغي لهم أن يعاملوا الأجانب بما يعاملون به البهائم، وقد راجت هذه الفكرة الوطنية الضيقة في الأوساط اليونانية وتغلغلت في الأحشاء، حتى لما قال فيلسوف إنه لا يخص مواطنيه بمواساته بل سيكون برُّه عاما لجميع اليونانيين، استشرفه الناس عجبا ونظروا إليه شزرا».
(و) الرمان: وبعد سقوط الحضارة الإغريقية، قام ورثتها الرومان فبسطوا سيطرة الإمبراطورية الرومانية على كل ما جاورها من البلاد وأخضعوها لحكمهم، فكانت بمثابة الدول التابعة، ولم يختلف الرومان كثيرا عن الإغريق في نظرتهم إلى ما سواهم من الشعوب، وفي ادعائهم التفوق والسيطرة على العالم، «فإن روما قد غزت اليونان سياسيا ولكنها ما لبثت أن تلقَّت هي بدورها غزو اليونان فكريا، حيث نشروا قوانينهم وأقاموا معهدا من الأحبار الذين تولوا إدارة العلاقات مع البلدان الأجنبية عند إعلان الحرب أو السلم وعقد معاهدات الصداقة أو التحالف».
قانون الشعوب
وفي روما ظهرت مجموعة من القواعد القانونية ذات الطابع الديني، تحكم العلاقات التي تنشأ بين الرعايا الرومان ورعايا الشعوب التابعة لروما، متميزة عن قواعد القانون المدني المحلي. وكان ذلك القانون يسمى بـ«قانون الشعوب» أو «قانون الأمم» وكان يقوم على وضع هذا النظام والإشراف على تنفيذه هيئة مكونة من عشرين من رجال الدين، ولم يكن «قانون الأمم» قانونا دوليا. أي إنه لم يكن طائفة من الالتزامات والأحكام ارتضته الدول بوجه عام لتحديد علاقاتها بعضها ببعض... فقد كانت بعض العادات العامة تراعى ويتقيد بها في السلم والحرب، كالحماية المتبادلة للتجار والدبلوماسيين الدوليين ووقف القتال لدفن الموتى، والامتناع عن استخدام السهام المسمومة، وما إلى ذلك.
وكان شرَّاح القانون الروماني يصفون قانون الأمم هذا بأنه قانون عام يشمل الأمم جميعها. ولكن هذا لم يكن إلا من قبيل التفاخر الوطني الكاذب. فلم يكن هناك إلا قوانين محلية كُيِّفتْ بحيث تتفق مع السيادة الرومانية. وكان الغرض منها أن يستطاع بها حكم شعوب إيطاليا والولايات التابعة للدولة الرومانية من غير أن يعطى لأهلها حق المواطنية الرومانية وغيرها من الحقوق المنصوص عليها في القانون المدني.
أما رعايا الشعوب الأخرى، فلم يكونوا يتمتعون بأية حماية قانونية. بل كان يجوز استرقاقهم أو قتلهم، وكان كل أجنبي يدخل روما يصبح هو وماله ملكا لمن يقبض عليه من سكان روما الأصليين.
وعلى أي حال، فقد تميز هذا العصر بطابع العداء المتبادل بين الشعوب، وكان التعاون بينها في أضيق الحدود وبحرص شديد. ومن الطبيعي أن يكون الأمر كذلك في مجتمع يرفع شعار القوة والعنصرية، ويعيش على أساس سيطرة الدولة القوية على باقي دول العالم.
والذي يلاحظ على فكرة القانون الدولي في كل تلك الحضارات والأمم القديمة: أنه لم يكن قانونا مشتركا بين كل الدول القديمة، ولا يعترف بالمساواة أمام القانون لمختلف الأجناس، ويعوزه الأساس الذي يكسبه وصف الإلزام، ومن ثم فإن الأسس الاجتماعية لقانون دولي كانت ناقصة تماما، على الرغم من ازدهار كثير من القواعد والتشريعات في النواحي المدنية ـ عند بعضهم ـ بشكل لم يسبق له مثيل في الأمم والحضارات السابقة. ولم تجد الأحكام الدولية أساسا مكينا يكسبها وصف الإلزام إلا في ظل الدين، فعندئذ اكتسبت من العقيدة الدينية قدسيتها ومن العقاب الإلهي الجزاء المترتب على مخالفتها.
ويمكن أن نوجز الكلام على هذه المرحلة: بأن القانون الدولي كان في التاريخ القديم يقوم على الاحتكاك المباشر بين الشعوب، ولم يصل إلى درجة قانون تنظيمي إقليمي فضلا عن أن يكون تنظيما دوليا. وتوجد شواهد تاريخية عديدة على أن كثيرا من الشعوب الشرقية كانت لهم بعض أنظمة تشابه من بعض الوجوه ما يوجد في القانون الدولي الحديث.
العلاقات الدولية في العصور الوسطى
يمكن تحديد العصور الوسطى تاريخيا بالقرون العشرة الواقعة بين سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية عام (476م) إلى فتح المسلمين للقسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية، على يد السلطان محمد الفاتح عام (1453م). ويذهب بعض المؤرخين إلى أنها تمتد إلى نهاية القرن الخامس عشر.
وفي هذه العصور ظهرت الممالك الإقطاعية في أوربا، ولم تكن المملكة وحدة تباشر السيادة الداخلية والخارجية. وكان السلطان للقوة والحق للأقوى.
ثم جدَّت مؤثرات كان لها دورها في العلاقات الدولية، ومن ذلك:
(أ) انتشار النصرانية في أوربا، حيث أصبحت الديانة الرسمية للدولة الرومانية، بعد أن اعتلى قسطنطين ـ الذي اعتنق النصرانية في آخر حياته ـ عرض الإمبراطورية سنة (306)، وكان من آثار ذلك قيام رابطة دينية بين مجموعة الدول الأوربية، أدت إلى نشوء ما يسمى بالأسرة الدولية المسيحية، يتساوى أفرادها في الحقوق ولهم المُثُل والمبادئ المشتركة نفسها، ويسلِّم الجميع للبابا الكاثوليكي بالسلطة الروحية العليا. وظهرت فكرة جديدة للسلام العالمي في صورة دينية تبسط بواسطة الكنيسة الكاثوليكية أجنحتها على العالم النصراني وتحاول وفق نظرياتها الدينية وأطماعها في السيادة العالمية أن تفرضه على رعاياها. وبدأت فكرة السلام بما يسمى «هدنة الرب» وتضافرت جهود البابا والإمبراطور للقضاء على العنف في العالم المسيحي، ونشر السلام بين الرعايا المؤمنين في سبيل السعادة الأبدية.
وقد ساعد على تضامن الجماعة النصرانية ظهور الدين الإسلامي وانتشاره حتى شمل مجموعة كبرى من الدول بات يخشى ازدياد نفوذها وانتزاعها لسيادة العالم من النصرانية. وكان من أثر ذلك قيام الحروب الصليبية وما تركته من آثار. وعلى الرغم من هذا، فإن النصرانية في أوربا كانت عقبة أمام نمو القانون الدولي بمعناه الحالي، لأمرين:
● أولهما: أن الرابطة التي قامت عليها العلاقات الدولية كان من شأنها أن تقصر هذه العلاقات على الدول النصرانية فيما بينها، وتقصي عن الجماعة الدولية سائر الدول غير النصرانية كالشعوب الإسلامية. فلا عجب إذن أن يصدر البابا نقولا الرابع (1292م) والبابا أوربانوس السادس (1389م) فتوى دينية تاريخية تقول: «إن الغدر إثم، ولكن الوفاء مع المسلمين أكبر إثما».
● ثانيهما: أن سلطة البابا الدينية وسيطرة الكنيسة على الشؤون الداخلية والخارجية تتنافى مع استقلال الدول ومساواتها، وهو أساس القانون الدولي العام التقليدي.
على أن تسلط الكنيسة ومحاولتها التدخل في كل شؤون الدول النصرانية أدى إلى قيام نوعين من الصراع في العصور الوسطى الأول: صراع مع الدولة لكي تتغلب على أمراء الإقطاع تحقيقا لوحدتها ومصلحتها، وتأكيدا لسيادتها، وكان لها الغلبة في ذلك.
والثاني: صراع الدول لكي تؤكد استقلالها في مواجهة الكنيسة وسلطان البابا، وقد انتهى هذا الصراع في حروب الثلاثين سنة التي انتهت بمعاهدة وستفاليا سنة (1648)، وبموجبها أعيد إنشاء العلاقات الدولية بين القوى الأوربية التي تقود أعنَّة الحياة السياسية لسنوات عديدة، ووضعت أسس جديدة لتحديد حقوقها تحديدا واضحا مرسوما، كما انتهى نظام القرون الوسطى وقواعد القانون العام القديمة وفكرة الطموح في إنشاء إمبراطورية عالمية واحدة، وحلّ محلها اتحاد الدول الجرمانية بعد شطر أوربا الوسطى إلى دول كاثوليكية وأخرى بروتستانتية، وبرزت فكرة توازن القوى في العلاقات السياسية الدولية في عالم ما بعد الإصلاح الديني.




عدل سابقا من قبل khaled في الإثنين 11 مارس 2013 - 20:24 عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
baconecdz
baconecdz


مدير المنتدى : خالد khaled
مدير المنتدى : خالد khaled


الجنس الجنس : ذكر
هوايتي : الرياضة
مسآهمآتے مسآهمآتے : 11463
التقييم التقييم : 368

محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق Empty
مُساهمةموضوع: رد: محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق   محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق Emptyالإثنين 11 مارس 2013 - 20:18

(ب) ومن العوامل المؤثرة في العلاقات الدولية: اكتشاف القارة الأمريكية سنة (1492م) فقد أثار هذا الاكتشاف فيما بعد، مسائل دولية جديدة، في مقدمتها مسألتا الاستعمار وحرية البحار. ودفع ذلك فقهاء القانون الدولي إلى معالجة هذه المسائل، وظهرت فيها مؤلفات أهمها كتاب جروسيوس «البحر الحر» دعم فيه مبدأ حرية البحار وحرية التجارة مع البلاد المكتشفة حديثا، والذي كان له أعظم الأثر في توجيه القواعد الدولية في هذا الشأن إلى ما أصبحت عليه في الوقت الحاضر.
(ج) وما أن بدأ تيار الأفكار يسير نحو المبادئ الملائمة حتى صدمته حركة رجعية، إذْ ظهر كتاب ماكيافلي «الأمير» في سنة (1513م)، الذي يمثل هذه الحركة، ونشر به مذهبا يقوم على أنه «لا وجه لتطبيق علم الأخلاق في أمور الدولة»، وأباح للأمير أن يتظاهر بالرحمة والإنسانية والشفقة والتدين، ويفعل عكس ذلك متى دعت إليه المصلحة. وكان يدعو إلى تكوين دول أكبر من الإمارات الصغرى للوقوف في وجه الدين الإسلامي الجديد. وانتشرت تعاليم ماكيافلي ودانت لها أوربا، واتخذ الملوك والقواد العسكريون مبادئه شعارا لهم، واتجهت ميول السياسة نحو الفوضى الأخلاقية، وقامت على أساس الغش والخداع والوقيعة والدسائس. فكانت الحروب في غاية القسوة والغدر والجور، قتلٌ للكبار والنساء والصغار، وتخريب للبلاد، وتعذيب للأسرى ثم إعدامهم بعد ذلك.
مات ماكيافلي سنة (1527)، لكن مذهبه بقي شائعا من بعده زهاء قرن من الزمان بين رجال دول اوربا الذين تحرروا من قيود الأخلاق الفاضلة، فرحبوا بالفلسفة السياسية الحديثة المكيافيلية، وخلاصتها: «أن الأنانية والمنفعة الذاتية شعار الدولة السياسي». ولا يزال مذهب ماكيافلي منتشرا في معظم دول العالم.
إن كل ما وصفه ماكيافيلي في كتابه «الأمير» كان طابع ذلك العهد وما يتبعه السادة، بل لم تك ثمة أساليب وردت في هذا الكتاب لم يرتكبها الحكام منذ مدة طويلة ولم يتخذها كثير من رجال السياسة ديدنهم دائما قبل ظهور «ماكيافيلي» بلا حاجة إلى الاسترشاد بكتاب «الأمير». (د) وما كان لتلك الأفكار والمبادئ أن تنتشر دون أن تثير الشكوى وتدعو إلى شيء من الإصلاح والعلاج الشافي من تلك الأدواء، فقام مفكرون يعارضون تعاليم ماكيافيلي وأتباعه قائلين: إن العلاقات الدولية يحكمها في حالتي الحرب والسلم قانون أساسه العرف والعادة والحقوق الطبيعية للإنسان وللدول. ومن هؤلاء راهب اسباني اسمه «فيتوريا» وآخر اسمه «سوارس». وقام في إيطاليا محام هولندي اسمه «جينتيليس» وغيرهم من المفكرين الذين مهدوا لكتابات المحامي الهولندي «جروسيوس» الذي وضع كتابه عن «قانون الشعوب» وفيه تنظيم لكتابات أسلافه وتأصيل لها على أساس من التاريخ والمنطق، مستفيدا من نظريات كانت موضع احترام وقبول من المفكرين في ذلك العصر. ولذلك ينعت كُتَّاب الغرب جروسيوس بأنه «أبو القانون الدولي العام». وبهذه الحلقة انتهت مرحلة العصور الوسطى في القانون الدولي الأوربي، وبدأت مرحلة علمية جديدة هي العصر الحديث للعلاقات الدولية.
ومن الجدير بالذكر هنا أننا لم نخصص في هذا المبحث فقرة للعلاقات الدولية في الإسلام ـ وقد قامت دولته في هذا العصر ـ لأن ذلك يحتاج إلى مبحث مستقل قائم

القانون الدولي والعلاقات الدولية عند المسلمين-
.الدول الإسلامية ، كغيرها من الكيانات السياسية ، تقيم علاقات خارجية ، تنضم إلى المنظمات الدولية ، وتلتزم بالقانون الدولي والمبادئ العامة كمعايير تنظم علاقاتها مع الآخرين . فقد عاد من المستحيل ، في العالم المعاصر ، الانعزال عن الاتصالات الخارجية ، سياسياً واقتصادياً .وحتى أولئك الذين يبدون عداءً للغرب أو غير المسلمين ، إذا ما وصلوا للسلطة ، سيجدون أنفسهم مجبرين على إقامة علاقات خارجية ، وعقد معاهدات و اتفاقيات مع الدول غير الإسلامية . إن إدارة الدولة لا يمكنها أن تعتمد على الشعارات الثورية أو الأفكار المجردة ، ولا حتى على الحماس الديني ، بل بالتعامل بواقعية مع مفردات العصر ومتطلبات المجتمع الذي تدير شؤونه .
منذ عقد الثلاثينات في هذا القرن ، بدأت الدول الإسلامية في الانضمام إلى المنظمات الدولية; في البداية عصبة الأمم ، ثم منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها . إن مشاركة الدول الإسلامية في النظام العالمي يمكن اعتباره ظاهرة رائعة في التاريخ الحديث للدول الإسلامية . هذه الظاهرة لها جذور تاريخية عندما كان العالم الإسلامي يقيم علاقات وثيقة مع الغرب منذ القرون الوسطى . وامتدت تلك العلاقات على مدى قرون طويلة ، وتضمنت أشكالاً وأبعاداً مختلفة . لقد أثر كل طرف بالآخر في كل المجالات والنشاطات بين الدول ، في السياسة والاقتصاد والثقافة والقانون والعلم . فكان هناك تأثير متبادل بين الطرفين .
وقد جهد فقهاء القانون أنفسهم في محاولة تقريب وجهات النظر الفقهية والقانونية بين العقل الغربي والواقع الإسلامي المتمثل بالنظم والحكومات الإسلامية وعطاء المفكرين والفلاسفة المسلمين فهل وفقوا في ذلك؟ هذا هو جوهر موضوع هذه الدراسة
إن هدف هذه الدراسة هو تقييم ومتابعة تطور القانون الدولي في الإسلام من خلال علاقة العالم الإسلامي بالغرب . إذ سيقتصر البحث حول تأثير هذه العلاقة على القانون الدولي الإسلامي ، دون بقية العوامل الأخرى .
مفهوم القانون الدولي
يعرّف القانون الدولي بأنه مجموعة القواعد التي تعين حقوق الدول وواجباتها المختلفة في علاقاتها المتبادلة ، أو مجموعة القواعد القانونية الملزمة للدول والشخصيات القانونية الدولية الأخرى في علاقاتها المتبادلة . فالموضوع الذي يتعامل به القانون الدولي يقع خارج الدولة وليس في أنظمتها الداخلية . فهو ينصبّ على حقوق الدول وعلاقاتها مع بعضها . وقد أضيف إليه بعض الأفراد الذين يمثلون شخصيات دولية كالأمين العام للأمم المتحدة .
وتعود جذور القواعد الدولية إلى عصور سحيقة في التاريخ . فرغم عدم وجود علاقات وثيقة بين الوحدات الدولية والشعوب المتجاورة لكن الحاجة كانت تقتضي تنظيم بعض القضايا أو العلاقات المتبادلة في ظروف محدودة . فغالباً ما تنشأ حروب بينها ، وتنتهي بانتصار إحداها ، فيجتمع الفريقان لتنظيم قضايا تبادل الأسرى أو دفع الجزية أو الاتفاق على إنهاء حالة العداء بينهما ، أو المرور في أراضي الدولة الأخرى . وقد حفلت المصادر التاريخية باتفاقيات دولية في عهود الفراعنة والسومريين والآشوريين والبابليين واليونان والرومان والهند والصين وغيرهم . وشهدت روما والمدن والأقاليم المجاورة لها معاهدات صداقة تنص على احترام السفراء والمبعوثين ، وعلى التحكيم عند نشوء نزاع . ومنها نشأت بعض قواعد العرف الدولي ، وبتكرارها صارت قواعد قانونية دولية .
وبسبب النظرة الاستعلائية للرومان واليونان ، حيث أنها تعتبر نفسها شعوباً ممتازة ، وتعتبر الشعوب الأخرى همجية يجوز استعبادها بالقوة ، نشأت فكرة التمييز العنصري بين الدول; حيث امتازت تشريعات القانون الروماني بالكثير من المساواة بين أفراد الشعب الروماني ، في حين اختلفت تلك التشريعات عن التي وضعت لحكم شعوب الدول التابعة لروما أو ما كان يطلق عليهم البرابرة . وعندما يقع خلاف بين هذه الدويلات التابعة كانت روما هي التي تفصل فيه ، فنشأت بذلك فكرة وجود دولة كبرى لها صفة الرئاسة العليا بين الدول . وظلت هذه الرئاسة لأباطرة الرومان في عهد الدولة الرومانية الغربية (اللاتينية) . وبعد سقوطها عام 476 م انتقلت إلى الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) . ومن بعدها للإمبراطورية الجرمانية التي نشأت عندما قام البابا ليو الثالث بتتويج شارلمان في روما عام 800 م . فلما ضعفت هذه انتقلت سلطة الرئاسة للبابا ، فجمع في يديه سلطة الرئاسة الدينية ، التي كانت له على جميع أنحاء العالم المسيحي ، وسلطة الرئاسة الدنيوية على أمراء وملوك الدول المسيحية [3] .
تأثير المسيحية على القانون الدولي
في العصور الوسطى بات من الضروري قيام البابا بتتويج الملك ومنحه بركته ، وأخذت المجالس الكنسية تضع القواعد الدولية وتعمل على إيجاد أسرة دولية تجمع بين دول أوربا الغربية تحت السلطة العليا للبابا . ومن القواعد التي وضعتها (صلح الإله) و (هدنة الرب) التي تنظم الصلح والهدنة بين الدول المسيحية المتحاربة . ووضعت قاعدة (هدنة الرب) في القرن الحادي عشر، ومفادها : أنه لا يحل لمسيحي أن يحارب مسيحياً آخر من غروب شمس الجمعة حتى مطلع يوم الاثنين ، وشمل التحريم أيام الأعياد . وهي تشابه الأشهر الحرم في الشريعة الإسلامية ، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم لتأمين انتقال الحجاج من وإلى مكة المكرمة ، ورابع (رجب) يتوسط باقي أشهر العام .
وكثرت المؤتمرات الدينية والدولية التي يدعو إليها البابا ويحضرها الأمراء والملوك من دول أوربا المسيحية . وكان للحروب الصليبية دور رئيس في تشكيل الهوية الأوربية للشعوب المسيحية في أوربا . فقد كانت عاملاً هاماً في تكتل وتماسك الدول الأوربية بهدف تعبئة الناس للمشاركة في الأهداف المعلنة للحروب وهي (تخليص الأراضي المقدسة من أيدي الوثنيين وتحرير الصليب) . فلأول مرة تجتمع القارة الأوربية متخلصة من حواجز التباين والصراعات بين القبائل والشعوب والأجناس المتنوعة (فرنج وسكسون وجرمان ونورمانديين ولومبارديين وصقليين وبورغنديين) ، فعزز ذلك الجهد المشترك في الحروب ، عزز المفهوم السياسي والديني للعالم المسيحي ، والذي خلق بدوره المفهوم الثقافي لأوربا . وعندما حض البابا أوريان الثاني في خطابه الشهير الذي ألقاه في كليرمون (فرنسا) في تشرين الثاني 1095 المسيحيين على شنّ حرب على (الجنس الشرير) الذي كان يمتلك الأرض المقدسة ، إنما كان يعلن ميثاق المدنية الغربية [1] ، وقد أثر تماس المسيحيين مع المسلمين طوال قرنين من الحروب الصليبية على نمط المبادئ والأعراف التي اعتمدها الأوربيون فيما بعد . فقد كان للقواعد الشرعية الإسلامية كقواعد الحرب والسلم والهدنة والصلح وغيرها تأثير في القانون الدولي الأوربي ، فعندما عاد الملوك وأمراء الإقطاع إلى أوربا نقلوا معهم بعض النظم السياسية والإدارية ، فمثلاً كانت الدول الأوربية على شكل إقطاعيات كثيرة ، لكل جيشه وضرائبه وعلاقاته الداخلية والخارجية ، ورأوا أن الإسلام أرسى قواعد الدولة المركزية حيث يرأسها شخص واحد ، يقوم بتعيين وعزل الولاة على الأقاليم . فبدأ ملوك فرنسا بالقضاء على نظام الإقطاع ووحدوا دولهم ، وتبعهم ملوك إيطاليا وألمانيا . فأدى ذلك إلى ظهور دول في أوربا متحدة يستطيع رؤساؤها التحدث باسمها ، والارتباط مع الدول الأخرى بعلاقات دولية عامة ثابتة [2].
القانون الدولي عند المسلمين
بدأ الاهتمام بالعلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم خارج الجزيرة العربية في المرحلة المكية ، عندما نصح الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بعض أصحابه من المسلمين الأوائل بالهجرة إلى الحبشة للتخلص من ظلم قريش لهم . وجاءت سورة الروم تتحدث عن حرب بين دولتين عظميين في المنطقة (الروم والفرس) ، وحدد القرآن الموقف الإسلامي من تلك الحرب التي انتصر فيها الفرس ، وبشر المسلمين بانتصار الروم بعد بضع سنين . وحالما استقرت دولة المدينة باشر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بإرسال رسائل إلى الدول الكبرى في المنطقة (بيزنطة وفارس ومصر واليمن والحبشة) يدعو زعماءها وشعوبها إلى الإسلام . وبعد ثمانين عاماً كانت الدولة الإسلامية أكبر امبراطورية في المنطقة تمتد من الهند شرقاً إلى إسبانيا غرباً . فأصبحت لها حدود مشتركة وطويلة مع العديد من الدول والشعوب غير المسلمة . وكانت علاقات الدولة الإسلامية (الأموية والعباسية) متوترة مع جميع جيرانها عدا الحبشة . وبسبب الحروب والمعارك كانت هناك حاجة ماسة لتنظيم فترات الهدنة والصلح والجزية وتبادل الأسرى وإقرار السلم .
بدأ الفقهاء المسلمون يتناولون قضايا القانون الدولي في كتب الفقه فيما يعرف بالسِّيَر (جمع سيرة) والتي يقصد بها طريقة معاملة المسلمين لغير المسلمين خارج (دار الإسلام) . وتتضمن لفظة السيرة معنيين ، الأول : والذي كان المؤرخون وأصحاب السير يستعملونه ، يعني قصة أو سيرة حياة الرجل . والثاني : وكان الفقهاء يستعملونه ويعني تصرف الدولة في علاقاتها مع الشعوب الأخرى [1] . يقول السرخسي في شرحه الوافي لكتاب (السير الكبير للشيباني) : إعلم أن السير جمع سيرة ، وبه سمي هذا الكتاب لأنه يبين فيه سيرة المسلمين في المعاملة مع المشركين من أهل الحرب ومع أهل العهد منهم من المستأمنين وأهل الذمة ومع المرتدين الذين هم أخبث من الكفار بالانكار بعد الإقرار ، ومع أهل البغي الذين حالهم دون حال المشركين وإن كانوا جاهلين وفي التأويل مبطلين [2] .
ومن أوائل الفقهاء المسلمين الذين تناولوا قضايا السير هو محمد بن الحسن الشيباني الذي كتب مؤلفه (السّيَر الكبير) ، وعبد الرحمن الأوزاعي (توفي 157 هـ، 774 م) من الذين عالجوا السير كموضوع مستقل من مواضيع الفقه . وكان سفيان الثوري (توفي عام 161 هـ، 778 م) والشعبي (توفي عام 104 هـ، 723 م) شديدي الاهتمام بموضوع الحرب . ويبدو أن آراءهما كان لها تأثير في أبي حنيفة (توفي عام 150 هـ، 768 م) وفي نفوس تلاميذه من بعده وخاصة أبو يوسف والشيباني اللذين عالجا الموضوع بإسهاب . ولم يعر فقهاء الحجاز كمالك بن أنس (توفي عام 179 هـ، 796 م) أقل اهتمام لأنهم كانوا بعيدين عن المناطقالتي حصل فيها الاتصال المباشر بين الإسلام وبين شعوب أخرى ، فلم يبالوا كثيراً بالمشكلات التي كانت تنشأ نتيجة لهذا الاحتكاك بين المسلمين وبين الشعوب الأخرى [3] . في حين كان فقهاء العراق من الحنفيين وفقهاء المغرب المالكيين على تماس مباشر مع الشعوب والدول غير الإسلامية .
وجرى تصنيف العالم إلى (دار الإسلام) و(دار الحرب) ، وهي تسميات لم ترد لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية ، بل مجرد مصطلحات ابتكرها الفقهاء للتمييز بين الأرض الإسلامية التي يسودها القانون الإسلامي والأراضي التي تعود لغير المسلمين وتسودها قوانين غير إسلامية . وكان الفقهاء القدامى يتناولون موضوع السير إما في باب الجهاد أو أبواب أخرى كالمغازي والغنائم والردة وعهد الأمان . ويشبه التقسيم الإسلامي من حيث المبدأ على الأقل ، ما قبله البلشفيك في روسيا ، فهذه البلاد هي الوطن العام لكل شيوعي و(دار السلام) للقائلين بهذه الأيديولوجيا ، وما بقي من العالم حيث يسود أصحاب الأموال فهي (دار حرب) يتعين فيها على كل ثائر شيوعي أن يتخذ جميع الوسائل ، هو وحزبه ، للإستيلاء على مقاليد السلطة فيها [4] .
وقد تناول أبو حنيفة وتلامذته بعض المفاهيم ذات الصلة بالقانون الدولي مثل مبدأ المعاملة بالمثل أي معاملة غير المسلمين الداخلين إلى دار الإسلام كما يعامل المسلمون في دار الحرب . كما ينطبق هذا المبدأ أيضاً على التمثيل الدبلوماسي رغم أن حصانة الممثل الدبلوماسي كان عرفاً متبعاً في التمثيل الدبلوماسي . ويطبق أيضاً في تبادل الأسرى وفي دفع الفدية . وكانوا يعتبرون المسلمين وغير المسلمين شخصيتين لكل منهما وضعها القانوني سواء كانوا أفراداً أو جماعات . وكان لانفصال الأقاليم آثار قانونية تمس علاقات المسلمين مع غيرهم من الشعوب . وهكذا نجد أن أبا حنيفة ، في الوقت الذي كانت فيه الشريعة الإسلامية ملزمة لكل مسلم في أي إقليم يقيم فيه ، يدخل فكرة الإقليمية في العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين . وعليه صار استنباط الأحكام الشرعية المتعلقة بهذا الموضوع يستند إلى العرف والقياس وإلى الإقليمية أو (الدار) بالاصطلاح الإسلامي . وقد اختلف فقهاء آخرون كالأوزاعي مع أبي حنيفة حول فكرة الإقليمية
وينشأ عن هذا المبدأ الأساسي قضية أخرى وهي أنه على المسلمين أن يعترفوا بأحكام البلدان غير الإسلامية وقوانينها على أنها ملزمة للمسلمين عندما يكونون مقيمين في دار الحرب . وكان أبو حنيفة يعتبر أعمال الأفراد المسلمين المقيمين في دار الحرب التي تخالف قوانين البلاد أعمال سرقة وقطع سبيل .
وإذا كان الغرب يعتبر العالم والسياسي الهولندي هوجو دي غروت HugoDE Groot الذي عاش في القرن السابع عشر هو أبو القانون الدولي فإن بعض الباحثين الغربيين يعتبرون الشيباني (دي غروت الإسلام) . وقد اعترف هانس روزه (إن إحلال الشيباني محلاً رفيعاً في تاريخ القانون الدولي محلاً يستحقه بجدارة) ، فأسس عام 1955 (جمعية الشيباني للقانون الدولي) [5].
الدولة الإسلامية والقانون الدولي الحديث
بقي العالم منقسماً إلى وحدات دولية على أساس ديني ، أوربا المسيحية ، والشرق الأوسط الإسلامي ، والهند والصين وما جاورها هندوسية وبوذية وكونفشيوسية . ورغم وجود عدة دول ووحدات سياسية داخل الكيان الديني لكن العامل الديني بقي يسيطر على فكرة التقسيم الدولي . وبدأ القانون الدولي يتطور حين أقر مبدأ الفصل بين العقائد الدينية وبين العلاقات الخارجية . وقد أدى هذا المبدأ إلى إعادة القضايا الدينية إلى إطارها الداخلي الوطني ، بالخلاف من العقيدة الإسلامية التي تعتبر المسلمين كياناً واحداً أو ما يعرف بالأمة الإسلامية ، رغم وجودهم في دول متعددة جغرافياً وسياسياً . ففي مطلع القرن السادس عشر كان العالم الإسلامي ينقسم إلى ثلاث وحدات سياسية مستقلة هي الدولة العثمانية في تركيا والدولة الصفوية في إيران والدولة المغولية في الهند . ورغم وجود تنافس واختلاف مذهبي وحروب دامية بين العثمانيين والصفويين لكنهم اضطروا إلى تنظيم علاقاتهما على أسس علمانية واعتراف كل دولة بالأخرى . في حين كانتا ترفضان تنظيم علاقاتهما على أساس المساواة والمعاملة بالمثل . فعندما أعلنت إيران المذهب الشيعي مذهباً رسمياً للدولة ، غضب الباب العالي ، ولم يعترف بحق هذه الدولة بالإعلان عن مذهبها الرسمي كما تعلن الدولة العثمانية عن مذهبها السني ، فأصدر السلطان أوامره بطرد وقتل المواطنين الشيعة المقيمين داخل الدولة العثمانية . ورداً على ذلك وحسب مبدأ المعاملة بالمثل راحت إيران تطرد أو تقتل المواطنين السنة القاطنين في بلادها .
ولعل أهم التغييرات التي تناولت العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين هو إقرار العلاقات السلمية بين الشعوب المختلفة ديناً وعرقاً . فقد عقد السلطان سليمان القانوني عام 1535 معاهدة مع ملك فرنسا ، فرنسيس الأول ، تضمنت الاعتراف بأن السلم هو القاعدة التي تنظم علاقات المسلمين بغيرهم . واعتبرت المعاهدة ملك فرنسا ومبعوثيه على قدم المساواة مع السلطان العثماني وممثليه . وتنص المادة الأولى على قيام سلام قانوني وأكيد بين السلطان العثماني وملك فرنسا ، ما داما على قيد الحياة ، وعلى منح رعاياهما المقيمين في بلاديهما حقوقاً متبادلة . وقد أعفي الرعايا الفرنسيون من دفع الجزية . كما أنهم منحوا حرية ممارسة عقائدهم الدينية ، وحق المقاضاة في محاكمهم القنصلية بحسب قوانين بلادهم [1] . وهو أمر يحدث لأول مرة حيث يطبق قانون غير إسلامي في محاكم على أراض إسلامية . كما أنه جرى إعفاء غير المسلمين المقيمين في الأراضي الإسلامية من دفع الجزية . ولم يجرِ تحديد إقامتهم كما في السابق حيث لا يتجاوز عهد الأمان السنة الواحدة . كما أن المعاهدة غير محددة الأمد في حين كان الفقهاء القدامى يشترطون أن لا تزيد مدة الصلح على عشر سنوات .
ومن التغييرات الهامة في نظرة المسلمين وعلاقاتهم بغيرهم هو قبولهم بمبدأ سيادة الأرض وسيادة قانون ذلك الإقليم ، تلك السيادة التي تفرضها طبيعة انفصال الإقليم عن غيره من الأقاليم . فقد كانت نظرة الدولة الإسلامية أنها دولة عالمية والقانون شخصي لا علاقة له بالأرض . فأصبح المواطن يظهر ولاءه للدولة المستقلة داخل إطارها استقلالاً كاملاً وليس للدولة العالمية الشاملة . وجرى تعزيز المفهوم الأوربي لفصل الإقليم واحترام حدوده وتطبيق قانونه فوق أراضيه . إن مبدأ تبعية المواطن لدين حاكمه الذي تبنته الدول الأوربية أول مرة في معاهدة الصلح المعروفة بمعاهدة أوجزبرج سنة 1555 أصبح أساساً للنظام الأوربي بعد معاهدة وستفاليا عام 1648 ، كما أنه كان عاملاً فعالاً في تنسيق العلاقات بين الدول المسيحية في أوربا ، ثم في تنسيق علاقتها مع العالم الخارجي الذي لا يدين بالمسيحية وفي تمهيد السبيل لخلق مجتمع دولي [2] .
لقد تطور القانون الدولي المسيحي منذ معاهدة وستفاليا التي حققت ما يلي :
1 ـ أنها قضت على نفوذ البابا في رئاسته على الدول ، فقضت بذلك على فكرة وجود رئيس أعلى يسيطر على الدول الأوربية .
2 ـ أقرت مبدأ المساواة بين الدول المسيحية جميعها سواء الكاثوليكية أو البروتستانتية ، الملكية أو الإقطاعية ، وذلك باجتماعها في مؤتمر عام لم يدع إليه البابا .
3 ـ أحلت نظام السفارات الدائمة محل السفارات المؤقتة ، مما أدى إلى دوام اتصال الدول بعضها ببعض.
4 ـ أنشأت المعاهدة فكرة التوازن الدولي في أوربا ، كوسيلة أساسية من وسائل حفظ السلام ، ومفادها أن تتكاتف الدول على الحيلولة دون توسع أي دولة على حساب دولة أخرى . فقررت استقلال كثير من الدول التي التهمتها الامبراطورية الجرمانية من قبل .
5 ـ فتحت باب تدوين قواعد القانون الدولي العام بتسجيلها في المعاهدات المقبلة تباعاً .
ومن الأحداث السياسية الهامة هو انضمام روسيا إلى جماعة الدول الأوربية واعتبارها دولة كبرى ، وإعلان استقلال أمريكا عام 1776 ثم قيام الثورة الفرنسية عام 1789 التي نادت بحق الأمم في اختيار نظمها الدستورية بحيث لا يفرض على دولة ما نظام ملكي بحجة التوازن الدولي أو الإبقاء على العروش المسيحية الأصيلة . وقد حققت أوربا انجازاً كبيراً حين اتفقت جميعاً ضد نابليون الذي أخذ يتوسع من اجل تكوين امبراطورية عظيمة ، فهزمته أوربا ، ثم اجتمعت في مؤتمر فينا عام 1815 حيث وضعت قواعد دولية جديدة . فقد أعاد الملكية إلى بروسيا (ألمانيا) والنمسا ، وضم السويد إلى النرويج وجعل منهما دولة اتحاد حقيقي . كما ضم بلجيكا إلى هولندا كدولة ملكية قوية ، وجعل سويسرا دولة محايدة لتكون سداً يصد التوسع الفرنسي مستقبلاً [3] .
لم تكن الدول الأوربية تعتبر الدولة العثمانية عضواً في المجموعة الأوربية ولا خاضعة للقانون الدولي الأوربي لأن العرف الأوربي لم يكن ملزماً لغير الأوربيين . وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ارتأت الدول الأوربية أن تعامل تركيا بوصفها عضواً في المجموعة الأوربية . كما سمحت لتركيا أن تكون عضواً يشترك في القانون العام ضمن مجموعة الأسرة الأوربية بدعوة من الدول التي وقعت معاهدة باريس (30 آذار 1856). وكانت تركيا قد أخذت قبل عام 1856 سنوات كثيرة تعمل طبقاً للقانون الدولي بإقامتها علاقات دبلوماسية وبعقدها معاهدات مع الشعوب الأوربية .
الإسلام المعاصر والقانون الدولي
بعد انهيار الدولة العثمانية عام 1918 بهزيمتها في الحرب العالمية الأولى ، وقعت بقية الأقاليم الإسلامية تحت الاحتلال الأجنبي . فأصبح نصف العالم الإسلامي تحت الاحتلال البريطاني والنصف الآخر تحت الحكم الفرنسي والهولندي والإيطالي والإسباني . ولم يأت عام 1920 حتى قررت عصبة الأمم فرض الانتداب على العراق وسوريا وفلسطين والأردن ومصـر تنفيذاً للقرار الدولي . وفي السنوات اللاحقة بذل المسلمون تضحيات جسيمة من أجل نيل الاستقلال . وعندما حققـت هذا الهـدف أرادت ممارسـة حقوقها بما تتطلبه منها شخصيتها الدولية ، فأخذت تعقـد الاتفاقيات ، وتنضـم إلى المعاهـدات والمنظمـات الدوليـة .
ولما كان القانون الدولي المطبق في هذه المنظمات والمعاهدات يستند أساساً إلى قواعد وأعراف غير إسلامية ، ولما كانت الحكومات والدول التي أقيمت بعد الاستقلال دولا قومية وعلمانية فلم تكن هناك صعوبات أو مشاكل فيما يتعلق بطبيعة التعامل مع القانون الدولي . ولكن بعد الصحوة الإسلامية وتأسيس أول جمهورية إسلامية عام 1979 ، وسعي العديد من الأنظمة والحكومات إلى الانسجام مع القواعد والتعاليم الإسلامية بدأت إثارة بعض التساؤلات والإشكالات حول تعامل الإسلام مع القانون الدولي ، أي هل يوجد مانع شرعي وفقهي من القبول بالتعامل مع مبادئ القانون الدولي ؟ وهل الأفضل التعامل معه أم تأسيس قانون دولي إسلامي ؟ وهل تختلف مبادئ ومصادر القانون الدولي عن مصادر القانون الدولي الإسلامي ؟
يرى بعض الباحثين أن مصادر القانون الدولي الإسلامي بموجب مفاهيم القانون الدولي المعاصر تتفق عموماً مع القواعد الكلية التي حددها الفقهاء المعاصرون وفقهاء القانون ، والمنصوص عليها في القانون الأساسي لمحكمة العدل الدولية . ويمكن جمع هذه المصادر في أربع فئات: العرف والسلطة والعقد والعقل . فالسنّة والعادات المحلية هي ما نسميه بالعرف . وأما القرآن الكريم والسنة الشريفة فهي المصدر الذي نسميه السلطة . وأما المبادئ والقوانين التي كانت تتضمنها المعاهدات التي كان يبرمها المسلمون مع غيرهم من الشعوب فإنها تمثل مبدأ العقد . وأما المؤلفات الفقهية التي ترتكز على مصادر الشريعة فهي التي تمثل العقل [1] .
ونرى أن التشريع الإسلامي يمتلك من الاتساع والمرونة ما يمكنه أن يتعامل مع القانون الدولي بمنحى إسلامي دون فقدان حالة المعاصرة والتطور التشريعي والتغييرات الدولية . وقد اخترت بعض المفردات الدولية كدليل على قابلية الفقه الإسلامي لاستيعاب تطور العقل البشري وتغير النظم والقوانين ومسايرة مصلحة الإنسانية طالما أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان .
العلاقات الإسلامية ـ الأوربية في التاريخ
تمثل العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي دوراً متبادلاً في المشهد التاريخي . أحياناً يأتي المسلمون إلى أوربا (إسبانيا ، صقلية والبلقان) ، وأحياناً يذهب الغرب إلى العالم الإسلامي (الصليبيون ، الاستعمار) . وتتغير العلاقات ، حسب الظروف ، من المصالح الاقتصادية المشتركة والدبلوماسية المتبادلة إلى الحروب والمعارك . وكان سوء الفهم وعدم الثقة هما أبرز معالم العلاقات التاريخية بينهما .
لقد كان أول انطباع لامبراطور بيزنطة هرقل Heraclius (حكم610 ـ 641 م) إيجابياً تجاه الإسلام . فقد وصلته رسالة من الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عام 6 هـ/628م يدعوه فيها إلى الإسلام . وقبل أن يتخذ أي موقف من الدين الجديد أخذ يسأل عن الرسول الجديد . يقول الطبري «فلما قدم عليه كتاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مع دحية بن خليفة ، أخذه هرقل ، فجعله بين فخذيه وخاصرته» [1]، وطلب معلومات حول النبي(ص) ، فجلب له أبو سفيان إذ تصادف أنه كان في تجارة له بالشام ، فسأله عنه . وتقول بعض المصادر الإسلامية أن هرقل كاد أن يعتنق الإسلام ، «وأنه قد جمع البطارقة والقساوسة وقال لهم : يا معشر الروم ، إني جمعتكم لخير ، إنه أتاني كتاب هذا الرجل يدعوني إلى دينه; وأنه والله للنبي الذي كنا ننتظره ونجده في كتبنا ، فهلموا فلنتبعه ونصدقه ، فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا» [2]، لكنهم رفضوا مقالته .
في عام 8هـ/629م أرسل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) جيشاً لقتال الروم يتألف من ثلاثة آلاف محارب ، حيث التقى الجيشان في واقعة مؤتة ، التي خسر فيها الجيش الإسلامي واستشهد قادته الثلاثة [3] . ولم يكن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مطمئناً لنوايا الروم ، ففي عام 9هـ/630م وصلته أنباء عن حشود على الحدود مع الجزيرة ، فجهز جيشاً قاده بنفسه(صلى الله عليه وآله وسلم) ، لكنه لم تحدث معركة ، ووصل الجيش الإسلامي حتى منطقة تبوك .
وبعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بدأ الخليفة أبو بكر الصديق ستراتيجية جديدة تمثلت بالتوسع في الفتوحات شمال الجزيرة العربية . بدأت الحملات العسكرية بفتح العراق عام 12هـ/633م ودحر الامبراطورية الساسانية ، ثم سوريا عام 13هج/634 م ثم عاصمتها دمشق عام 14هـ/635م التي خسرتها الامبراطورية البيزنطية .
وفي العام التالي حقق خالد بن الوليد انتصاراً ظافراً على جيش هرقل في معركة اليرموك ، حيث واجه الجيش الإسلامي وتعداده 25 ألف رجل الجيش البيزنطي وهو ضعف عدده . وخلال سبع سنوات (633 ـ 640م) أصبحت كل الشام تحت الحكم الإسلامي ، من البحر الأحمر حتى جبال طوروس [4] .
واستطاع قائد آخر هو عمرو بن العاص أن يفتح مصر ، المقاطعة البيزنطية الشقيقة ، عام 20هـ/641م. وكانت مصر تمثل مخزن قمح الامبراطورية الرومانية الشرقية ، وأغنى ممتلكاتها . إذ كانت مصر نقطة انطلاق لبقية النفوذ البيزنطي في شمال أفريقيا لينتهي في صقلية وإسبانيا
العلاقات الاسلامية الاوربية في التاريخ
إسبانيا
تقدمت الفتوحات الاسلامية بسرعة فائقة ، حتى قيل أن العرب فتحوا نصف العالم في نصف قرن ، أو مقولة نابليون أن العرب فتحوا في 90 عاماً ما فتحه الرومان في 900 عام . وبعد مصر وأفريقيا(تونس) اتجهت الجيوش الإسلامية غرباً لتحرر شمال أفريقيا بكامله إلى وصلت على ضفاف الأطلسي . وأصبحت القيروان ، في تونس، مركز قيادة موسى بن نصير وجنوده من البربر الذين اعتنقوا الإسلام وساهموا في نشره في تلك المنطقة . في عام 92هـ/711م أرسل موسى أحد قواده الأشداء ، طارق بن زياد ، على رأس قوة مؤلفة من 700 جندي ليعبروا البحر باتجاه الساحل الإسباني [1] . وكانت القوة قد عبرت مضيق جبل طارق بمراكب أرسلها الحاكم البيزنطي جوليان Julianلمدينة سيوتا Ceuta، وكان الحاكم في صراع مع الملك القوطي رودريك Roderick [2]، فاستنجد بالمسلمين لمساعدته ، فأمده موسى بقوة عسكرية من العرب والبربر . لقد استنجد جوليان بقوة أجنبية لمواجهة الملك رودريك . وكان يعتقد أنها قوات نجدة فقط ، ولكن قوات طارق بن زياد استمرت في تقدمها ، لتصبح نواة دولة مسلمة تحكم إسبانيا لمدة ثمانية قرون (711 ـ 1492م) [3] . وقد عزز موسى قوات طارق ، فجهز جيشاً من عشرة آلاف يقوده بنفسه . وعاد موسى بن نصير بالغنائم والأسرى ، ومن بينهم 400 أمير قوطي يلبسون التيجان والملابس الفاخرة . وهو اول مشهد يرى فيه المسلمون عائلة ملكية غربية في الأسر .
أسس المسلمون دولة عظيمة في الأندلس ، وكانت لديهم خطط للتوسع في العمق الأوربي . ففي عام 717 م ، أي بعد ست سنوات على دخولهم إسبانيا ، قام القائد عبد الرحمن الغافقي بحملة عسكرية ، إذ عبر جبال البرانس Pyreneesباتجاه فرنسا . وصل عبد الرحمن مقاطعة بوردو Bordeaux وتوقف بجوار تور Tours على مشهد من كنيسة سانت مارتن . St.Martin، وفي تشرين الأول 732م التقى جيش عبد الرحمن مع قوات تشارلس Charles، الذي لقب فيما بعد بمارتل Martel (أي المطرقة) . وكان شارل مارتل رئيس البلاط الفرنسي ، وجد شارلمان [4] . وقد خسر المسلمون في معركة بلاط الشهداء خسارة كبيرة ، واستشهد قائدهم. وفي الليل غادر الجنود المنطقة منسحبين إلى إسبانيا ، ولم يعد يفكر أحد بفتح فرنسا .
صقلية
كان بنو الأغلب يحكمون شمال أفريقيا في العصر العباسي . وكان حاكم القيروان زيادة الله (حكم 817 ـ 838 م) قد تلقى طلباً من مجموعة من الثوار على الحكم البيزنطي لصقلية Sicily وسرقوسة Syracuse، فأرسل حملة بحرية تمكنت من فتح باليرمو Palermo عاصمة الجزيرة . وتقدم الجيش الإسلامي ليحكم سيطرته على بقية أنحاء الجزيرة ، ولتبقى 240 عاماً بأيدي المسلمين . وأصبحت صقلية أكبر قاعدة بحرية للأسطول الإسلامي في البحر المتوسط . وامتد تأثير المسلمين ليس إلى الأطراف الجنوبية لإيطاليا فحسب ، بل وصل التهديد إلى نابولي Naples وبقية المدن الشمالية ، وحتى روما نفسها تعرضت للتهديد عام 846 م .
وفي عام 1071 سقطت باليرمو بأيدي الفاتحين النورمان Norman، وعادت صقلية مرة أخرى للنفوذ المسيحي . وكان النورمان قبائل غير متحضرة ، ولذلك أبقوا على الإدارة والتنظيمات القانونية التي أقامها المسلمون ، وحتى الموظفين المسلمين بقوا يزاولون أعمالهم في الكتابة والترجمة والحسابات والرسائل . وقد أحاط الملوك النورمان أنفسهم بالعلماء المسلمين من فلكيين وأطباء وفلاسفة . وقد كتب الجغرافي المسلم الإدريسي (ت 1166م) كتابه المعروف (كتاب روجر) بناءً على طلب الملك روجر Roger [1] .
لقد مثلت إسبانيا وصقلية جسراً عبرت عليه الثقافة الإسلامية فكراً وعلماً وفلسفة إلى أوربا . ومن خلالهما وصلت كتب العلماء والفلاسفة المسلمين إلى المراكز العلمية الأوربية بعد ترجمتها إلى اللغات الأوربية . وبقيت بعض الكتب العربية مراجعاً لعدة قرون في أوربا ، مثل كتاب (القانون) لابن سينا الذي طبع 30 طبعة لاتينية في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الخامس عشر . وكتاب الزهراوي في الطب بقي مرجعاً في مدارس الطب مثل مدرسة Salerno في إيطاليا ومدرسة Montpeller في فرنسا . وكان مزيناً بالصور مما يدل على خبرة الزهراوي بالتشريح وتقنيته وآلاته . وكان كتاب الكيمياء لجابر بن حيان وجداول الخوارزمي الفلكية مراجع معتمدة في هذه العلوم . وكان لابن رشد Averroes ه( 1126 ـ 1198م) دور في الفلسفة الأوربية . فقد اطلع الأوربيون على آراء أرسطو من خلال تعليقاته والنصوص التي يوردها في مقالاته . وكان للمدرسة الرشدية Averroism تأثير كبير في الأوساط الفكرية والعلمية الأوربية ، وهيمنت على جامعات باريس ونابولي . وقد درس توما الإكويني AquinasThomas (ت 1274) الإيطالي رائد الفلسفة في جامعة نابولي . ودرس روجر بيكون Bacon Roger (ت 1294) الإنجليزي في جامعة باريس . ويعد بيكون رائد المنهج التجريبي في الفكر
العلاقات في العصور الأولى (Middle Ages)
كانت الكراهية والعداء هما الملامح البارزة التي هيمنت على العلاقات بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي . وخلال قرون نشأت مصالح مشتركة بين العالم الإسلامي وأوربا . وكانت التجارة المحور الرئيس للنشاط الاقتصادي في تلك المرحلة . فكانت حركة الاستيراد والتصدير على أوجها لنقل المنتجات والبضائع في أرجاء العالم ، من الصين شرقاً إلى إسبانيا غرباً ، تعبر القوافل التجارية الصحارى والجبال وتمر بمختلف الدول والأمم والشعوب ، وتمخر السفن عباب البحار من أجل إيصال بضائعها ، متحملة الأهوال والمخاطر .وكان لهذه النشاطات التجارية دور في نشوء علاقات بين الملوك والأمراء والسلاطين والشعوب . فكان التجار ورجالهم يرحلون من بلد إلى بلد ، ويقيمون في هذه المدينة وتلك من أجل تجارتهم . واستمرار التجارة والنقل والسفر يحتاج إلى اتفاقيات سلم ومعاهدات تسمح بالمرور والإقامة وتنظيم الضرائب على القوافل والسفن . فكان الحكام يقومون بهذه المعاهدات لتشجيع التجارة وما تجلبه من خير ودخل للحاكم .
بالإضافة إلى التجارة ، كانت هناك أنواع أخرى من الارتباطات ، فكانت هناك علاقات ثقافية ودبلوماسية وسياحة وحج وسفر طلباً للعلم وغيره . في عام 765م أرسل ملك فرنسا Pippin بعثة دبلوماسية إلى الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور . عادت البعثة بعد ثلاث سنوات ترافقها سفارة عباسية مع هدايا من الخليفة . إستقبل الملك (ببين) المبعوثين المسلمين باحترام وحفاوة ، ثم أذن لهم بالعودة عن طريق مرسيليا Marseilles [1]. وفي عهد هارون الرشيد (حكم 786 ـ 809م) وولده المأمون (حكم 813 ـ 833م) شهدت العلاقات مع أوربا ذروتها . فقد غدت بغداد عاصمة دولية للتجارة ومركزاً صناعياً . وكانت ثروات البلاط العباسي تزداد غنىً ، من الجزية السنوية التي يدفعها امبراطور بيزنطة ، إثر انتصار هارون عليه في وقت مبكر . وكان الرشيد والمأمون يتبادلان الهدايا مع شارلمان Charlemagne، الذي غدا حليفاً أوربياً جيداً ضد الدولة الأموية في الأندلس .
يصف أحد المؤرخين الفارق الشاسع بين البلاطين العباسي والفرنسي فيقول: «كان شارلمان ومساعدوه يواجهون مصاعب في القراءة والكتابة ، في حين كان البلاط العباسي يعجّ بالشعراء والكتّاب والعلماء والفقهاء والموسيقيين والمغنين . وكان بينهم عدد من المترجمين الذين يجيدون عدة لغات أجنبية» [2]. وكانت هناك رسائل متبادلة بين الملوك ، وقد ذكرت التواريخ بعض هذه الرسائل . فكانت تتضمن شتى المواضيع والشؤون كالاتفاقيات السلمية ، وتهديدات بشن الحرب ، ودعوة للإسلام ، وجدل ديني حول الألوهية والنبوة ، وطلب كتب أو شراء عبيد ، وتبادل أسرى أو معاهدات تجارية . وكانت العلاقات تعتمد كلياً على طبيعة مواقف الحكام وأمزجتهم ومصالحهم ، والظروف التي تمر بها الدول ، والاستقرار والأمن على الحدود .
وقد أرسل شارلمان ملك فرنسا وابن ببين ، عدة بعثات إلى الشرق ، إثنتين منها إلى هارون الرشيد عامي 797 و802 م. أما العداء مع بيزنطة فقد كان قاسماً مشتركاً بين الدولة العباسية وأوربا الرومانية. وفي العصر العباسي ساءت العلاقات مع بيزنطة في فترات متلاحقة . ففي عام 782م شن الخليفة المهدي (حكم 775 ـ 805م) حملة عسكرية على القسطنطينية ، أدت إلى توقيع معاهدة مهينة للروم البيزنطيين ، إذ تضمنت أن تدفع الإمبراطورة إيرينا Irene جزية سنوية مقدارها 70 ألف درهم . وحاول خليفتها الإمبراطور نقفور الأول Nicephorus (802 ـ 811م) أن يتخلص من هذا الالتزام المالي الباهض ، وطالب الرشيد بإعادة ما دفع من مبالغ . وأرسل رسالة ذات لهجة حادة إلى هارون جاء فيها :
من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب .
أما بعد : فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ ، وأقامت نفسها مقام البيدق ، فحملت إليك من أموالها ما كنتَ حقيقاً بحمل أضعافه لها ، ولكن ذلك ضعف النساء وحمقهن . فإذا قرأت كتابي هذا أردد ما حصل لك من أموالها ، وإلا فالسيف بيننا وبينك [3] .
غضب الرشيد كثيراً من تهديد نقفور ، فكتب له جواباً جاء فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم
من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم ، وقد قرأت كتابك يا ابن الكافرة ، والجواب ما تراه لا ما تسمعه [4] . فشن حملة عسكرية هاجم فيها آسيا الصغرى ومدينة هرقلية Heraclea على البحر الأسود ، فاحتلها وسبى أهلها . ثم عقد صلحاً مع نقفور مع دفع جزية سنوية ، وجزية شخصية عن نقفور وعائلته [5] . وخلال الهجوم الإسلامي ، اُسرت إحدى الفتيات الروميات ، وكانت خطيبة لابن الامبراطور نقفور ، فأرسل رسالة إلى الرشيد راجياً إياه أن يعيدها ، فلبى الرشيد طلبه وأرسلها له مع هدايا [6] .
ولم تكن العلاقات متوترة طوال الوقت ، بل تخللتها فترات من الهدوء والاستقرار والأمن ، وكانت الدولة الإسلامية تمارس وظيفتها في الدعوة إلى الإسلام وتبليغ مبادئه وأحكامه إلى الناس كافة . فكتب التاريخ تنقل بعض هذه الجهود ، سواء بالسفارات أو بالرسائل . فقد أرسل هارون الرشيد رسالة طويلة ، كتبها الفقيه إبن الليث ، إلى الامبراطور قسطنطين Constantine يشرح فيها عقائد الإسلام بأدلة عقلية ، وتاريخ الإسلام ، واحتجاجات ومناقشات دينية حول صحة نبوة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وتفنيد العقيدة المسيحية ، ويحبذ له دخول الإسلام ونتائجه وعواقبه [7] . وأرسل المأمون رسالة إلى الامبراطور ثيوفيل Theofel يعلمه فيها بقبول الهدنة بين الدولتين ، والتي تضمنتها رسالة الامبراطور إليه .
ومن القضايا الإنسانية الشائعة بين الدولتين ، هي تبادل الأسرى . وتحتاج عمليات التبادل إلى مفاوضات واتفاقيات يتم فيها تثبيت أعداد الأسرى من كلا الطرفين ، ومواعيد التسليم ، ومكان التبادل ، الذي يكون غالباً عند الحدود ، ويشرف عليها حكام المقاطعات الحدودية . في عام 283هـ/896م ، مثلا; حدثت عملية تبادل أسرى بين الامبراطوريتين العباسية والبيزنطية ، بإشراف حاكم طرسوس ، أحمد بن طغان ، والذي أرسل رسالة إلى الخليفة المعتضد يخبره فيها بنجاح المهمة التي أوكلت إليه . وقد استغرقت العملية إثني عشر يوماً تم فيها استرجاع 2504 أسيراً مسلماً من رجال ونساء وأطفال . وفي اليوم التالي تم إطلاق سراح المبعوث الرومي سيمون ، وأطلق الروم سراح المبعوث العباسي يحيى بن عبد الباقي [8] .
ولا يقتصر تبادل العلاقات مع أوربا على العصر العباسي ، بل كان للدول الإسلامية عبر التاريخ علاقات واسعة معها ، كالدولة الإخشيدية والطولونية والفاطمية والأيوبية والمملوكية .
مرحلة الحروب الصليبية
تمثل المرحلة الصليبية فترة مظلمة في تاريخ العلاقات بين أوربا والعالم الإسلامي ، مرحلة مليئة بالعنف والحروب والنهب والمذابح الوحشية وتدمير المدن ، وتصاعد الحقد والكراهية وعدم الاستقرار . من جانب آخر كانت مناسبة لاكتشاف كل طرف الطرف الآخر عن قرب ، وعبر التعامل المباشر . يعلق الباحث نورمان دانييل Norman Daniel على المزاعم المسيحية فيقول : «لقد اعتبر المسيحيون الحروب الصليبية حرباً مقدسة War Holy من أجل انتزاع الأرض التي تعود للمسيحيين . ولا زالوا يعتقدون بأنهم الأمة الوحيدة التي نهب منها ثلث أفضل ممتلكات الكنيسة بعد ظهور الإسلام» [1].
بدأت الخطوة الأولى من الحروب الصليبية ، عندما وجه الإمبراطور البيزنطي الكسيوس كومونيس Communes Alexius (حكم 1081 ـ 1118م) نداءات متكررة طالباً مساعدة بابوية لمواجهة احتلال الأتراك السلاجقة جزءاً من أراضي الإمبراطورية، ليس بعيداً عن العاصمة القسطنطينية. ورداً على استغاثته ، ألقى البابا أوربان الثاني II Urban (1088 ـ 1099م) خطاباً في عام 1095 ، جنوب فرنسا ، قريباً من الحدود الإسلامية لإسبانيا . وكان خطابه مليئاً بالإشاعات عن وحشية المسلمين وفظاعتهم ، ملمحاً إلى الأطماع الشخصية ومؤكداً على أتباعه «في دخول الطريق إلى الضريح المقدس ، وانتزاعه من العنصر الشرير ، ووضعه بأيديهم» [2]. ورفع شعاراً دينياً يبرر الحملات المرتقبة ويشجع الناس عليه ، فكان شعار (هذه مشيئة الله) هو القادر على تعبئة الجماهير . وسرعان ما انتشرت دعوة البابا مثل النار في الهشيم من فرنسا إلى بقية الأوربيين ، غني وفقير ، شاب وكهل . فقد تبنى التبشير بالحركة الصليبية بطرس الناسك الذي كان يتمتع بالفصاحة والقدرة على التأثير ، فطاف أقاليم فرنسا ليخرج منها بخمسة عشر ألف متطوع معهم نساؤهم وأطفالهم .
وبحلول عام 1097 كان هناك 000ر150 محارب صليبي قد وصلوا القسطنطينية ، معظمهم قدم من فرنسا والنورمان
وهناك عدة أسباب داخلية وخارجية مهدت الأجواء لتنامي الحملات الصليبية وهي :
1 ـ يدعي الباحث أرنست باركر Barker Ernest أن السلاجقة قد احتلوا القدس عام 1071 ، وهم قوم قساة ، لا يعرفون التسامح مثل الحكام المسلمين السابقين ، أي الفاطميين . فكان المسيحيون يواجهون صعوبات كثيرة أثناء رحلتهم إلى حج القدس [3] . «فأدرك المسيحيون في الغرب ما يعترض طريقهم ، ويمنع حركتهم الطبيعية نحو منبع ديانتهم ، فكان من الطبيعي أنه لا بد لهم آخر الأمر أن يبذلوا جهدهم في تمهيد طريقهم».
وهذا السبب الذي يعرضه باركر مبالغ فيه لأن طريق القدس بقي مفتوحاً أمام المسيحيين في كل العصور ، وحتى في المرحلة الصليبية وما بعدها مما يشير إلى التسامح الإسلامي الفريد من نوعه . ومتناسياً أنه عام 1021 م أصبح الإشراف على الأماكن المقدسة ، مثل كنيسة القيامة وبيت لحم والمؤسسات الملحقة بها كالمستشفى والمدرسة ، من قبل الإمبراطورية البيزنطية ، بعد أن كانت حتى ذلك الوقت برعاية الكنيسة اللاتينية الرومانية . ويعترف باركر أن «البيزنطيين لم يحرصوا على أن يجعلوا طريق الحجاج هيناً سهلاً . وكان لزاماً على البابا فكتور الثاني أن يجأر بالشكوى إلى الإمبراطورة تيودورا ، بسبب ما لجأ إليه موظفوها من ابتزاز الحجاج وإهانتهم» [4].
2 ـ إن البحث عن وسائل جديدة مباشرة للاتصال بطرق التجارة الشرقية ، يعتبر من الأغراض التي انطوت عليها الحروب الصليبية ذاتها . وأدت إلى ما يصح تسميته اكتشاف آسيا في القرن الثالث عشر [5] .
فالمدن الإيطالية التي اشتهرت بتجارتها كانت تبحث عن طرق مباشرة لشراء المنتجات الشرقية من الهند والصين ، دون وساطة العرب المسلمين . فالطرق البحرية كانت غالية ومحفوفة بالمخاطر .
3 ـ كان الأمراء الأوربيون يبحثون عن ثروات وأراض جديدة . فكانت الأطماع متوجهة نحو الشرق ، حيث الكنوز والثراء والتجارة والذهب والحرير والجواري . فهذه الأحلام لعبت دوراً في تأجيج الحماسة .
4 ـ كان الناس العاديون في أوربا يعيشون في أوضاع مزرية من الفقر وتكرر المجاعات والأوبئة التي فتكت بعشرات الآلاف . ففي عام 1094 إنتشر الطاعون من الفلاندرز Flanders إلى بوهيميا Bohemia. وفي عام 1095 حدثت مجاعة في منطقة اللورين Lauren بفرنسا . وتعرضت الكثير من الأراضي الزراعية للخراب نتيجة غزوات الفايكنغ والبرابرة ، فقلّت الأقوات في الوقت الذي ازدادت أعداد السكان . ثم أن الحروب والمنازعات بين الأمراء والإقطاعيين أسهمت في الإخلال بالأمن وتعريض أرواح الناس للهلاك وممتلكاتهم للنهب ، مما جعل الغالبية العظمى من أهالي غرب أوربا يعيشون في حالة يرثى لها من الفقر والحرمان والخوف ، دون أن يجدوا أي ضمان لحماية أرواحهم وممتلكاتهم وأرزاقهم [6] .
فاعتقد هؤلاء البسطاء أن مشاكلهم ستحل بهجرتهم إلى الشرق . ففي عام 1096 نجح الصليبيون بتجنيد خمسة جيوش من هؤلاء المعدمين .
5 ـ كان هناك عدد كبير من المغامرين ، المفلسين مثل الزعيم الصليبي والتر المفلس ، وقطاع الطرق ، والعبيد الهاربين والرهبان المستائين. لقد كانت هناك دوافع كثيرة للبحث عن مناجم الذهب الموعودة في الشرق .
وعلى الرغم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
baconecdz
baconecdz


مدير المنتدى : خالد khaled
مدير المنتدى : خالد khaled


الجنس الجنس : ذكر
هوايتي : الرياضة
مسآهمآتے مسآهمآتے : 11463
التقييم التقييم : 368

محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق Empty
مُساهمةموضوع: رد: محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق   محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق Emptyالإثنين 11 مارس 2013 - 20:19

من أن الجنود الأوربيين كان يحملون علامات الصليب ، دليلاً على الدافع الديني للحملات الصليبية ، لكن الدين كان آخر سبب وراءها . فخلال عبورهم هنغاريا ثم أراضي الدولة البيزنطية ، نسيت الجموع أنهم يخترقون بلاداً مسيحية ، فأخذوا ينهبون ويسلبون ويعتدون على الأهالي الآمنين [7] . وأثناء انتظارهم العبور إلى الجانب الآسيوي من الإمبراطورية البيزنطية ، كان تجمع الصليبيين أمام أسوار القسطنطينية يثير مخاوف الدولة ومتاعبها ، إذ أخذ الصليبيون يواصلون نهب القرى والضياع المجاورة ، ويعتدون على الأهالي ويسلبونهم أقواتهم وأمتعتهم ، بل أن الكنائس لم تسلم من إعتداءات أولئك الرعاع [8]. فأسرع الإمبراطور الكسيوس إلى نقلهم إلى الشاطئ الآخر . واستمر ذلك السلوك الوحشي بمهاجمة القرى المسيحية والمزارع والمواشي والكنائس [9] .
وعندما احتل الصليبيون مدينة القدس ، لم يرحموا أحداً «وحتى إخوانهم في الدين لم يوفروهم ، وكان من أول ما اتخذوه من تدابير أنهم طردوا من كنيسة القيامة جميع الكهنة من الكنيسة الشرقية ، روماً وجيورجيين وأرمنيين وأقباطاً وسرياناً ، والذي كانوا يقيمون القداسات معاً تبعاً لمذهب كان جميع الفاتحين قد احترموه حتى ذلك الحين .وإذ ذهل وجهاء الطوائف المسيحية أمام هذا القدر من التعصب ، فقد عزموا على المقاومة ، ورفضوا أن يكشفوا للمحتل عن المكان الذي خبأوا فيه الصليب الحقيقي الذي مات عليه المسيح .وإذ قبض الأوربيون على الكهنة المكلفين بحراسة الصليب ، وأخضعوهم للتعذيب فقد تمكنوا من انتزاع سرهم والحصول منهم بالقوة على أغلى ما يملكون من ذخائر» [10].
وقد ذبح الصليبيون آلاف المدنيين الأبرياء من سكان القدس دون سبب ، فقط لمجرد الإنتقام من المسلمين. ففي يوم 15 تموز 1099 دخل الصليبيون المدينة المقدسة وارتكبوا مذابح فظيعة . يصف أحد المؤرخين اللاتينيين المشاهد المريعة فيقول «كانت أكداس الرؤوس والأيدي ترى من بعيد في الساحات والشوارع» [11].
ويصف مؤرخ آخر ذلك اليوم العصيب فيقول «ولا يزال النازحون يرتجفون كلما تحدثوا بذلك وتجمد أبصارهم وكأنهم لا يزالون يرون بأعينهم أولئك المقاتلين الشُّقر المدرعين المعتمرين الخُوَذ وقد انتشروا في الشوارع شاهرين سيوفهم ، ذابحين الرجال والنساء والأطفال ، ناهبين البيوت ، مخربين المساجد . وعندما توقفت المذبحة بعد يومين لم يكن قد بقي مسلم واحد داخل الأسوار . فقد انتهز بعضهم فرصة الهرج فانسلوا إلى الخارج من الأبواب التي كان المحاصِرون قد خلعوها . وأما الآخرون فكانوا مطروحين بالآلاف في مناقع الدم عند أعتاب مساكنهم أو بجوار المساجد ، وكان بينهم عدد كبير من الأئمة والعلماء والزهاد المتصوفين الذين كانوا قد غادروا بلادهم وجاؤوا يقضون بقية أيامهم في عزلة في هذه الأماكن المقدسة . ولقد أُكرِه من بقوا على قيد الحياة على القيام بأشق الأعمال : أن يحملوا جثث ذويهم فوق ظهورهم ويكدسوها بلا قبور في الأراضي البور ثم يحرقوها قبل أن يُذبحوا بدورهم أو يباعوا في أسواق النخاسة» [12].
أما المؤرخ والدبلوماسي المسلم أسامة بن منقذ (488 ـ 584 هـ /1091 ـ 1188م) الذي عاصر الحروب الصليبية ، فقد كتب في مذكراته عن تلك الأحداث ووصف تفاصيلها . فكان قد شاهد الأحداث عن قرب لأنه كان كاتباً (سكرتيراً) لدى صلاح الدين الأيوبي [13] . وأورد إبن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) بعض جرائم الصليبيين ، إذ ينقل الحادثة التالية التي تعبر عن الوحشية والقسوة . فقد هاجم الصليبيون مدينة المعرة في سوريا ، «وعند الفجر وصل الفرنج ، إنها المذبحة ، فوضع الفرنج فيهم السيف ثلاثة أيام فقتلوا ما يزيد على مائة ألف وسَبَوا السبي الكثير» [14]. ويصف أحد المؤرخين الصليبيين ، راول دي كين ، المرافق للجيش الذي دخل المعرة فيقول «كان جماعتنا في المعرة يغلون وثنيين بالغين في القدور ، ويشكون الأولاد في سفافيد ويلتهمونهم مشويين» [15].
ويرى أرنست باركر أن الحروب الصليبية ، أصلاً ، مشروع فرنسي . فقد زرعت بذورها في أرض فرنسية ، بلدة كليرمون Clermonte، وكان أول مبشر بها هـو بابا فرنسي الأصل ، أوربان الثاني . وأنها والمملكة التي أقامها الصليبيون في الشرق كانت في جـوهـرها مملكـة فرنسية ، في لغتها وعاداتها ، وفي فضائلها ورذائلها [16] . ولعل ما يؤيد ذلك أن العرب كانوا يسمونهم بالفرنجـة ، وهـو لقب يخص الفرنسيين ، ولكـن استخدامـه يعم كل الغربيين . من جانب آخـر لا تتحدث المراجع العربية عن (حروب صليبية) بل عن حروب وغزوات ضد الفرنجـة . إن مصطلـح (صليبي) هـو ما أطلقه الأوربيـون على أنفسهم في تلـك الفتـرة ، لإسباغ البعد الديني على حروبهم ، ويمثل الصليب المسيحية ، إذ صار شعاراً لها .
رغم المقاومة التي أبداها المسلمون في الدفاع عن أنفسهم ، إلا أن الحركة الحقيقية بدأت بعد قرن ونصف من وصول الصليبيين . فقد تمكن زنكي ، وهو تركي يحكم الموصل ، عام 1144 م أن يستعيد مدينة الرها Edessa. وأكمل إبنه نور الدين حركة التحرير ، إنطلاقاً من عاصمته دمشق . إذ بدأ بعمليات عسكرية ومناوشات ضد القوات الصليبية . وبلغت المقاومة الإسلامية ذروتها حين وصل صلاح الدين إلى عرش مصر بعد الفاطميين . إذ استطاع صلاح الدين أن يوحد مصر وسوريا تحت هيمنته ، فوضع الصليبيين بين حجري الرحى ، سوريا شمالاً وغرباً ، ومصر جنوباً وغرباً . وحقق صلاح الدين إنتصاراً كبيراً في معركة حطين في 4 تموز 1187 م ، حين هزم الملك الصليبي غي دو لوزينيان Guy de Lusignan، ملك القدس ، وتمزق جيشه البالغ 000ر20 محارب ، ووقع الملك أسيراً . ودخل صلاح الدين القدس دون مقاومة ، فأكرم الأسرى وأطلق سراحهم ، وعامل المسيحيين بالإحسان والتسامح.
بعد فشل الحروب الصليبية ، بقي الأوربيون يبحثون عن أرض جديدة قادرة على استيعاب طموحاتهم وأطماعهم . فبدأت حركة استكشافات جغرافية واسعة . لقد كانوا يبحثون عن خيار آخر غير أوربا التي ضاقت بهم ، وضاقت إمكاناتها فأصبحت الحروب هي لغة التعامل في التنازع على الثروات والموارد الطبيعية والأراضي . أصبح البحث عن أرض جديدة بمثابة الحل الأمثل للمشاكل التي تعانيها القارة الأوربية ، الصراعات السياسية ، الأزمات الإقتصادية ، الخلافات المذهبية والإضطهاد الديني . في عام 1492 م تم اكتشاف أميركا ، واكتشفت أستراليا عام 1606 م فكانتا الحل الذي انتظره الأوربيون قروناً . فأخذت موجات المهاجرين تتدفق على الأرض الجديدة ، لكنهم لم يجدوا حضارة مزدهرة كما في الشرق ، بل قبائل بدائية وشعوباً متأخرة ، سرعان ما أبادوها ، وليقيموا فيها إلى الأبد
العلاقات في الفترة الصليبية
بقي الصليبيون قرنين في الشرق الأوسط ، أسسوا فيها بضع دول ، يحيط بها المسلمون من أهل البلاد . وكان الصليبيون يحملون السمات الأوربية آنذاك من التأخر العلمي والجمود الفكري ، إضافة إلى فظاظة وقسوة واضحة ، فلم يكن لديهم ما يعطونه بقدر ما تعلموه من المسلمين . وعلى الرغم من أن الحضارة الإسلامية في القرن الثاني عشر قد فقدت بريقها وأبهتها ، ولكنها كانت ما تزال على مستوىً عال مقارنة بالوضع الأوربي . ولا يسع المجال للتطرق إلى تفاصيل التأثير الإسلامي على الغازين الصليبيين ، ولكن سنذكر بعضها . فعلى الصعيد العسكري تعلم الأوربيون استخدام الحمام لنقل البريد ، واستعمال النار لإعطاء إشارات ضوئية ليلاً والتخاطب عن بعد . وأصبحت زهرة الزنبق ، شعار الطبقة الأرستقراطية المسلمة ، من مظاهر النبلاء والأمراء الأوربيين . وتعلم الأوربيون استخدام السكر ، الذي كان ينتج بكميات كبيرة . وكانوا حتى ذلك الوقت يستخدمون العسل في الطعام والأدوية .
وأصبحت الألفاظ والكلمات العربية متداولة ، إذ وجدت طريقها إلى اللغات الأوربية إلى يومنا هذا . وهيأ الإتصال المباشر مع العرب المسلمين فرصة للأوربيين في التعرف إلى الأدب العربي والعادات والتقاليد . يقول المؤرخ توماس آرنولد : في القرن الثاني عشر ، جذب الإسلام الكثير من الصليبيين ، الذين إعتنقوه . ولم يقتصر ذلك على الناس العاديين ، بل الأمراء والقادة . ففي الليلة السابقة لمعركة حطين ، إعتنق الإسلام ستة أمراء من مملكة القدس ، والتحقوا بقوات العدو (المسلمين) ، دون إكراه [1] .
كانت الوضعية السياسية للمنطقة عبارة عن مجموعة من الإمارات الصغيرة ، المتداخلة الحدود ، بعضها يحكمها مسلمون والأخرى يحكمها مسيحيون . وكانت العلاقات بينها تتراوح بين التعاون والمصالح وبين التوتر والحروب . وكل حاكم أو أمير يرتبط بعلاقات مع جيرانه المسلمين والمسيحيين وفق ما تمليه مصالحه . فكانوا يعقدون معاهدات واتفاقيات تنظم شؤون العلاقات والتجارة والضرائب ومرور القوافل والحجاج والمسافرين . مثلاً ، سمح ريموند Raymond حاكم طرابلس الصليبي لقوات الملك الأفضل بالمرور في أراضيه لخوض حرب ضد عدوه . وكان رتشارد الأول I Richard على علاقة ودية مع الملك العادل .
لقد كان من الطبيعي أن تقوى العلاقات بين الأمراء والحكام المسلمين والمسيحيين معاً . وقد تصل العلاقات إلى مستوى التحالف العسكري بين المسلمين والصليبيين ، فتجد حلفاً يضم حكاماً مسلمين ومسيحيين يناوئ حلفاً آخر يضم أيضاً مسلمين وصليبيين . ففي عام 1115م أرسل السلطان السلجوقي محمد حملة لتأديب حكام حلب ودمشق الذين اتهمهم بقتل حاكم الموصل عشية الاستعداد للهجوم على الفرنج . «وعندما وصلت الحملة كانت تنتظرها مفاجأة ، فقد كان بغدوين Bagdwin ملك القدس الصليبي يقف إلى جانب طغتكين حاكم دمشق محاطين بعساكرهما وعساكر إنطاكية وحلب وطرابلس . فإذ كان أمراء الشام ، مسلمين وفرنجاً على السواء ، قد أحسوا بأنهم مهددون من قبل السلطان فقد قرروا أن يتحالفوا ، واضطر الجيش السلجوقي إلى الانسحاب بشكل مخجل بعد عدة اشهر . وعندها أقسم السلطان محمد بألا يهتم بالمشكلة الفرنجية . ولسوف يبر بقسمه» [2].
لقد بات من الأمور العادية أن يستعين الحاكم بقوة حاكم مجاور دون النظر إلى دينه ، مسيحي أم مسلم ، فالمهم هو أن ينجد الحاكم بقوة عسكرية لمواجهة وضع متأزم ، عصيان داخلي أو غزو من خارج الإمارة. ففي عام 1130م قتل بيمند الثانيBohemond II حاكم إنطاكية Antioch على يد غازي إبن الأمير دانشمند «وأرسل رأسه الأشقر محنطاً بعناية وموضوعاً في علبة من الفضة هدية إلى الخليفة العباسي في بغداد . وعندما وصل نبأ موته إلى إنطاكية نظمت أرملته (أليكس) إبنة بغدوين الثاني ، ملك القدس ، إنقلاباً حقيقياً . فتعاونت مع المسيحيين الشرقيين المقيمين في المدينة ، وأرسلت رسالة إلى زنكي الأتابكي تعرض فيه حلفاً ضد أبيها بالذات ، وتعده بالاعتراف بسلطانه المطلق . قبض أبوها على الرسول وعلى الحصان المهدى إلى زنكي ، ودخل إنطاكية بجيشه لإعادة الأمور إلى ما كانت ، بيد الصليبيين» [3].
يعلق أحد المؤرخين على هذا الموقف فيقول: «إنه لموقف غريب يعلن عن ولادة جيل جديد من الفرنج ، الجيل الثاني ، ليس بينه وبين رواد الغزو أي شيء مشترك . فإذ كانت الأميرة الشابة من أم أرمنية ، ولم تكن قد عرفت أوربا أبداً ، فإنها تشعر بأنها شرقية وتتصرف على هذا الأساس» [4].
وكانت الكنيسة الرومانية ترى أن هذه الوضعية مخالفة للتعاليم المسيحية «وأن الذين يتاجرون بالأمتعة الحربية مع المسلمين ، على الرغم من تحريم ذلك من قبل المجالس الكنسية ، يعتبرون أبناء شريرين للكنيسة ، وهم مسيحيون مزيفون ، يؤمنون بعقيدة الكنيسة الرومانية بالكلام فقط ، وينكرونها بأفعالهم» [5]. وتطرق وليم William of Adamإلى أنواع التعامل مع (الظالمين) الذين «يدمرون ميراث الرب» . ووضعت مقررات كنسية وصدرت أوامر بابوية تقيد التجارة بالمواد الحربية فأصبح ممنوعاً، التجارة بالسلاح ، الحديد ، الخشب وبناء السفن ، أو الإبحار نحو موانئ العدو في كل الأحوال . وأما المتاجرة بالأغذية وغيرها فتصبح ممنوعة في حالة الحرب فقط [6] . ومع ذلك بقيت التجارة مزدهرة مع المسلمين ، وبقيت الإتصالات غير التجارية جارية بين الجماعات المسيحية والعالم الإسلامي .
ولقد دهش الرحالة الأندلسي إبن جبير الذي كان يزور دمشق في تلك السنة ، 1183م حين كان صلاح الدين يستعد لمعركة حطين ، لرؤية القوافل تذهب وتجيء بيسر بين مصر ودمشق عبر بلاد الفرنج . وقد لاحظ أن للنصارى على المسلمين ضريبة يؤدون في بلادهم ، وهي من الأمَنَة على غاية . وتجار النصارى أيضاً يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم . والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال . وأهل الحرب مشتغلون بحربهم ، والناس في عافية» [7].
أما أهل الحرب فكان يملأهم الملل والتعب من حصار المدن والقلاع ، والمناوشات الحربية الدائمة . «وشيئاً فشيئاً قامت صيغة تعايش ، فكان فرسان الفرنج وأمراء المسلمين يتداعَون بين مناوشتين إلى مآدب ، ويتحادثون بدعة ، ويمارسون الألعاب معاً في بعض الأحيان كما يروي بهاء الدين : ذات يوم قرر الرجال من الفريقين ، وقد أتعبهم القتال أن ينظموا معركة بين الأولاد ، فخرج فَتَيان من المدينة لمقارعة فتيين من الكفار . وفي حمأة المصارعة وثب أحد الصبيين المسلمين على نظيره وطرحه أرضاً وأخذ بخناقه . وعندما رأى الفرنج أنه يوشك أن يقتله اقتربوا منه وقالوا له : دعه ! لقد صار حقاً أسيرك وسوف نفتديه منك . وأخذ دينارين وتركه» [8].
وكانت تجارة العبيد من التجارات المزدهرة في تلك العصور . وقد مارس المسلمون والمسيحيون هذه التجارة ، وكان العبيد من كل الأديان أيضاً ، مسلمين ومسيحيين ويهوداً . فأصحاب المزارع والملاك والأمراء كانوا يشترون العبيد للعمل في الأرض والزراعة وتربية المواشي . وكانت المصالح الذاتية هي الأساس في تعاملهم مع الواقع . وقد نشأت أعراف وتقاليد بعضها متعصب وبعيد عن التسامح ، مثلاً لا يستطيع أمير مسيحي طرد مسلم من أرضه دون سبب ، لا يؤذيه . من جانب آخر كان الحكام المسيحيون يمنعون المسيحي من العمل في منزل مسلم أو يهودي . وأن لا يعمل المسلمون واليهود في الوظائف العامة ، وعليهم أن يرتدوا ملابس معينة . وكانت لائحة كليمنتينا Clementinaeتمنع نداءات الصلاة أو الحج في الأراضي الخاضعة للسيطرة المسيحية .


عدل سابقا من قبل khaled في الإثنين 11 مارس 2013 - 20:24 عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
baconecdz
baconecdz


مدير المنتدى : خالد khaled
مدير المنتدى : خالد khaled


الجنس الجنس : ذكر
هوايتي : الرياضة
مسآهمآتے مسآهمآتے : 11463
التقييم التقييم : 368

محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق Empty
مُساهمةموضوع: رد: محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق   محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق Emptyالإثنين 11 مارس 2013 - 20:20

محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق ل م د (02)

الدبلوماسية الدولية في العصور الوسطى
كان للدولة الإخشيدية في مصر وسوريا علاقات وثيقة مع بيزنطة . وكان الاتصال الجغرافي المباشر بين مصر والدولة البيزنطية من ناحية الحدود الشمالية ، وتنافسهما البحري المستمر في شرقي البحر الأبيض المتوسط ، وعلاقاتهما التجارية الهامة ، مما يستوجب تنظيم العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين بصورة مرضية . ولم تكن الخلافة ببغداد بعيدة عن تحسين علاقاتها مع بيزنطة . في عام 326 هـ/936م أرسل القيصر رومانوس وشريكاه القيصران اسطفانوس وقسطنطين سفارة إلى الخليفة العباسي الراضي بالله . وكانت الرسالة مكتوبة بلغتين ، باللغة اليونانية بالذهب ، ومعها ترجمة عربية مكتوبة بالفضة ، جاء فيها: (بإسم الأب والإبن وروح القدس الإله الواحد ، الحمد لله ذي الفضل العظيم ، الرؤوف بعباده ، الجامع للمفترقات ، والمؤلف للأمم المختلفة في العداوة حتى يصيروا واحداً).
ثم يعرب القياصرة بعد ذلك عن رغبتهم في طلب الهدنة وعقد أواصر الصداقة مع المسلمين . فرد الخليفة عليهم بكتاب جاء فيه :
(من عبدالله أبي العباس الإمام الراضي بالله أمير المؤمنين إلى رومانس وقسطنطين واسطفانس رؤساء الروم . سلام على من اتبع الهدى ، وتمسك بالعروة الوثقى ، وسلك سبيل النجاة والزلفى ..) وفيه يجيبهم إلى ما طلبوا من عقد الهدنة والصداقة [1] .
وفي العام التالي أرسل القيصر رومانوس سفارة أخرى إلى الإخشيد أمير مصر . وتضمنت مؤاخذة دبلوماسية على الإخشيد ، إذ تضمن كتاب القيصر أنه تنازل لمكاتبة الإخشيد مباشرة ، لأن مقامه كقيصر الدولة الرومانية الشرقية يحتم عليه ألا يكاتب من هو دون الخليفة ، ولكنه مع ذلك قد خص الإخشيد بالمكاتبة لما نمى إليه من رفيع مكانته ، وحميد سيرته ، وموفور عدالته ورحمته .
وقد رد الإخشيد على كتاب القيصر بكتاب شهير من إنشاء كاتبه إبراهيم بن عبدالله البجيرمي ، وكان من أبرع كتاب عصره . ويعتبر هذا الرد وثيقة دبلوماسية من الطراز الأول تفيض إباءً وحزماً ، ويطبعها في نفس الوقت طابع بارع من اللباقة والمجاملة; ذلك أن الإخشيد لم يغضب لما وجهه إليه القيصر من عبارات المن والاستعلاء ، ولكنه بالعكس أكرم وفادة رسوليه ، وغمرهما بالتحف المختارة هدية إلى سيدهما ، وبذل لهما كل تسهيل ممكن لتحقيق مهمتهما التجارية . على أنه لم ينس في نفس الوقت أن يجيب القيصر على منه واستعلائه ، وأن يفند أقواله فيما زعمه من تفضله بمكاتبته . وجاء في الجواب :
(وأما ما وصفته من ارتفاع محلك عن مرتبة من هو دون الخليفة في المكاتبة لما يقتضيه عظم ملككم ، وأنه الملك القديم الموهوب من الله ، الباقي على الدهر ، وأنك إنما خصصتنا بالمكاتبة لما تحققته من حالنا عندك ، فإن ذلك لو كان حقاً ، وكانت منزلتنا كما ذكرته تقصر عن منزلة من تكاتبه ، وكان لك في ترك مكاتبتنا غنم ورشد ، لكان من الأمر البين أن أحظى وأرشد وأولى بمن حل محلك أن يعمل بما فيه صلاح رعيته ، ولا يراه وصمة ولا نقيصة ولا عيباً ، ولا يقع في معاناة صغيرة تعقبها كبيرة ، فإن السائس الفاضل قد يركب الأخطار ويخوض الغمار ، ويعرض مهجته فيما ينفع رعيته ، والذي تجشمته من مكاتبتنا إن كان كما وصفته ، فهو أمر سهل يسير ، لأمر عظيم خطير ..) . وأما عن مطالب القيصر فإن الإخشيد يجيبه عما طلب من تنظيم الفداء وتبادل الأسرى ، ويشكر القيصر على عنايته بالأسرى المسلمين ، وما يلقونه من المعاملة الحسنة . ويبدي الإخشيد إستعداده لعقد الصداقة مع القيصر ، مشيراً إلى ذلك بقوله :
(وأما ما ابتدأتنا به من المواصلة ، واستشعرته لنا من المودة والمحبة ، فإن عندنا من مقابلة ذلك ما توجبه السياسة التي تجمعنا على اختلاف المذاهب ، وتقتضيه نسبة الشرف الذي يؤلفنا على تباين النحل) [2].
وتأثرت العلاقات بين البيزنطيين والفاطميين ببعض الحوادث والظروف السياسية التي أحاطت بها . فمن جانب كانت بيزنطة تشعر بالقلق من تزايد حركة السلاجقة في بغداد ، ومن جانب آخر حاولت القسطنطينية استغلال الصراع والتنافس بين الدولتين الإسلاميتين ، السلجوقية والفاطمية . ففي عام 446هـ/1053م عانت مصر من الوباء الذي امتد أعواماً ، ورافقته كالعادة مجاعة وغلاء وقحط ، فأرسل المستنصر بالله الفاطمي رسالة إلى إمبراطور القسطنطينية وهو قسطنطين التاسع IX Constantine، يطلب منه معونة اقتصادية وإرسال أغذية وغلال . وكانت الدولة البيزنطية تعاني إضطرابات داخلية، وتواجه تهديدات السلاجقة الذين كانوا من قبل قد اقتحموا بعض مدنها وأقاليمها ، حتى وصلوا حدود أرمينيا . فلبى قسطنطين الدعوة ، ووجدها فرصة لتقوية العلاقة مع مصر ، وتفادي نشاطها العسكري من الجنوب ومن البحر . وتم الاتفاق واُعدت شحنات المؤن لإرسالها إلى مصر ، لكن قسطنطين توفي قبل تنفيذ الإتفاق عام 1054 . فخلفته على عرش قسطنطينية الإمبراطورة تيودورا ، واشترطت لإرسال المؤن إلى مصر شروطاً رفضها المستنصر بالله ، ومنها أن يمدها بقوة عسكرية لعونها على مواجهة السلاجقة ومحاربة الخارجين عليها . فانقطعت المفاوضات بين الفريقين ، وغضب المستنصر ، وقرر إرسال حملة عسكرية إلى الحدود البيزنطية ، فانتصرت على الحدود البرية ، لكن الاُسطول البيزنطي غزا السواحل السورية ، وهزم المصريين ، وتم أسر القائد المسلم وجماعة كبيرة من الضباط والقادة ، فتوقف المستنصر عن مواصلة الحرب ، ولجأ إلى المهادنة والمفاوضة ، وأرسل سفيراً إلى البلاط البيزنطي سعياً لعقد الصلح وتنظيم العلاقات . وكان السفير هو القاضي أبو عبدالله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي الشافعي المصري . فوصل القسطنطينية عام 1055م ، وصلى في جامعها ، وخطب للخليفة [3].
تشير بعض المصادر التاريخية إلى وجود مسجد في القسطنطينية ، وهي ظاهرة تبدو غريبة في ذلك العصر المبكر . ولعل المسجد قد بني في القرن العاشر كي يقيم الرسل والتجار المسلمون الصلوات فيه . وكانت تقام فيه صلاة الجمعة ، ويخطب به للخليفة المسلم ، الصديق لبيزنطة ، فتارة يكون الخليفة العباسي وتارة الخليفة الفاطمي ، حسب الأوضاع السياسية . وفي عام 1027م قام الإمبراطور البيزنطي بتجديد بناء المسجد ، وقام بإصلاحه قسطنطين التاسع عام 1048م [4]. وقد يكون دار للضيافة للوفود الإسلامية ألحق به المسجد . وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن الخطبة في المسجد باسم الخليفة كانت ضمن عقد هدنة مع مصر; كما أن الملك الظاهر يرفع الحجر عن كنيسة القيامة ببيت المقدس ، يقوم القيصر بإصلاح المسجد [5].
في عام 1248 وصل ملك فرنسا لويس التاسع IX Louis (حكم 1226 ـ 1270 م) إلى الشرق للإشراف على حملة عسكرية جديدة على مصر ، والتي فشلت فيما بعد ووقع لويس أسيراً فيها في معركة المنصورة . وانتظاراً لفصل الربيع ، إستقر لويس في جزيرة قبرص للراحة قبل المباشرة بتحقيق الحلم الفرنسي . فبدأ سلسلة من النشاطات الدبلوماسية بما يخدم خطته : إبرام حلف مع المغول لوضع العالم الإسلامي بين فكي كماشة . ففي عام 1248م إستقبل وفداً مغولياً جاء للحصول على دعم غربي ، فلوح الوفد بإمكانية إعتناق المغول الديانة المسيحية ، فبادر إلى تزويد البعثة عند عودتها بالهدايا الدنيوية والدينية النفيسة إلى خان المغول [6]. فقد كان كلاهما ، المغول والصليبيون ، يبحثون عن حليف مناسب لمواجهة العدو المشترك ، الإسلام . وبقي التعاون بين المغول والصليبيين بسيطاً ، رغم اعتناق بعضهم المسيحية . ففي عام 1251 عاد المغول بموجة جديدة من الهجمات الوحشية يقودها ثلاثة إخوة من أحفاد جنكيزخان وهم مُنكا وكوبلاي وهولاكو . فأما الأول فعين عاهلاً غير مدافع للإمبراطورية وعاصمته كراكورم في منغوليا; وأما الثاني فحكم سعيداً في بكين; وأما الثالث فقد استقر في إيران ، وكان طامحاً في غزو الشرق الإسلامي بأسره حتى شواطئ المتوسط ، وربما حتى النيل . وكان هولاكو شخصية مركبة ، فمن الولع بالعلوم والفلسفة ومخالطة الأدباء ، إلى وحش دموي متعطش للدماء والدمار . ولا يقل سلوكه في موضوع الدين تناقضاً . فعلى الرغم من تأثره بالمسيحية ـ كانت أمه وزوجته الأثيرة وعدد من معاونيه ينتمون إلى الكنيسة النسطورية ـ فإنه لم يتخل قط عن الشمانية ديانة شعبه التقليدية .
في عام 1258م دخل هولاكو بغداد فاتحاً فأباد أهلها ، ودمر أسواقها ومدارسها ومكتباتها ، بعد أن اتفق مع أهلها على التسليم والإبقاء على حياتهم . فقتل في بغداد زهاء 000ر80 نسمة . ولم يسلم من الذبح سوى الطائفة المسيحية بناء على تدخل زوجة الخان [7].
واصل هولاكو مسيرته باتجاه الشام ليكمل فتوحاته ومذابحه . وكانت الأقلية المسيحية تتواجد في المدن السورية . ولما دخلت جيوش هولاكو ، كانت مواقف المسيحيين من فرنج وشرقيين مختلفة تجاه هولاكو : فالأرمن وقفوا بشخص ملكهم (هتهوم) في صف المغول ، كما وقف في صفهم صهره بيمند حاكم إنطاكية وهو فرنجي . والتزم فرنج عكا في المقابل وقفة حياد هو أميل إلى المسلمين . ولكن الشعور السائد في الشرق كما في الغرب هو أن الحملة المغولية نوع من حرب مقدسة تُشن على الإسلام وتمثل تتمة للحملات الفرنجية . وقد دعم هذا الشعور أن نائب هولاكو الرئيس في بلاد الشام ، القائد كيتبوكا ، وهو مسيحي نسطوري . وعندما أُخذت دمشق في أول آذار 1260 م ، كان الذين دخلوها ظافرين ، وسط استنكار العرب الشديد ، ثلاثة أمراء مسيحيين هم بيمند وهتهوم وكيتبوكا [8].
إعتمدت السياسة الخارجية الأوربية منهجاً براغماتياً ، إذ كانت تنتهز أية فرصة لتحقيق مصالحها ، وتتعامل مع الواقع السياسي من أجل تعبئة كل الجهود والإمكانيات من أجل مصالحها . في القرن السادس عشر عندما كانت الدولة العثمانية تمارس ضغطاً قوياً على أوربا ، بعد توسعها داخل القارة الأوربية ، والسيطرة على أقاليم أوربية واسعة ، فبادرت الدول الأوربية الأخرى إلى محاولة لتخفيف الضغط العثماني عنها ، وفتح جبهات أخرى على الدولة العثمانية ، كي تسحب جزءاً من قواتها في أوربا ، نحو تلك الجبهات . فكانت سياسة تحسين وتوثيق علاقات أوربا بمنافسي وأعداء العثمانيين ، أي مصر وإيران الصفوية .
فقد شهدت القاهرة وأصفهان حركة دبلوماسية غربية ، واستقبلت وفوداً وسفارات أوربية عديدة . كما شهدت البلاطات الأوربية سفراء مسلمين . ففي عام 1518 م أرسل الشاه عباس الصفوي مبعوثين إلى بولندا وهنغاريا . واستقبل البلاط الصفوي سفارة اسبانية عام 1529 من قبل تشارلس كونت إسبانيا ، إلى الشاه إسماعيل . وكانت رسالة الوفد الإسباني تتركز بالطلب من الشاه الصفوي إرسال قوة عسكرية إلى الحدود مع العثمانيين لممارسة ضغط عليهم ، من أجل سحب قسم من قواتهم المتواجدة في أوربا [9].
في تلك الفترة كانت لإيران علاقات جيدة مع أوربا ، فقد كانت هناك العديد من السفارات السياسية والمعاهدات الإقتصادية . ففي عام 1598م وصلت أول بعثة دبلوماسية إلى إيران ، تألفت من 27 عضواً برئاسة إثنين من النبلاء الإنجليز هما السير أنتوني شيرلي Shirly Anthony Sir وأخوه روبرت شيرلي RobertShirly. لقد كانت مهمتهما عسكرية هي تأسيس جيش فارسي حديث . وتمكنا من تجنيد وتدريب 000ر12 رجل مجهزين بالبنادق والمدافع الإنجليزية [10]. وفي عام 1600 كلف الشاه الصفوي ، السير أنتوني شيرلي بمهمة دبلوماسية ، إذ طلب منه ترؤس وفد إيراني يزور أوربا ، وإجراء إتصالات مع الحكومات والدول الأوربية . وضم الوفد حسين علي بيك وأربعين آخرين ، زار النمسا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا . واستغرقت البعثة سنتين نجحت خلالهما في ترسيخ أسس العلاقات السياسية مع أوربا . كما قابلت البابا في روما ، وشرحت له سياسة التحالف ضد العثمانيين ، فوعد البابا بالتعاون مقابل أن يمنح القساوسة والمبشرين الكاثوليك الإيرانيين حرية أكثر في نشاطاتهم [11]. وفي عام 1602 أرسل البابا كولمان الثامن VIII Colman بعثة أكليركية برئاسة بير جان تادي Pere Juan Tadiإلى البلاط الصفوي ، حيث استقبله الشاه الذي استلم الرسالة والهدايا . ثم سمح الشاه عباس ببناء كنيسة في أصفهان . وبقي الأسقف تادي عدة سنوات في فارس متمتعاً بضيافة الشاه .
وكان الأوربيون يتنافسون من أجل السيادة على منطقة الخليج ، فالتجار الهولنديون والألمان كانوا في منافسة حادة من أجل الهيمنة على السوق الإيراني ، والسيطرة على صناعة الحرير في إيران . وفي تلك الفترة حصل الألمان على امتياز لتصدير الحرير الإيراني إلى أوربا عبر الأراضي الروسية [12]. أغضب الإمتياز الهولنديين ، مما دعا ممثل شركة الهند الشرقية في المنطقة نيكولاس ياكوب أوفرشخل Nicholas Jacob Overschle إلى لقاء السفير الألماني في فارس ، أوتو برخمان Otto Brugmann، وأبلغه بأن التجارة الألمانية تهدد المصالح الهولندية ، لكن الألمان لم يعيروا أهمية للتحذير الهولندي . عندذاك بادر الهولنديون إلى رفع أسعار الحرير ، الأمر الذي سبب اضطراباً في الأسواق . وجد التجار الألمان الأسعار باهضة جداً ، بحيث أن شراءها يكلفهم غالياً ، إضافة إلى أنهم يجب أن يدفعوا ضرائب وجمارك . فلم يعد باستطاعتهم شراء الحرير ، فاضطروا إلى مغادرة إيران . بعد رحيل الألمان قام الهولنديون بتخفيض الأسعار مرة أخرى ، وليحتفظوا بهيمنتهم على الأسواق .
وجد الشاه في ممارسة الهولنديين خلقاً غير لائق ، فأصدر أمراً بأن يدفع الهولنديون الجمارك أيضاً . رفض الهولنديون دفع الضريبة . تطورت القضية واستمرت إلى عهد الشاه عباس الثاني . وفي عام 1645 هاجم الأسطول الهولندي جزيرة قشم وجزيرة هرمز وميناء بندر عباس ، من أجل إعاقة التجارة البريطانية في المنطقة . أثار الهجوم البحري قلق الشاه فطلب من الإدميرال نيكولاس بلوك Block Nicholas التفاوض وتسوية القضية . إتفق الطرفان ووقعا اتفاقية منحت الهولنديين إمتيازات أكبر [13].
في العصور الوسطى ، كانت العلاقات الخارجية تتركز على الصلات التقليدية والدينية ، إذ كان من الطبيعي ، وليس دائماً ، أن تكون الدول تسعى إلى التحالف مع نظيراتها في الدين والعقيدة ، فالمسلم يرغب بالمسلم ، والمسيحي يفضل المسيحي . ولكن ذلك لا يعني أنه لا توجد صراعات وحروب بين أتباع الدين الواحد ، وأن مصالحهم لا تتقاطع ، بل نريد الإشارة إلى أن العامل الديني يبقى دافعاً هاماً في السياسة الخارجية . في عام 1489 وخلال تقدم القوات المسيحية في العمق الإسباني جنوباً لإستعادة الأندلس من المسلمين ، أرسل الأمراء الأندلسيون عدة رسائل إلى الحكام المسلمين ، طالبين المساعدة للوقوف بوجه الهجوم المسيحي بقيادة الملك فرناندو Fernando. وكانت القاهرة قد استقبلت بعثة أندلسية طلبت مساعدة عسكرية لمواجهة القوات المسيحية المحيطة بغرناطة . يصف إبن إياس وصول السفارة إلى مصر بقوله : وفي ذي العقدة سنة 892هـ/ 1487م جاء قاصد من عند ملك المغرب صاحب الأندلس ، وعلى يد مكاتبة من مرسله تتضمن أن السلطان يرسل له تجريدة تعينه على قتال الفرنج ، فإنهم أشرفوا على أخذ غرناطة وهو في المحاصرة معهم [14]. في ذلك الوقت كانت علاقات مصر المملوكية جيدة مع الدول الأوربية . قرر الملك الأشرف قايتباي المحمودي الظاهري تكليف رعاياه المسيحيين في القدس للتوسط بالأمر . فبعث برسالة إلى القساوسة في كنيسة القيامة طالباً منهم «أن يرسلوا كتاباً على يد قسيس من أعيانهم إلى ملك الفرنج صاحب نابل (نابولي الإيطالية) ، بأن يكاتب صاحب أشبيلية (الإسباني المسيحي) بأن يحل عن أهل مدينة غرناطة ويرحل عنهم» [15]، وإلا يقوم السلطان بإلقاء القبض على المسيحيين المقيمين في القدس وأشرافهم ، ويمنع الأوربيين من دخول القدس ، بل ويهدمها . فلبى القساوسة الأمر ، وراسلوا حاكم نابولي ، لكن لم تثمر شيئاً ، إذ دخل فرناندو غرناطة وسقطت آخر مدينة أندلسية مسلمة
ولم يكن موقف العثمانيين أفضل من موقف مصر التي اكتفت بالتهديد والوعيد . فقد راسل الأندلسيون السلطان العثماني بايزيد الثاني طلباً للعون ، فاتصل بمصر وعقدا هدنة مؤقتة ، تنهي الحروب والعداوات بين الدولتين المسلمتين ، ووضعا خطة مشتركة بإرسال أسطول قوي لغزو صقلية التي كانت يومئذ من أملاك إسبانيا ليشغل بذلك اهتمام إيزابيلا وفرناندو ، وأن تبعث قوات برية من مصر وأفريقية ، تعبر مضيق جبل طارق إلى الأندلس لمساعدة جيوشها [16]. وبقيت الخطة مجرد حبر على ورق ، وتهاون العثمانيون في إنقاذ الأندلس في الوقت الذي كانت لديهم قوات كبيرة في أوربا ، ويجوب أسطولهم البحر المتوسط . فضاعت الأندلس بسبب تقاعس المسلمين وتهاونهم واستفحال العداوة والتجزئة بينهم .
يقع شمال أفريقيا على الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط فيما تحتل أوربا الشاطئ الشمالي منه . هذا الوضع الجغرافي أتاح الفرصة لإقامة علاقات مباشرة ومستمرة مع أوربا . وكان للبلاط المغربي خبرة طويلة في العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأوربية . في عام 1610 وصل الشيخ أحمد بن قاسم الحجري إلى باريس ، في مهمة خاصة . فقد تعرضت الطائفة المورسكية ، التي كانت تقيم في إسبانيا بعد سقوطها بأيدي المسيحيين ، للنهب من قبل أصحاب السفن الفرنسية التي استأجروها لنقلهم من إسبانيا إلى المغرب ، بعد أن طردهم فيليب الثالث من إسبانيا لرفضهم التخلي عن الإسلام وإعتناق المسيحية . على إثر هذا النهب ، إتصلت بعض العائلات بسلطان المغرب المولى زيدان ، وطلبوا منه مساعدتهم ، وإرسال من يطالب بحقهم . يقول الحجري :
(وبعد ما أخذ فيليب الثالث كل ما كان لهم ، أخرجوهم في بعض الجزر من بلاد المسلمين ، وأربعة من تلك السفن المنهوبة خرجت بالمغرب ... وطلبوا من السلطان المولى زيدان ... أن يأذن لهم في إرسال بعض من أصحابهم مع رجل من الأندلس من الذين كانوا قبلهم بتلك المدينة ، وأسفر نظره أن نمشي بأصحابهم وأعطانا السلطان كتابه) [17]. واستطاع الحجري أن يتم المهمة بنجاح ، وأعاد الأموال المنهوبة إلى أصحابها ، فقال (والحمد لله أن كل من وكلني من جميع الأندلس وصل إليه شيء من الدراهم) [18].
وزار الحجري هولندا وتجول في مدنها ، أمستردام وليدن ولاهاي ، والتقى بالمستشرق الهولندي الكبير إربينيوس Erpenius، وكانت لديه حوارات ونقاشات معه . وقد ورد ذكر أحمد الحجري في رسالة بعثها إربينيوس بتاريخ 28 أيلول 1611 إلى صديقه المستشرق كازابون Casaubon قال له فيها :
(ووراء كل ما كنت أتوقع ، فقد وصل إلى زيارتي تاجر مغربي مسلم إسمه أحمد ، وهو رجل متحضر وذكي . وكان قد درس الأدب في شبابه ، ويتكلم العربية الفصحى بصورة جيدة ولكن متواضعة ... لقد كنا نتكلم بالعربية ، لأنه كان يتكلم الإسبانية إضافة إلى العربية ، لكنني لا أتكلم بها . وقد كنا نتناقش دائماً في أمور الدين) [19]. أما أحمد الحجري فقد وصف إربينيوس بأنه لم يكن يجيد العربية ، بل كان (يعرب الأسماء ويصرف الأفعال) ، وذكر بأنه أخذ يعلم المستشرق إربينيوس اللغة العربية عندما التقاه في باريس عند الطبيب هبرت ، الذي كان قد تعرف عليه في مراكش . يصف الحجري ذلك اللقاء بقوله : (والتقيت في تلك المدينة (باريز) برجل من علمائهم كان يقرأ بالعربية ، وبعض النصارى يقرأون عليه ، كان يسمى بأبرت وقال لي : أنا أخدمك فيما تحتاجني ... وما نحب منك إلا أن نقرأ عليك في الكتب التي عندي بالعربية).
وتطرق الحجري في وصفه لرحلته ولقاءاته ، إلى الحديث عن المجتمع الأوربي في ذلك الوقت ، الإقتصاد ، السياسة ، طراز المدن ، العادات والتقاليد ، الطعام والملابس .
تطور القانون الدولي الإسلامي في القرون الوسطى
على الرغم من دعوة القرآن إلى التعارف وإقامة علاقات مع غير المسلمين من شعوب وقبائل ، وأن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)قد بدأ بسلسلة من الإتصالات الدبلوماسية وأرسل سفراءه إلى الدول المجاورة مثل بيزنطة وفارس ومصر والحبشة ، إلا أن خلفاءه لم يواصلوا مبادرته وسياسته . لقد حققوا فتوحات كبيرة وسعت رقعة الدولة الإسلامية بشكل متسارع خلال فترة زمنية قصيرة . لقد أدت هذه الفتوحات المفاجئة إلى زوال إحدى القوى العظمى آنذاك ، الإمبراطورية الساسانية ، وانسحاب القوة العظمى الأخرى ، الامبراطورية البيزنطية ، من تواجدها التأريخي في الشام (سوريا وفلسطين والأردن) . لقد غيرت هذه الفتوحات مكانة ووضعية العرب ، من محاربين بدو إلى حكام متحضرين . كما غرست الشعور لديهم بالقوة والسيادة على غيرهم من الأمم ، وخاصة غير المسلمين . فقد نما الشعور القومي في العصر الأموي مما أدى إلى الإزدراء بغير العرب ، وحرمانهم من حقوق المواطنة والمساواة التي يكفلها الإسلام لهم .
لقد وضعت الظروف والتغيرات الجديدة الدولة الإسلامية في تحديات جديدة ، حيث أصبحت تتعامل بشكل مباشر مع الدول غير المسلمة ، وخاصة الواقعة على حدود دار الإسلام . وجد المسلمون أن هناك حاجة لصيغة جديدة في التعامل مع الدول غير المسلمة ، بالإضافة إلى سياستها المتسامحة تجاه الأقليات غير الإسلامية داخل الدولة الإسلامية . قام الفقهاء بتطوير فرع من الفقه الإسلامي ، له علاقة بالعلاقات الخارجية ، هو السّيَر ، لتلبية متطلبات الظروف المستجدة والقضايا الطارئة . فهذا يعتبر أساس القانون الدولي الإسلامي [1].
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
baconecdz
baconecdz


مدير المنتدى : خالد khaled
مدير المنتدى : خالد khaled


الجنس الجنس : ذكر
هوايتي : الرياضة
مسآهمآتے مسآهمآتے : 11463
التقييم التقييم : 368

محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق Empty
مُساهمةموضوع: رد: محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق   محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق Emptyالإثنين 11 مارس 2013 - 20:20

لعبت العلاقات بين الدولة الإسلامية والدول غير الإسلامية دوراً هاماً في تطوير مفاهيم وآراء جديدة في الفقه الإسلامي . فالواقع وقضاياه ومشاكله تطرح أسئلة وتطلب حلولاً ، لا بد للفقه أن يبدي رأيه فيها ، سواء كانت القضايا نابعة من داخل المجتمع الإسلامي أو بسبب علاقته واتصاله بالأمم الأخرى . قد يكون من الصحيح القول بأن القانون الدولي الإسلامي أو السير ، نشأ أولاً لتنظيم قضايا الحرب والقتال وشؤون الأسرى وعقد الهدنة أو غيرها ، لكن هناك دوافع وأسباباً أخرى جعلت القانون الدولي الإسلامي يتوسع ليشمل أمراً غير الحرب مع الكفار . فقد كانت التجارة وانتقال الأفراد والتجار إلى دار الحرب ، والتعاون السياسي مع دار الكفر وغيرها أموراً تدفع الفقهاء إلى المزيد من البحث والإجتهاد لمواجهة الأوضاع السياسية والإجتماعية والإقتصادية المتغيرة . ففي العصر العباسي عقد الخليفة هارون الرشيد حلفاً مع فرنسا المسيحية ، وكلاهما كان ضد بيزنطة . وصلت العلاقات العباسية ـ الفرنسية ذروتها عندما قبل هارون بمبادرة أسقف القدس الذي أرسل بعثة إلى شارلمان ملك فرنسا تحمل معها هدية عبارة عن مفاتيح الضريح المقدس والمدينة مع الراية [2]. يعتبر البروفسور بوكلر Bucklerهذه الخطوة بمثابة منصب رمزي لشارلمان باعتباره والياً للقدس تحت سلطة الخليفة العباسي . ويحتج بأن مثل هذا المنصب ، وحسب الماوردي ، يكون بتوكيل من الخليفة ، الذي يمكن أن يمنحه لغير مسلم . ويرفض مجيد خدوري ذلك التفسير قائلاً أن العلاقات الدبلوماسية بين شارلمان والرشيد كانت سياسية . ولم يتم التعامل أبداً مع القدس باعتبارها جزءاً من صفقة سياسية ، حتى يقال أنه يمكن تعيين وال غير مسلم عليها . وينفي وجود أي شيء في كتابات الماوردي تسمح بمثل ذلك ، كما يدعي بوكلر ، وإعطاء مثل ذلك المنصب إلى غير مسلم [3].
لقد فرضت متطلبات الدولة الإسلامية وحقائق الحياة وواقعها على المسلمين أن يتولى الفقهاء التعامل مع المستجدات ، ومنها كيفية التعامل مع الدول غير الإسلامية ، وإعطاء وجهة نظر الشريعة بالمسائل المطروحة عليهم . ويلاحظ أن ليس كل فقهاء الإسلام تعرضوا لذلك الواقع ، فقد كان فقهاء الحجاز بعيدين عن الإحتكاك بالأمم الأخرى ، ولذلك لم يتعرضوا لمسائل التعامل مع الدول غير الإسلامية . فالفقيه مالك بن أنس فقيه الحجاز (93 ـ 179هـ/712 ـ 796م) لم يخصص إلا فصلاً صغيراً عن الجهاد . كما أن شيوخه من قبل كابن شهاب الزهري (ت 124هـ/742م) وربيعة الرأي (ت 136هـ/ 754م) إهتموا بالموضوع أقل منه . ذلك أن فقهاء الحجاز كانوا بعيدين عن المناطق التي حصل فيها الإتصال المباشر بين الاسلام وبين شعوب أخرى، فلم يبالوا كثيراً بالمشكلات التي كانت تنشأ نتيجة لهذا الإحتكاك بين المسلمين وبين الشعوب الأخرى [4].
ومن تلاميذه الذين اهتموا بالجهاد سحنون الذي كتب (المدونة) خارج الحجاز ، في القيروان . من جانب آخر نجد أن فقهاء العراق أولوا إهتماماً كبيراً بقضايا الحرب والجهاد ، بل أن القانون الدولي الإسلامي يمكن إعتباره من إجتهاد فقهاء العراق . فالفقيه أبو حنيفة (80 ـ150هـ/699 ـ 802م) الذي نشأ ودرس في الكوفة وتوفي في بغداد ، وتلامذته أمثال محمد بن الحسن الشيباني (132 ـ 189 هـ/750 ـ 805م) وأبي يوسف القاضي (113 ـ 182هـ/ 731 ـ 798م) وأبي اسحاق الفزاري (ت 186هـ/802م) قد كتبوا وفصلوا في باب السير وقضايا جهاد الكفار والتعامل مع الدول غير المسلمة أكثر من معاصريهم من الفقهاء . ويعد عبد الرحمن الأوزاعي (ت 157 هـ/774 م) أحد الفقهاء القدامى الذين عالجوا السير كموضوع مستقل من مواضيع الشريعة . وكانت آراء الأوزاعي في هذا الموضوع ـ وهي آراء توصل إليها في سوريا في العهد الأموي ، إذ أنه عاش معظم حياته في ذلك العهد ـ تمثل التفكير الشرعي لتلك الحقبة [5].
بصورة عامة ، كان فقهاء المغرب وشمال أفريقيا قد تعاملوا بشكل مباشر مع قضية العلاقات مع غير المسلمين أكثـر من فقهاء المشرق (العراق ، سوريا ، الحجاز وفارس) . فالفقيه المالكي سحنون ، أبو سعيد عبدالسلام التنوخي (ت 240 هـ / 855 م) كتب مفصلاً في مسائل الحرب ، لأن الإسلام في شمال أفريقيا وإسبانيا كان على اتصال يومي ومباشر مع الدول الأوربية وغير الإسلامية ، ولكن معالجته تعكس تأثره بالفقهاء الحنفية ليس بأقل من تأثره بالمالكية فيما يتعلق بهذا الموضوع . وتعتبر (المدونة) لسحنون من عمدة المؤلفات في المذهب المالكي ، إضافة إلى (الواضحة) لعبد الملك بن حبيب ، و(العتيبية) لمحمد ابن أحمد العتبي القرطبي (ت 255هـ /869م) ، و(الموازية) لمحمد بن إبراهيم بن زياد الإسكندري المعروف بالمواز (ت 269هـ/882م) [6]. وأصل المدونة كتبها أسد بن الفرات (ت 213هـ/828م) الذي توفي أثناء حصار سرقوسة في جزيرة صقلية . وتعرف بالمدونة الأسدية ، وقام سحنون بشرحها فنسبت إليه .
وأصدر الفقيه الأندلسي إبن ربيع (ت 719هـ/1320م) فتوى تتعلق بوضعية الأقلية الإسلامية تحت الحكم المسيحي . كما عالج الفقيه الأندلسي إبن رشد مسائل ذات علاقة بالتعامل مع غير المسلمين .
وفي القرن الخامس عشر ، كتب الفقيه المغربي ، الأندلسي الأصل ، عبد العباس الونشريسي مقالة بعنوان (أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر) . ناقش الونشريسي مسائل تتعلق بشرعية البقاء تحت الحكم المسيحي . فقد سئل من قبل جماعة من المهاجرين المسلمين الذين غادروا الأندلس بعد سقوط غرناطة وعودة الحكم المسيحي بقيادة الملك فرناندو والملكة إيزابيلا إلى إسبانيا . وكان هؤلاء المهاجرون قد رغبوا بالعودة إلى الأندلس حيث عاشوا ، عندما واجهوا ضيق العيش وقلة الرزق في المهجر .
1-المجتمع الدولي وتطور العلاقات الدولية
مقدمة:
إن المتأمّل في صرح المجتمع الدولي يلاحظ مدى التنظيم والتطور والانسجام الذي أصبح يطبع الحياة السياسية في كثير من مجالاتها، فالبشرية لم تصل إلى هذه الدرجة من التنظيم إلا بعد حقبة زمنية طويلة وشاقة.
وقد اعتاد كثير من فقهاء القانون الدولي العام أن يؤرخوا لنشأة المجتمع الدولي بداية من القرن 16 م، و الأسباب التي دفعت إلى هذا الاعتياد تكمن في النظرة الأوربية الضيقة للقانون الدولي العام، الذي أُعتبر إلى عهد قريب قانون الأمم الأوربية المتحضرة.
غير أن هناك من يرى أن القانون الدولي العام هو قبل كل شيء قانون يحكم العلاقات ما بين الجماعات والتجمعات البشرية على أساس أن القانون الدولي العام عندما يطبق على الدول إنما يعني ـ في الواقع ـ أنه يطبق عليهم باعتبارهم مجتمعات سياسية متميزة ومستقلة.
ومن هذا نستطيع القول أن المجتمعات في القديم كانت تعتبر "مجتمعات سياسية" وأن القانون الدولي القديم يستمد حدوده من علاقات هذه المجتمعات.
ماهية المجتمع الدولي:
المجتمع الدولي نوع من المجتمعات السياسية كما هو الشأن في المجتمعات الوطنية (مع وجود اختلاف في النطاق الجغرافي وإطار العلاقات).
فالمجتمع السياسي قديم التكوين بقدم العمران البشري لأنه ناتج عن استقرر وتنظيم حياة جماعات بشرية في زمان ومكان معين ويتميز بـ:
• وجود سلطة تحافظ على التضامن بواسطة قواعد قانونية.
• يمتلك وسائل القهر والإلزام.
وعليه فدول العالم جمعاء تشترك في تكوين المجتمع الدولي. ومن ثم فإن دراسة تكوين وتطور المجتمع الدولي يجب أن تبدأ من الفترات التاريخية الأولى وهو ما سنقوم به بصورة موجزة ومركزة كما يلي:
1ـ المجتمع الدولي قبل الميلاد (3000 ق م إلى 476 م).
• 1ـ حضارة الشرق القديم.
• 2 ـ حضارة الغرب القديم.
2 ـ المجتمع الدولي في العصور الوسطى (476 م إلى 1453 م).
• 1 ـ العالم المسيحي (أوربا في العصور الوسطى).
• 2 ـ العالم الإسلامي في العصور الوسطى.
3 ـ المجتمع الدولي في العصر الحديث والمعاصر (1453 إلى اليوم).
• أ ـ المرحلة الأولى (1453 – 1815).
• ب ـ المرحلة الثانية (1815 – 1914).
• ج ـ المرحلة الثالثة (1914 – إلى يومنا هذا).
4 ـ أشخاص المجتمع الدولي.
• أ ـ الدولة وأركانها.
• ب ـ أشكال الدول.
• ج ـ حقوق الدول وواجباتها.
• د ـ السيادة في ظل العولمةو تبدل موازين القوة.
العصر القديم:
ويبدأ هذا العصر حوالي الألفية الثالثة قبل الميلاد إلى غاية سقوط روما سنة 476 م.
مميزات الوضع العام خلال هذه المرحلة: يتميز بنوعين من التنظيمات السياسية:
1ـ الإمبراطوريات التي أسستها القوى العظمى في ذلك الوقت (الإمبراطورية الفرعونية، الإمبراطورية الأخمينية (من ق 6 إلى القرن 4 ق م) بفارس،الأمبراطورية البابلية.
2 ـ الدول- المدن- وبالأخص المدن اليونانية وامتازت بالانسجام في تعاملها والتنظيم الكبير في علاقاتها.
وكان يغلب على هذه المجتمعات طابع الحرب ومنطق العداء، وهو الأمر الذي أثار الخلاف بين الفقهاء حول إمكانية نشوء قواعد قانونية ومصادر أولية لتنظيم دولي.
غير أن الأبحاث العلمية كشفت عن وجود قواعد دولية وعلاقات فيما بين هذه المجتمعات حتى وإن كانت هذه القواعد محدودة في مجالها وبدائية في مفهومها.
ويؤكد المفكر الفرنسي مونتسكيو "إن كل الشعوب بما فيهم جماعة الهنود الحمر الذين يأكلون لحوم أسراهم كان لها قانون دولي".
أولا:الشرق القديم:
1 ـ حضارة وادي الرافدين:
المعاهدة المبرمة سنة 3100 ق م بين زعيمي قبيلتين من منطقة ما بين النهرين لوضع حد لنزاع قائم بينهما على الحدود كما نصت على تسوية المنازعات فيما بينهما عن طريق اللجوء إلى التحكيم.
2 ـ الحضارة الفرعونية:
كشفت الأبحاث عن معاهدة كتبت باللغة البابلية بين رمسيس الثاني ملك مصر وحاتوبيل ملك الحيثيين حوالي سنة 1292 ق م، حيث تعهد الطرفان من خلالها بتبادل المساعدة ضد الأعداء الداخليين والقيام بتسليم هؤلاء إذا لجأوا إلى بلد الطرف الآخر على شرط عدم توقيع عقاب عليهم قبل ذلك.
وتعتبر هذه المعاهدة أقدم نموذج معروف في شأن تسليم المجرمين السياسيين.
وكان احترام وتنفيذ هذه المعاهدات يتم بضمان الآلهة فقد جرت العادة أن يقسم كل طرف من أطراف المعاهدة بعدد من الآلهة ضمانا لاحترام المعاهدة.
3 ـ الديانة اليهودية:
اتصفوا بالانعزالية والتعالي على الشعوب الأخرى وتمجيد العنف وأسلوب الحرب إلى درجة أطلقوا على إلههم "رب الانتقام" ففي العهد القديم تضمن الإصحاح 15 من سفر صموائيل أمرا صريحا من رب اليهود إلى ملكهم مفاده: "... ولا تعف عنهم بل اقتل رجلا،طفلا ورضيعا، جملا وحمارا...".
4 ـ الحضارة الفينيقية:
ملك الفينيقيون قوة تجارية كبرى وامتد نفوذهم الاقتصادي إلى بلاد الشام شرقا حتى بلاد الإسبان غربا، وقويت شوكتهم أكثر بعدما قامت دولتم في تونس ببناء مدينة قرطاجنة سنة 825 قم.
والدولة القرطاجنية دستورية ونظام حكمها جمهوري ولها مجالس متخصصة مثل: مجلس الشيوخ المنتخب (28 عضو) ومجلس التجار ومجلس القضاء.
وفي الجزائر قامت إمارات ودويلات كان أشهرها الدولة النوميدية التي حكمها يوغرطة (118 ق م إلى 14 ق م) عاش طول حياته يحارب الرومان.
ثانيا: الغرب القديم: (L’occident antique):
يقصد بالغرب القديم كل من الحضارتين اليونانية (الإغريقية) والرومانية.
1 ـ الحضارة اليونانية: ساهمت هذه الحضارة بشكل كبير في تكوين قواعد القانون الدولي، حيث أن المجتمع اليوناني كان مقسما إلى عدد من الوحدات السياسية ومستقلة عن بعضها تماما (قبل أن تتوحد على يد الإسكندر الأكبر في النصف الثاني من القرن 4 ق م)، مما ساعد مع مرور الزمن على إنشاء نوعا من قواعد القانون الدولي التي تنظم العلاقات بين هذه المدن في وقت الحرب والسلم.
بلغ عدد هذه الوحدات السياسية اثني عشر وحدة، كل واحدة تدعى مدينة (cité)، وهذا المصطلح يقابل إلى حد كبير مصطلح الدولة في الوقت الحاضر، وقد عرفت هذه المدن علاقات وثيقة فيما بينها، تميزت بالاستقرار والتفاهم نظرا لانتمائهم إلى حضارة واحدة، تستند إلى اعتبارات عرقية ودينية ولقومية مشتركة، حيث تمّ تبادل البعثات الديبلوماسية، ونظموا قواعد للتعايش السلمي بينهم، وذلك بإيجاد التحكيم وسيلة لحسم الخلافات، وبعض قواعد الحرب (مثل ضرورة إعلان الحرب قبل شنها، وتحريمها أو وقفها في أوقات معينة كفترة الألعاب الأولمبية، وتبادل الأسرى، واحترام اللاجئين إلى المعابد...).
كما عرف اليونانية وسيلتين أساسيتين للعلاقات القانونية هما المعاهدة والديبلوماسية: فالنسبة للمعاهدات فقد استعملت لتنظيم العلاقات بينهم في العديد من المجالات مثل تعزيز السلم (معاهدة سنة 446 ق م بين أثينا وإسبرطة) أو التحالف العسكري (معاهدة سنة 418 ق م بين إسبرطة وأرغوس).
أما فيما يخص الديبلوماسية فقد ظهر ما عرف بنظام البروكسينية (Proxénie) الذي هو أساس ما يعرف بالحماية الديبلوماسية (احترام حرمة السفراء).
لكن كل هذه القواعد تطبق بين المدن فقط، وذلك لأن اليونانيين قد ميزّوا بين الشعب اليوناني وغيره من الشعوب الأخرى الذين اعتبروا غير متحضرين (Barbares) يحق استعبادهم وقتلهم، وليس لهم أية حقوق، ولذلك كانت علاقات هذه المدن اليونانية بالشعوب الأخرى تقوم على أساس الحرب التي لا تخضع لأي قواعد قانونية أو اعتبارات إنسانية.
2 ـ الحضارة الرومانية: لم يختلف الرومان عن اليونانيين في اعتقاداتهم بأنهم جنس متميز عن الشعوب الأخرى فقد أوجدوا القانون المدني الروماني (Jus civil) لا يطبق إلا على الرومان دون غيرهم من شعوب الإمبراطورية الرومانية المترامية الأطراف. ولما كثر عدد الغرباء لجأت السلطات الرومانية منذ سنة 242 ق م إلى تعيين قضاة خاصين بهم يسمون "قضاة الغرباء" مهمتهم الفصل في الخلافات التي تعرض عليهم ليس استنادا إلى القانون وإنما اعتمادا على الأعراف السائدة بين المتقاضين وإلى مبادئ الأخلاق والعدالة، وهذه القواعد عرفت فيما بعد بقانون الشعوب (Jus comtium)، أما بالنسبة لعلاقات الرومان مع الأمم الأخرى، فقد عرفت نظام آخر لتنظيمها، تمثل في القانون الإلهي المقدس، أشرفت على تطبيقه هيئة تتكون من مجموعة من رجال الدين، عددهم عشرين رجلا، عرفوا باسم (Fetiales) كانوا يقررون ما إذا كان هناك سبب عادل لإعلان الحرب ضد بلد أجنبي أم لا، وكذلك عقد السلم وإبرام المعاهدات.
ومن اشهر المفكرين الذين عالجوا موضوع الحرب في تلك الحقبة نجد القديس "أوغسطين" (354-430 م)، الذي ميّز بين الحرب العادلة (Guerre juste) والحرب غير العادلة (Guerre injuste) في كتابه "مدينة الله" (La cité de Dieu).
إضافة إلى ما سبق ذكره كانت علاقات الرومان مع الشعوب الأخرى تتوقف على ما إذا كانت هذه الشعوب تربطها بروما معاهدة صداقة (Amicitia) أم معاهدة ضيافة (Hospitium) أم معاهدة نحالف (Foedus)، وبالتالي فإنّ أفراد هذه الشعوب يتمتعون بالحماية عند انتقالهم أو وجودهم بروما، أما الشعوب الأخرى التي لا تربطها أية معاهدة بروما، فإنّ أفرادها وممتلكاتها لا يتمتعون بالحماية، إذ يحل قتلهم أو استعبادهم كما يحل الاستيلاء على ممتلكاتهم.
خلاصة القول: رغم أنّ مختلف الشعوب وبالتالي الحضارات خلال العصور القديمة ساهمت في تكوين قواعد القانون الدولي وبالتالي التنظيم الدولي، إلا أننا نجد بعض الفقهاء يرفضون ذلك،على اعتبار أن تلك الدول والحضارات القديمة لم يكن لها قانونا مشتركا، ولم تكن هناك مساواة بين مختلف الشعوب والأجناس، وبالتالي لم تتوفر الأسس الاجتماعية لقانون دولي.
ويضيف آخرون (من بينهم "كانت" Kent، "فرجيه" Vergé، "موري" Maury، "هوتن" Whoton...) أنه خلال العصور القديمة لم يكن هناك استيعاب للمفهوم الأساسي لقانون الأمم، لأنه لم يحترم الإنسان بوصفه إنسانا، وكان ينظر للأجنبي كعدو، ولم يكن للمعاهدات حرمة، وبالتالي كان يطغى على المجتمع الدولي آنذاك منطق القوة وتسوده الفوضى، حيث كانت الحرب وسيلة مشروعة لاكتساب الحقوق ولحماية هذه الحقوق.
ومن جهة أخرى، فإذا كان القانون الدولي المعاصر قانونا موحدا، فإنّ القواعد (الدولية) التي عرفت قديما كانت تشكل نظما مختلفة ومتباينة حسب كل دولة أو حضارة قديمة، والسبب في ذلك دون شك يرجع إلى أنّ ظروف الحياة في كل منطقة، والظروف التاريخية والجغرافية والسياسية والاقتصادية حتمت نشوء جملة من المبادئ القانونية الخاصة بشعوب أو بدول كل منطقة.
لكن على العموم لا يعني ذلك أننا ننكر مساهمة الحضارات القديمة في نشأة قواعد القانون الدولي، وهي قواعد تلائم ظروف العصر، وكانت محدودة جغرافيا وموضوعيا، ولم يكن هناك ما يشبه المجتمع الدولي الحالي الذي يتميّز إلى حد ما بنوع من التنظيم والاستقرار، ويخضع لقواعد قانونية ثابتة. ومن بين أهم المبادئ التي عرفت قديما نذكر:
• الاعتراف بوجود وحدات سياسية متمايزة ومستقلة.
• وجود التمثيل الديبلوماسي.
• إمكانية قيام علاقات قانونية بين مختلف هذه الوحدات، على أساس حقوق وواجبات متبادلة.
• وجود اعتقاد لدى مختلف المجتمعات آنذاك بأنّ التعهدات المتخذة وفقا لشروط شكلية معينة ملزمة للأطراف المعنية.
المبحث الثاني: المجتمع الدولي في العصر الوسيط (476 م – 1453 م).
يجمع أغلب المؤرخون أن العصر الوسيط يبدأ بسقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية (عاصمتها روما) سنة 476 م، وينتهي بسقوط الإمبراطورية الرومانية الشرقية (عاصمتها القسطنطينية) سنة 1453 على يد محمد الفاتح العثماني، لتخضع للحكم العثماني.
سنحاول في هذه المبحث التطرق إلى وضع أوربا المسيحية في تلك الفترة، إضافة إلى توضيح أهم المبادئ ذات الطابع الدولي التي تضمنتها الشريعة الإسلامية، والمسلمون في علاقاتهم بالشعوب غير الإسلامية.
أولاـ العالم المسيحي (أوربا في العصر الوسيط):
لقد شهد العالم وخاصة بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية توقف أي تقدم فيما يخص تطور قواعد القانون الدولي، بفعل جملة من العوامل والظروف حالت دون توفر شروط إنشاء مجتمع دولي أو تنظيم دولي ولو إقليمي (في أوربا على الأقل)، خاصة وأنه كان يسود مبدأ إقليمية السلطة التي احتكرها الإقطاعيون، وذلك ما حال دون قيام سلطة مركزية فعلية وحقيقية، واستمر الأمر كذلك إلى غاية بداية القرن11، حيث بدأت تقوم تدريجيا علاقات مباشرة مع الخارج لغرض التجارة بصفة خاصة، وبالتالي بدأت تظهر الأسواق الدولية.
إن أهم العوامل والظروف التي حالت دون تطوير القانون الدولي نذكر:
1 ـ التجزئة والفوضى السياسية: بعد التقسيم الذي مسّ الإمبراطورية الرومانية سنة 395 م في عهد الإمبراطور "ثيودوس" (Théodose) بين ولديه إلى إمبراطورية غربية وأخرى شرقية، لم تلبث الأولى كثيرا لتسقط على يد القبائل الجرمانية سنة 476 م، وبذلك قسمت أوربا إلى عدد من الممالك والإمارات المتصارعة، ميّز علاقاتها روح العداء والحروب المستمرة.
واستمرت هذه الفوضى السياسية إلى أن تمكن الإمبراطور "شارلمان" (Charlemagne) من توحيد تلك الوحدات السياسية تحت إطار الإمبراطورية الرومانية المقدسة، بعد تتويجه من طرف البابا "ليون الثالث" لكن الأمر لم يدم طويلا، إذ بعد وفاة "شارلمان" سنة 843 م رجعت الفوضى والانقسامات من جديد، وزاد أكثر تدخل الكنيسة في أمور السياسة والحكم.
2 ـ نظام الإقطاع (Régime de la féodalité): ظهر هذا النظام بأوربا ابتداء من القرن 9 م واستمر إلى نهاية العصر الوسيط تقريبا. يقوم نظام الإقطاع من الناحية السياسية على استئثار وانفراد الأمير أو الحاكم بجميع مظاهر السلطة داخل إقليم معين، على أساس أنها ملك شخصي له يتصرف فيه كما يشاء، كما يقوم على أساس الاقتصاد الزراعي ونظام ا لرقيق .
كانت السلطة في المماليك الإقطاعية موزعة بين الملك والإمبراطور والبابا والسيد الإقطاعي.
في الداخل كان كل إقطاعي يمارس السلطة في مقاطعته دون الملك، وأما في الخارج فلم يكن بمقدور الملك أن يعبر عن إرادة موحدة لمملكته أمام باقي الممالك بسبب التجزئة التي مسّت مملكته إلى عدة إمارات إقطاعية، وبالتالي لم تكن المملكة وحدة تباشر السيادة الداخلية والخارجية.
أمام هذا الوضع لم يكن ممكنا نشوء تنظيم دولي لأن الممالك أصبحت مقسمة إلى إمارات إقطاعية منغلقة على نفسها، وتسود الحروب بينها.
3 ـ الصراع بين البابا والإمبراطور: عرف العصر الوسيط صراعا مريرا بين البابا والإمبراطور حول من يباشر السلطة الزمنية (الأمور الدنيوية باستثناء الدينية منها)، وقد حاول كل طرف أن يبرر أحقيته بتولي هذه السلطة، فالإمبراطور كان يستند إلى نظرية الحق الإلهي (Théorie du droit Div ) ومفادها أن الله فوّض للملك حكم الناس، وبالتالي هو ممثل الإرادة الإلهية فوق الأرض بينما البابا كان يستند إلى ما عرف بنظرية السيفين (Théorie de deux glaives)، ومفادها أنّ الله خلق سيفين، أحدهما يمثل الروح والثاني يمثل الجسد، وقد منح الله سيف الروح للبابا، وسيف الجسد للإمبراطور، ولما كانت الروح تسمو على الجسد فمعنى ذلك أن البابا يسمو على الإمبراطور.
ولذلك كان يحكم الإمبراطورية قانونان هما: القانون الزمني (الوضعي): الذي ينظم العلاقات المدنية والتجارية التي تنشأ بين رعايا الإمبراطورية، والقانون الكنسي: الذي ينظم العلاقات المتفرعة من العقائد.
لكن رغم وجود الكنيسة كسلطة دينية والإمبراطور كسلطة زمنية، إلا أنّ الصراع كان كبيرا بينهما بغرض ا لسيطرة. وقد بلغ هذا الصراع ذروته خلال النصف الثاني من القرن 11 عندما قام الإمبراطور "هنري الرابع" (Henri IV) بخلع البابا "جريجوري السابع" (Gregorie VII). ولاشك أن ذلك ساهم في تفاقم الفوضى السياسية في أوربا.
4 ـ دور الديانة المسيحية: ثبت تاريخيا أنّ إقرار المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية وبالتالي لأوربا، كان من طرف الإمبراطور "ثيودوس" سنة 380 م. وقد ساعد انتشارها في أوربا على تلطيف العلاقات بين الممالك الأوربية التي توجد نسبيا من الناحية الدينية تحت الزعامة الروحية للبابا الكاثوليكي.
لقد حرّم المسيحيون الأوائل الحرب تحريما مطلقا استنادا إلى ما جاء في الكتاب المقدس، لكن هذا الإجماع لم يستمر طويلا على تحريم الحرب، حيث انقسموا إلى اتجاهين:
الأول: تمسك بمبدأ السلام بشكل مطلق، ولابد من تطبيقه استنادا إلى تأكيد السيد المسيح على نبذ استخدام القوة.
الثاني: يرى أن الإنجيل لم يمنع استعمال القوة في الحياة الإنسانية.
وأمام هذا الاختلاف، وللتوفيق بين نص الإنجيل وضرورات الدولة توصلوا إلى تعريف الحرب العادلة (المشروعة) والحرب غير العادلة (غير المشروعة)، وذلك ما ظهر في عدة مؤلفات أهمها مؤلف القديس "Saint Augustin" "مدينة الله" الذي تعرض فيه لعدة قضايا تهم القانون الدولي من جهة نظر مسيحية بحتة، مفرقا بين الحرب الدفاعية التي تستهدف القضاء على الظلم وإعادة السلم (الحرب العادلة)، والحرب غير العادلة التي تهدف إلى السبي والحصول على الغنائم.
كذلك الفقيه "توماس الإ كويني" في القرن 13 الذي نادى بفكرة الحرب العادلة التي يعلنها الأمير ضد شعب ارتكب ظلما ضد شعب آخر، والحرب غير العادلة التي توجه بقصد اغتصاب إقليم أو اعتداء على حدود دولة أخرى.
رغم أن المجامع الكنسية فشلت في محاولة منع الحروب نهائيا بين الدول المسيحية،إلا أنها اكتفت بإقرار الاتفاقات الآتية:
• سلم الرب (La paix de dieu) في 1095، ويتعلق بحياد منشآت الكنيسة وحماية رجال الدين والشيوخ والأطفال والنساء عند قيام الحرب.
• هدنة الرب (La trêve de dieu) في 1096، تخص تحريم الحرب في بعض أيام الأسبوع (من مساء الجمعة إلى صبيحة الاثنين) وتلك التي تصادف الأعياد الدينية.
• إقرار مبدأ التحكيم، أي وجوب أن يلجأ الأمراء المتخاصمون قبل اللجوء إلى الحرب على تحكيم إحدى الشخصيات الدينية أو السياسية العليا.
• إقرار مبدأ الوساطة، أي تدخل طرف محايد لتقريب وجهات النظر بين المتخاصمين.
الشيء الملاحظ من جهة أخرى هو أن هذه الوحدة الدينية المسيحية كان لها آثار سلبية في علاقات الدول الأوربية مع البلاد غير المسيحية لأن هذه الممالك رفضت الاعتراف بالبلاد الإسلامية والدخول معها في علاقات على أساس المساواة، بدليل الحروب الصليبية (Les croisades) التي بدأها أمراء المسيحية بدعوة من البابا "أوريان الثاني" والراهب "بطرس الناسك" مع بداية القرن 11، واستمرت نحو ثلاثة قرون.
5 ـ القواعد القانونية الدولية التي ظهرت في العصر الوسيط: يمكن إجمال ما ظهر في العصر الوسيط من قواعد قانونية دولية فيما يلي:
أ ـ تقسيم القانون الدولي إلى قانوني سلم وحرب، وهذا التقسيم لازال معتمدا إلى يومنا هذا.
ب ـ ظهور فكرة الحرب الشرعية (العادلة) والحرب غير الشرعية (غير العادلة)، حيث تقوم الأولى ضد من هم ليسوا مسيحيين، والثانية ضد المسيحيين في حالة قيامها دون أسباب شرعية. كما ظهرت فكرة الحرب كعقوبة وذلك لمواجهة ظلم قام به أحد الأمراء، فهي عقاب على هذا التصرف المنافي لاستقلال وحرمة الدول المسيحية الأخرى.
ج ـ الاحتفاظ بالتحكيم لحل المنازعات الدولية والوقاية من الحروب.
د ـ ظهور العلاقات الديبلوماسية والتجارية، حيث ظهرت لأول مرة وزارات الخارجية، وأقيمت السفارات الدائمة، كما عرفت أوربا تنظيم الوظيفية الديبلوماسية والامتيازات والحصانات.
ه ـ ساهمت العلاقات التجارية في ظهور قانون البحار من حيث حماية التجارة البحرية، حق التفتيش والتهريب البحري.
و ـ نشأة نظام القنصليات لحماية المواطنين المسيحيين في البلاد غير المسيحية.
لكن على العموم هذا التطور لم يشمل كافة الدول التي كانت قائمة آنذاك، وإنما طبق على الدول المسيحية فقط، وبالتالي لم تتحقق صفة العمومية لهذه القواعد المتطورة في ذلك العصر لارتباطها بالجانب الديني (المسيحية).
ثانيا: العالم الإسلامي في العصر الوسيط:
جاء الإسلام مؤكدا دعوات الرسل والنبيين للإيمان برب العالمين، ومن ثمّة مقررا وحدة مصدر هذه الدعوات وهو الله الواحد، وجوهر هذه الدعوات وهو الإيمان به دون شريك (التوحيد)، وبالتالي فإنّ دعوة الإسلام لوحدة الأديان في مصدرها وفي جوهرها، ومن ثمّة الإيمان بجميع الرسل هو تأكيد لوحدة الإنسانية كلها في أصلها وفي اعتقادها.
لذلك كانت دعوة الإسلام إلى وحدة عالمية قائمة على أخوة إسلامية لا يستبعد فيها الفرد باسم الجماعة ولا الجماعة لصالح الفرد، فهي وحدة قائمة على الحرية والعدالة.
لقد ساهم الفقه الإسلامي كثيرا في تعميق جملة من مبادئ القانون الدولي وحماية حقوق الإنسان، ولازال اليوم كذلك قادرا على الإثراء والتطوير، ويبرز كل ذلك من خلال ما يلي:
1 ـ البعد العالمي لأحكام الشريعة الإسلامية: لقد اهتم الإسلام بمختلف جوانب الحياة، وجاء بمبادئ اجتماعية وإنسانية سامية تصلح لأن تكون أساسا متينا ودائما للعلاقات الدولية، ولتنظيم المجتمع العالمي، لما تحمله من أبعاد عالمية شاملة، تتمثل فيما يلي:
أ ـ رسالة عالمية (عالمية الشريعة الإسلامية): لقد جاء الإسلام كدعوة دينية حضارية لجميع البشر دون تمييز، وهذا ما تؤكده العديد من الآيات القرآنية: "... وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا..." [سبأ، الآية 28]، "...قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا..." [الأعراف، الآية 158].
ب ـ الدعوة إلى الإسلام: فالإسلام هو الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم من أجل توثيق أواصر الأخوة والرحمة بين كافة الناس "... وإن جنحوا للسلم فاجنح لهم وتوكل على الله إنه هو السميع العليم..." [الأنفال، الآية 61]. ولا يباح للمسلمين القتال إلا دفاعا عن النفس "...وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعدوا إنّ الله لا يحب المعتدين..."[البقرة، الآية 189]، ومن ثمّة فالإسلام لا يقرّ شرعية الحرب التي تبقى عملا استثنائيا، وقد حث الإسلام على اتباع السلوك الإنساني في حالة قيام الحرب بين المسلمين وغيرهم، حيث دعا إلى ضرورة إعلانها، حيث لا يجوز مهاجمة الأعداء وأخذهم على غرّة، ولا يجوز التمثيل بقتلى العدو، ولا قتل من لا يقاتل(الشيوخ والأطفال...)، وحسن معاملة الأسير وجرحى الحرب والاعتناء بهم.
ج ـ المساواة بين البشر: بالنسبة للإسلام فإنّ كل الناس متساوون في الأصل "يا أيها الناس اتّقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء"[النساء، الآية 1]، أنّ الاختلاف في العرق أو اللون أو اللغة لا يمنع من إقامة علاقات متبادلة فيما بينهم يسودها التفاهم والتعاون، "...يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمك عند الله أتقاكم..."[الحجرات، الآية 13].
د ـ كفالة حقوق الإنسان وحرياته: لقد حفظ الإسلام للإنسان حقوقه ورفع من قيمته من خلال تكريمه دون غيره من المخلوقات "ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناكم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلا"[الإسراء، الآية 70]، وسخر له ما في الكون وجعله تحت سلطانه، وملّكه العقل الذي يستطيع به إدراك حقائق الكون "الله الذي سخّر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره، ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون، وسخّر لكم ما في السماوات والأرض جميعا منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون..."[الجاثية، الآيتين 12و13].
أما احترام الإسلام حرية العقيدة، ومنع إكراه الناس وإجبارهم على التدين "لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي..."[البقرة، الآية 25].، "...ولو شاء ربّك لآمن كل من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين..."[يونس، الآية 99].
ه ـ الالتزام بالتعهدات: أكّد الإسلام على ضرورة احترام التعهدات والوفاء بالعهود "وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسؤولا"[الإسراء، الآية 34]، "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها..."[النحل، الآية 91].
2 ـ نظرية الفقه الإسلامي للعلاقات الدولية: يقسم الفقه الإسلامي المجتمع الدولي إلى ثلاثة أقسام هي: دار الإسلام، دار الحرب ودار العهد.
أ ـ دار الإسلام: وهي البلاد التي تطبق فيها أحكام الشريعة الإسلامية، بحيث تكون السلطة أو الولاية فيها للمسلمين، وهناك استثناء وحيد لا يمنع من تطبيق شريعة أخرى غير الشريعة الإسلامية في القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية لغير المسلمين مثل أهل الذمّة والمستأمنون، فأهل الذمّة (اليهود والنصارى) هم رعايا غير مسلمين، يتمتعون بكل الحقوق التي يتمتع بها المسلمون مع ضمان الحرية الدينية لهم في مقابل دفع ضريبة مالية معينة تعرف بالجزية، تجب على الرجال القادرين على القتال دون النساء والأطفال.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
baconecdz
baconecdz


مدير المنتدى : خالد khaled
مدير المنتدى : خالد khaled


الجنس الجنس : ذكر
هوايتي : الرياضة
مسآهمآتے مسآهمآتے : 11463
التقييم التقييم : 368

محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق Empty
مُساهمةموضوع: رد: محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق   محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق Emptyالإثنين 11 مارس 2013 - 20:21

أما المستأمنون فهم الذين يدخلون البلاد الإسلامية طلبا للأمان دون نيّة الإقامة فيها باستمرار، لهم جملة من الحقوق تقارب حقوق الذميّين.
ب ـ دار الحرب: وهي تلك البلاد التي ليس للمسلمين عليها حكم أو سلطان، وليس بينها وبين المسلمين أي عهد.
ج ـ دار العهد: تقع وسطا بين دار الإسلام ودار الحرب، وهي حقيقة اقتضاها الواقع، فهناك بلاد لا تخضع لحكم المسلمين، ولكنها تقيم عهدا مع المسلمين، ونحن نعلم تأكيد الإسلام على احترام الصلح والمعاهدات، وهنا من واجب دار الإسلام الدفاع عن دار العهد ضد أيّ عدوان.
لقد اختلف الفقهاء المسلمون في تكيف العلاقة بين دار الإسلام ودار الحرب، فهناك فريق ذهب إلى القول بأن الحروب هي أساس العلاقة بين الدارين، إلا أنّ الرأي الراجح يذهب إلى أنّ السلم هو أساس العلاقات بين الدارين استنادا إلى ما سبق ذكره من خصائص الشريعة الإسلامية خاصة النصوص القرآنية التي لا تبيح للمسلمين القتال إلا للدفاع عن أنفسهم.
وعلى العموم فإنّ الدولة الإسلامية في تلك الفترة شكّلت طرفا أساسيا فاعلا في العلاقات الدولية من خلال دخولها في علاقات (حربية أو سلمية) خاصة مع أوربا المسيحية.
المبحث الثالث: المجتمع الدولي في العصر الحديث.
يجمع المؤرخون على أنّ العصر الحديث يبدأ بسقوط القسطنطينية على يد العثمانيين سنة 1453م إلى غاية وقتنا الحاضر، لذلك ونظرا لطول هذه الحقبة وتعدد التطورات الحاصلة خلالها سنقسمها إلى ثلاث مراحل هي:
ـ المرحلة الأولى (1453م-1815م): وتميّزت بنشوء ما يعرف بالقانون الدولي التقليدي (أو القانون الدولي الأوربي)، وظهور الدولة الحديثة وسياسة التوازن الدولي.
ـ المرحلة الثانية (1815م-1914م): تميّزت بعقد المؤتمرات الدولية كوسيلة جديدة في العلاقات الدولية، إضافة إلى إبرام عدد كبير من المعاهدات الدولية.
ـ المرحلة الثالثة (منذ 1914) أو المجتمع الدولي المعاصر: عرفت ظهور المنظمات الدولية كأشخاص جديدة في المجتمع الدولي، وتطور بموجبها تنظيم المجتمع الدولي.
أولا ـ المرحلة الأولى (1453-1815).
عرفت هذه المرحلة ميلاد تنظيم دولي حقيقي في أوربا فقط، من طرف الدول الأوربية الكبرى آنذاك يسمى بالقانون الدولي التقليدي أو القانون العام الأوربي، جاء في البداية ليحكم العلاقات بين الدول الأوربية المسيحية دون غيرها في إطار ما يسمى بالنادي الأوربي، الذي كان ينطلق من فكرة أنّ باقي العالم ما هو إلا وسيلة للحفاظ أو لتعزيز محتمل لنوعية حياة الطبقات الحاكمة وشعوب أوربا، وهذا ما يفسر لنا الظاهرة الاستعمارية فيها.
بعد ذلك اتّسع نطاق الأسرة الدولية ليشمل إلى جانب أوربا المسيحية بعض الدول المسيحية غير الأوربية وهي الدول الأمريكية التي حصلت على استقلالها من إسبانيا والبرتغال. ولم يتحرر القانون الدولي العام من الطابع المسيحي نهائيا بعد معاهدة السلام بباريس سنة 1856 سُمح لتركيا أن تنظم إلى المجتمع الدولي. أما بقية العالم فقد كانت تعيش إما حياتها الخاصة بعيدة عن مجرى العلاقات الدولية، أو كانت خاضعة للدول الغربية.
لقد تميّزت هذه المرحلة بعدّة عوامل ساهمت بشكل أو بآخر في نمو وتطور التنظيم الدولي الحديث نذكر أهمها: ظهور الدول الحديثة، النهضة الفكرية، الاكتشافات الجغرافية، حركة الإصلاح الديني ومعاهدتي وستفاليا، وأخيرا تأثير الثورتين الأمريكية والفرنسية.
1 ـ ظهور الدولة الحديثة: شهدت نهاية الحرب العصر الوسيط صراعا حادا بين الممالك الأوربية من جهة وكل من أمراء الإقطاع والكنيسة والإمبراطور من جهة أخرى، فقد كانت الممالك من خلال صراعها مع الكنيسة والإمبراطور تهدف إلى التحرر من الوصايا والسيطرة اللتان كانتا يباشرانها على الممالك، وبالتالي تحقيق سيادتها الخارجية.
الشيء الملاحظ هنا أن العامل الوطني أو القومية كان لها دورا كبيرا في تفعيل هذا الصراع، والسعي نحو تشكيل دولة قومية مستقلة، وذلك ما تمّ فعلا حيث ظهرت عدة دول مستقلة (بريطانيا، فرنسا، إسبانيا، سويسرا، السويد، هولندا، روسيا، البرتغال...) تقوم العلاقات بينها على أساس المساواة، وعدم الخضوع لأي سلطة عليا. وكانت هذه الدول الناشئة تتمسك بالسيادة المطلقة كمحاولة منها لتأكيد وتدعيم استقلالها، وبذلك ومنذ ذلك الوقت أصبحت الدولة الشخص الأساسي في القانون الدولي، وهو ما مهد السبيل لنشوء نظام قانوني دولي يحكم العلاقات بينها.
2 ـ النهضة الفكرية: ساعد إنشاء الجامعات في أوربا خلال القرنين 13 و14 على تطوير العلوم والمعارف، وبالتالي بروز نهضة فكرية ساهمت في إحداث وإثراء عدد من مبادئ وأحكام القانون الدولي، وتطوير الجماعة الدولية وذلك من خلال أفكار ومؤلفات خاصة الفقهاء الأوربيين.
لقد جرى الفقه الغالب على القول بمرور القانون الدولي باتجاهين أساسيين هما: مدرسة القانون الطبيعي والمدرسة الوضعية الإدارية.
أ ـ مدرسة القانون الطبيعي: تقوم فلسفة هذا الاتجاه (الذي ترجع جذوره إلى أرسطو) على أساس أن هناك قانون طبيعي يسبق القانون الوضعي ويعلوه أيضا، ويلائم كون الإنسان كائن اجتماعي, هذا القانون الطبيعي هو قانون ثابت وأبدي لا يتغير بتغير الزمان والمكان، وبالتالي قابل للتطبيق على المجتمع الداخلي (الدولة) وكذلك المجتمع الدولي... ومن أهم رواد هذا الاتجاه الفكري نجد:
ـ فرنسيسكودي فيتوريا (Francisco De Vitoria)(1480-1546) وهو راهب إسباني، كان يدرس القانون بجامعة Salamanque. ظهرت أفكاره من خلال كتابه الذي ظهر بعد وفاته باسم Relectiones theological، حيث اعترف بسيادة الدولة وحريتها، لكن تبقى خاضعة للقانون الطبيعي الذي يعلوها ويحد من إرادتها لأن هذا القانون مستمد من الإرادة الإلهية, وانطلاقا من ذلك فإن الدول شأنها شان الأفراد بحاجة ماسة إلى العيش في مجتمع منظم، وهذا التنظيم لا يتحقق إلا بواسطة قواعد قانونية ذات طابع دولي، ومن ثمّة فإن وجود القانون الدولي الذي ينظم علاقات الدول ضرورة من ضرورات المجتمع.
ـ فرنسيسكو سواريز (Francisco Suarez)(1548-1617): فقيه إسباني، كان أستاذ القانون بجامعة "كَوَمْبَرْ" Coimbre. أصدر سنة 1612 كتابا فرق فيه بين القانون الدولي (قانون الشعوب) والقانون الطبيعي، حيث قرّر أنّ القانون الطبيعي قانون ضروري وغير قابل للتغيير، في حين القانون الدولي متطور ومحدود وهو قانون وضعي، والعلاقة بين هذين القانونين يتمثل في ضرورة مواكبة القانون الوضعي للقانون الطبيعي، وهذا ما يعني خضوع الدولة للقانون الطبيعي.
ـ جروسيوس (Grotius)(1583-1645)، فقيه هولندي، ويعتبر المؤسس الأول للقانون الدولي الحديث خاصة من خلال مؤلفه "قانون الحرب والسلام" الذي نشره سنة 1625، وأصبح يدرس في الجامعات الأوربية الكبرى. يقوم فكره على الاعتراف بسيادة الدول وعدم خضوعها لسلطة أعلى، ومع ذلك فإنّ هذه السيادة مفيدة بشيء ولحد هو القانون الطبيعي، هذا الأخير يستمد من العقل، وهو بذلك يقرر المبادئ في حين قواعد تطبيق هذه المبادئ يتضمنها ما يعرف بالقانون الإرادي (Droit volontaire) الذي يجد مصدره من خلال إرادة الدول المعبر عنها بواسطة المعاهدات، وبالتالي فإنّ القانون الإرادي يجب ألا يتعارض مع القانون الطبيعي.
ولهذا نجد "جروسيوس" يعرف القانون الدولي بأنه ذلك القانون الذي ينظم العلاقات بين الدول على أساس أنها تتمتع بالسيادة المعترف بها في إطار متبادل، وهكذا تتعايش الدول في نطاق المجتمع الدولي الذي يخضع للقانون الطبيعي، هذا القانون الذي يجد مصدره في الطبيعة العقلانية والرشيدة للإنسان مما يجعله يتمتع بالأخلاق (La morale).
كما فرّق "جروسيوس" بين الحرب الشرعية والحرب غير الشرعية، فالحرب الشرعية هي التي تشن لدفع الظلم وأن القانون الطبيعي هو الذي يتولى تحديد حالات وقوع الظلم وذلك عندما تمس الحقوق الأساسية التي يعترف بها هذا القانون (الطبيعي) لصالح الدول وهي الحق والمساواة والاستقلال، والحق في الاحترام، الحق في التجارة الدولية، والحق في البقاء... وهكذا فإنّ أي انتهاك لهذه الحقوق يستدعي من الدولة التي وقع عليها الاعتداء أن تعلن حالة الدفاع الشرعي.
ب ـ المدرسة الوضعية الإرادية: ابتداء من القرن 17 برز الكثير من المفكرين الذين أكّدوا ضرورة الاعتداد بالقانون الدولي الوضعي، أي الذي يستمد قوته منت الإلزامية من إرادة الدول. من بين هؤلاء نذكر الإنجليزي "سلدن" Selden"(1548-1654)، والهولندي "بنكرشوك" Bynkerskock(1673-1743) "موزر" Moser(1701-1785).
لكن يأتي على رأس هؤلاء الفقيه السويسري "فاتيل" Vattel(1714-1768) من خلال مؤلفه "قانون الدول أو مبادئ القانون الطبيعي المطبقة على سلوك ومعاملات الأمم والحكام". فهو يختلف عن سابقيه في أنه يرى أن القانون الإرادي هو الذي يقوم بتفسير وترجمة القانون الطبيعي وحتى اللجوء إلى تعديله إذا استدعت مصلحة الدول ذلك حتى يسود التفاهم بينها. وهذا يعني أن القانون الإرادي لا يخضع للقانون الطبيعي وإنما يتوقف على تنفيذ مبادئ هذا القانون الأخير على رغبة وإرادة الدول.
ويمكن حصر أهم المبادئ الأساسية التي جاءت بها المدرسة الوضعية في مجال التنظيم الدولي فيما يلي:
• الدول تتمتع بالسيادة والمساواة فيما بينها.
• المجتمع الدولي هو مجتمع ذات السيادة، ولا توجد فيه سلطة تعلو هذه الدول.
• القانون الدولي هو قانون الدول ولا يطبق على الأفراد.
• مصادر القانون الدولي تستمد من إرادة دول ورضاهم المعبر عنها عن طريق المعاهدات (القبول الصريح) وعن طريق العرف الدولي (القبول الضمن).
• الدول وحدها هي التي تقرر ما يجب أو ما لا يجب عليها في العلاقات الدولية.
• الحرب مشروعة بين الدول.
3 ـ الاكتشافات الجغرافية: لقد كان اكتشاف الطريق البحري حول رأس الرجاء الصالح في جنوب إفريقيا سنة 1487، واكتشاف القارة الأمريكية سنة 1492 أثرا كبيرا في تطور التنظيم الدولي وفتح مجال جديد في القانون الدولي التقليدي، من خلال اشتداد التنافس بين الدول الأوربية خاصة إسبانيا والبرتغال للحصول على المستعمرات، الأمر الذي استدعى تدخل البابا لإصدار المراسيم البابوية Derets pontificaux لتقسيم المناطق المكتشفة بين هاتين الدولتين.
إنّ تأثير هذه الاكتشافات على تطور التنظيم الدولي يبرز خاصة في مجال:
أ ـ نظرية اكتساب السيادة الإقليمية عن طريق ما أثارته من مسائل حول مدى كفاية أو عدم كفاية المراسيم البابوية والاكتشافات الجغرافية كأساس لاكتساب السيادة الإقليمية.
ب ـ طرح فكرة أعالي البحار أو البحر العام La haute mer، وبالتالي تطور قانون البحار نتيجة المنافسة الكبيرة بين القوى البحرية العظمى آنذاك والتي دفعت إلى إدعاء السيادة على البحار.
ج ـ بروز ظاهرة الاستعمار كنظام من أنظمة القانون الدولي التقليدي.
4 ـ حركة الإصلاح الديني ومعاهدة وستفاليا: إن الأخطاء والمظالم التي ارتكبتها الكنيسة الكاثوليكية، إضافة إلى تعسفها في استخدام سلطتها الدينية، قد أدت إلى ظهر حركة تدعو إلى الإصلاح الديني والتحرر من سيطرة هذه الكنيسة. تزعم هذه الحركة كل من الألماني "مارتن لوثر" (1483-1546)، والسويسري "جانكافان"(1509-1564) زعيمي المذهب البروتستنتي.
لقد كان ظهور البروتستنتية سببا هاما في ظهور فترة الصراع الديني بين الدول المسيحية منذ 1517، وكان أخطرها حرب الثلاثين سنة (1618-1648)، وقد انتهت تلك الحروب بإبرام معاهدتي وستفانيا (Westphalie)، الأولى بمدينة "أوسنابروك" Osnabruk في 14/10/1648، والثانية بمدينة "مونسقر" Munster في 24/10/1648.
لقد شكلت معاهدتي وستفاليا أهمية خاصة في نظر الكثير من فقهاء القانون الدولي، حيث يعتبرونها بمثابة شهادة ميلاد للقانون الدولي المعاصر، كما أرست المبادئ الأساسية للقانون العام الأوربي والمتمثلة في:
أ ـ الاعتراف بانحلال الإمبراطوري الرومانية المقدسة وتقسيمها إلى دويلات قومية، وبالتالي ظهور فكرة الدولة الحديثة صاحبة السيادة، أي التي تخضع لسلطة عليا تأتي من الخارج، ومن ثمّة انتهت سلطة البابا والإمبراطور على الدول الأوربية، وأصبحت العلاقات بينها تستند إلى فكرة السيادة بدلا عن استنادها إلى رابطة الوحدة الدينية.
ب ـ إقرار التعايش بين الدول الأوربية الكاثوليكية والبروتستنتية على السواء، ومن ثمّة ظهر القانون الدولي في تلك الفترة باعتباره القانون العام الأوربي والخاص بالجماعة المسيحية بأسرها.
ج ـ إنهاء سيطرة الكنيسة وبالتالي زوال السلطة البابوية من الناحية الزمنية (المجال السياسي) وبقاؤها محصورة في النطاق الديني.
د ـ إقرار مبدأ التوازن الدولي، ويقصد به أنه إذا حاولت إحدى الدول الأوربية التوسع على حساب دول أخرى يكون من حق هذه الدول التكتل لمنع هذه الدولة من التوسع والوصول إلى درجة من القوة بحيث تشكل خطرا على الدول الأخرى، وذلك بهدف الحفاظ على السلم في أوربا. وذلك ما تمّ فعلا عندما تكتلت الدول الأوربية ضد "لويس14" ملك فرنسا عندما حاول التوسع على حساب الدول المجاورة، وانتهى الأمر بإبرام معاهدة "أوترخت" Otrecht سنة 1713، حيث أعيد من خلالها تنظيم أوربا على أساس فكرة التوازن الدولي. وقد استمرت هذه الفكرة السياسة قائمة في أوربا مدة قرن من الزمن ممّا جعل الدول خاصة الصغيرة منها تطمئن على استقلالها.
ه ـ إبراز أهمية المؤتمر الأوربي، أي اجتماع الدول الأوربية في شكل مؤتمر التشاور حول شؤونها وحل مشاكلها في ضوء مصالحها المشتركة.
و ـ ظهور مبدأ السفارات الدائمة بدلا من البعثات المؤقتة، وفي تلك الفترة التزمت الدول المعنية بقواعد القانون الدولي العرفية بالنسبة للحماية المقررة لأعضاء البعثات الديبلوماسية وما يتمتعون به من حصانات وامتيازات.
ز ـ أصبحت المعاهدات الدولية وسيلة أساسية لحل المشاكل الدولية، وبالتالي المحافظة على النظام الأوربي الجديد.
ح ـ أصبحت الحرب حقا من حقوق السيادة تمارسه الدولة متى شاءت وأين شاءت، وذلك انطلاقا من فكرة السيادة ومبدأ تساوي الدول في هذه السيادة، وبالتالي زالت فكرة تقسيم الحروب إلى عادلة وغير عادلة.
لكن عمليا ظلت الحرب الوسيلة الأساسية المشروعة لحماية المصالح وتحقيق الأطماع. وكانت العلاقات الدولية محدودة من حيث موضوعها ومؤقتة من حيث زمانها. فهي لم تكن تشمل سوى بعض المسائل السياسية مثل التحالف والمساعدة في حالة حدوث اعتداء، كما أنها كانت ترتبط بطبيعة العلاقات الخاصة بين الملوك والحكام أكثر من ارتباطها بمقتضيات التعايش الأوربي.
5ـ الثورة الأمريكية: كانت المستعمرات الثلاثة عشرة الواقعة بين كندا والمكسيك (والتي أصبحت فيما بعد الولايات المتحدة الأمريكية) خاضعة للتاج البريطاني، ورغم أنها كانت تدفع الضرائب إلا أنه لم لديها ممثلين في البرلمان البريطاني.
ومع تطور المستعمرات في أواخر القرن 18 وظهور بعض الصناعات الأولية، أدى ذلك إلى بروز نوع من البرجوازية الوطنية ذات النزعة الاستقلالية، قادت الثورة في البداية تحت شعار لا تمثيل لا ضرائب. وتطورت هذه الحركة لتأخذ شكل حرب الاستقلال عن بريطانيا، انتهت بإعلان الاستقلال الصادر في 04/07/1776، وبعده سنة 1787 اجتمعت ثلاث عشرة ولاية أمريكية في مؤتمر بمدينة فيلادلفيا لوضع دستور الدولة الفيدرالية (الاتحادية) الأمريكية.
وتظهر أهمية الثورة الأمريكية في أنها أسفرت عن ميلاد دولة مسيحية مستقلة غير أوربية انضمت إلى ميدان العلاقات الدولية، ولعبت دورا كبيرا بعد ذلك في تثبيت العديد من قواعد القانون الدولي العام، ومن جهة أخرى حركت هذه الثورة شعوب المستعمرات الإسبانية في أمريكا اللاتينية باعتبارها كانت تمثل نموذجا للإصلاح، وتشجيعا للأماني الوطنية، وترتب على الاستقلال مبدأ ضرورة رضا الشعوب عن حكامها، والذي تضمنه فيما بعد الدستور الأمريكي.
6 ـ الثورة الفرنسية: لقد قامت الثورة الفرنسية سنة 1789 كرد فعل عنيف على الاستبداد السياسي والطغيان لملوك في أوربا، وأعلنت عن تقديم العون للشعوب التي ترغب في استعادة حريتها، وبذلك أحدثت صدى عميقا في نفوس الشعوب الأوربية التي كانت تعاني من القهر والاستبداد السياسي، وانتشرت الحروب التحريرية في أوربا في ذلك الوقت.
لقد سعت الثورة الفرنسية إلى إقرار عدد من المبادئ الأساسية أهمها:
أ ـ الاعتراف بالحقوق السياسية والحريات العامة التي يتمتع بها الإنسان في إطار الحرية والمساواة والأخوة، وذلك من خلال المناداة بحقوق الإنسان من خلال بيان حقوق الإنسان والمواطن الذي يعتبر مقدمة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948.
ب ـ التأكيد على أن السيادة ملك للشعب أو الأمة، ويمارسها عن طريق النواب الذين يختارهم الشعب بكل حرية، وهنا فقد ساهمت مؤلفات العديد من المفكرين في إبراز هذه المبادئ، ومن أهمهم نجد:
"مونتيسكيو" من خلال كتابه روح القوانين سنة 1748، "جون جاك روسو" في كتابه العقد الاجتماعي سنة 1763.
ج ـ الإقرار بمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها حتى تتمكن من تكوين دولة على هذا الأساس، وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور مبدأ القوميات بعد ذلك، وكذلك مبدأ حق الشعوب في اختيار حكومتها.
لكن المبادئ السالفة الذكر بقيت شعارات نظرا لأن حتى فرنسا لم تحترمها ولم تلتزم بها، وهذا ما اتخذه نابليون بونابرت فيما بعد من خلال نواياه وأطماعه التوسعية تحت غطاء نشر مبادئ الثورة الفرنسية.
إلى أن تمكن تحالف الدول الأوربية الكبرى (روسيا، بروسيا، النمسا، إنجلترا) من القضاء عليه في معركة "واترلو" في 18/06/1815. والواقع أنّ هزيمة نابليون أتاحت الفرصة لإجماع الدول الأوربية للنظر في المسائل المترتبة على ذلك وبالذات لإعادة تقسيم خريطة أوربا بما يحقق التوازن الذي اختلّ بسبب الثورة الفرنسية وحروب نابليون.
ثانيا: المرحلة الثانية (1815-1914):
أهم ما يميز هذه المرحلة هو تحرر القانون الدولي من الطابع الأوربي مع مطلع القرن 19، حيث اتّسع نطاق المجموعة الدولية ليشمل إلى جانب الدول الأوربية بعض الدول الأمريكية التي حصلت على استقلالها وأهمها الولايات المتحدة الأمريكية. كما تخلّص القانون الدولي من الصيغة المسيحية ابتداء من منتصف القرن 19 عندما انضمّ غلى ميدان العلاقات الدولية لأول مرة دول غير مسيحية مثل الدولة العثمانية والصين واليابان. إضافة إلى ذلك برزت ظاهرة عقد المؤتمرات الدولية في أوربا، وكثرة استعمال المعاهدات كوسيلة لتسوية القضايا الدولية.
1 ـ ظاهرة عقد المؤتمرات: عرفت هذه المرحلة ظاهرة عقد المؤتمرات كوسيلة جديدة للنظر في الأمور الدولية. من أهم هذه المؤتمرات نجد مؤتمري فينا وبرلين.
فمؤتمر فينا انعقد منذ جوان 1814 واستمر إلى جوان 1815، وقد جاء لإعادة النظر في التوازن بقارة أوربا الذي انهار بسبب الحروب نابليون وأطماعه التوسعية، وبالتالي لضمان الاستقرار السياسي، وقد كان الجهاز المكلف بضمان تنفيذ مقررات هذا المؤتمر يعرف باسم Directoire Européen، مكونا من الدول الأربع المنتصرة وهي: روسيا، بروسيا النمسا وإنجلترا.
تضمنت معاهدة فينا الصادرة عن المؤتمر في 09 جوان 1815 عدة مسائل أهمها:
أ ـ إعادة تنظيم التوازن الأوربي: وهنا اختلفت آراء الدول المشاركة (بريطانيا، بروسيا، النمسا، روسيا، إسبانيا، البرتغال، السويد وفرنسا) حول التوازن.
وجهة النظر الأولى تقودها فرنسا، ترى ضرورة أن يأخذ المؤتمر بعين الاعتبار إلى جانب هذا التوازن السياسي مبدأ المشروعية Principe de la légitimité، وهذا الأخير يعني احترام الحق الشرعي للملك على إقليمه ورعاياه نظرا لوجود رابطة مقدسة أبدية تربط بين الملك والإقليم الذي يحكمه.
أما وجهة النظر الثانية فتزعمتها بروسيا، وكانت تعارض مبدأ المشروعية، على أساس أن عمل المؤتمر هو ذو طبيعة سياسية فقط، وبالتالي لا بد من التركيز على معالجة مبدأ التوازن السياسي ورغبات الدول المشاركة.
لكن الاتجاه العام للمؤتمر سار مع وجهة النظر الفرنسية، حيث تقرر عدم الاعتراف بغير الملكيات الشرعية التي قضى عليها نابليون، حيث عادت عروش ملوك النمسا، إسبانيا، بروسيا ونابولي. ومن جهة أخرى تمّ اللجوء إلى بعض التسويات دون رغبات الشعوب كما حصل في تقسيم بولونيا بين كل من روسيا وبروسيا والنمسا، وضم بلجيكا إلى هولندا، وإنشاء حكم ملكي بين السويد والنرويج، كل ذلك أدى إلى تسمية سياسة هذا المؤتمر بأنها رجعية.
كما حصل الاتفاق على التدخل للمحافظة على الأوضاع السائدة بالقضاء على الحركات الثورية التي قد تحدث بإحدى الدول الأوربية. ووضع هذا الاتفاق موضع التطبيق عندما صدرت المعاهدة المعروفة بالحلف المقدس La sainte alliance في 26/09/1815، وهو اتفاق بين روسيا والنمسا وبروسيا ثم انضمّت إليهم إنجلترا، فرنسا، السويد، إسبانيا والبرتغال. يقوم نظريا على أساس تعهد هذه الدول بانتهاج سياسة تستند إلى مبادئ الأخلاق المسيحية المستمدة من الكتب المقدّسة.
لكن في الواقع لم يكن هذا التحالف سوى اتحاد شخصي بين ملوك تلك الدول، هدفه قمع الثورات الداخلية والحفاظ على العروش، وبالتالي المحافظة على الأوضاع الإقليمية في القارة، ذلك لا يتأتّى إلا بمواجهة مبادئ الثورة الفرنسية خاصة مبدأ حق تقرير المصير وتساوي الدول، وذلك ما تمّ مثلا في إسبانيا (1820) وإيطاليا (صقلية في 1821).
الشيء الملاحظ أنّ كل دول الحلف المقدّس عندما حاولت التدخل للقضاء على الحركات الثورية التي اندلعت في بعض المستعمرات الإسبانية والبرتغالية في القارة الأمريكية، وجدت معارضة شديدة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية، حتى خلال التصريح الشهير لـ "جيمس مونرو" في 02/12/1823، حيث اعتبر أن بلاده سوف تعتبر أي تدخل من جانب دول الحلف المقدّس خاصة في شؤون الدول الأمريكية الجنوبية حديثة الاستقلال بمثابة خطر يهدد سلامتها، وهو ما كان له اثر في تحديد العلاقات بين الدول الأوربية والدول الأمريكية.
إنّ الحلف المقدّس لم يدم أكثر من عشر سنوات لينهار بعد ذلك من جرّاء انتشار الأفكار والحركات التحررية وظهور مبدأ القوميات.
ب ـ إقرار التنظيمات القانونية الدولية تمثلت فيمايلي:
• تنظيم البعثات الديبلوماسية من خلال سن قوانين خاصة بالوضعية الخاصة للمبعوثين الديبلوماسيين.
• تنظيم الملاحة بالأنهار الدولية مثل نهر الراين والدانوب.
• وضع سويسرا في حالة حياد دائم Neutralité permanente.
• منع تجارة الرقيق.
أما بالنسبة لمؤتمر برلين لسنة 1885، فقد تمّ في إطار تقسيم مناطق النفوذ خاصة بقارة إفريقيا بين الدول الأوربية الكبرى، وكان ذلك بمثابة التكريس القانوني لنظام الاستعمار.
وهكذا بالتدريج أصبحت المؤتمرات الدولية وسيلة ضرورية للنظر في القضايا الدولية المستجدة وتطلبت حلولا جماعية، فكانت تنعقد كلما استدعى الموقف ذلك، غير أنّ تعدد المؤتمرات التي كان يغلب عليها الطابع السياسي تطلب عقد مؤتمرات فنية (أي متخصصة في جوانب إجرائية أو مهنية) للموضوعات المشتركة بين الدول ذات العلاقة.
2 ـ تقارب الدول الأمريكية: أخذت المستعمرات الإسبانية والبرتغالية تثور وتستقل، وهناك عوامل كثيرة ساعدت على تحقيق التقارب بين شعوب الأقاليم الأمريكية منها:
أ) التجاور الجغرافي، ب) التاريخ المتشابه، ج) النضال ضد عدو واحد متمثل في المستعمرين الأوربيين، د) الخوف من مساعدة دول المؤتمر الأوربي لإسبانيا والبرتغال على استرجاع مستعمراتهما.
وانطلاقا من هذا الواقع تقمصت الولايات الأمريكية دور الحامي لاستقلال الدول الأمريكية، فأصدر رئيسها "جيمس مونرو" تصريحه المشهور سنة 1823 الذي كان لها تأثير على السياسة الدولية، وخاصة على تطور العلاقات بين أوربا وأمريكا حيث جاء فيه:
أ) حق الدول الأمريكية في الاستقلال، ب) عدم جواز استعمار أي إقليم من البلاد الأمريكية، ج)عدم جواز تدخل الدول الأوربية في شؤون دول العالم الجديد.
وكما كانت دول المؤتمر الأوربي تتجمع وتتشاور، مشتركة في معالجة الشؤون الدولية، فإنّ الدول الأمريكية هي الأخرى تعقد المؤتمرات الدورية محاولة تنسيق العلاقات المتبادلة بينها فابتدأت أول الأمر بإنشاء مكتب تجاري للجمهوريات الأمريكية عام 1889 تحول فيما بعد إلى اتحاد الدول الأمريكية.
3 ـ مبدأ القوميات Principe des nationalités : لقد لعبت القومية دورا هاما في العلاقات بين الدول خاصة في القرن 19 ومطلع القرن 20.
إنّ الحديث عن مبدأ القوميات يرتبط قبل كل شيء بتحديد معيار القومية أو الأمة، فالقومية أو الأمة تعرف حسب الفقهاء على أنها رباط روحي يوجد بين مجموعة من الأفراد تجمعهم صلات روابط مشتركة كالعرق، الدين، اللغة، التاريخ، المصير المشترك، التقاليد والعادات... إلا أنّ الخلاف تمحور حول المقوم الأساسي في تشكيل الأمة. لذلك نجد أنه في تلك الفترة وعلى المستوى الفكري النظري برزت نظريتان أساسيتان في الفقه الغربي، طرحتا بمناسبة النزاع بين ألمانيا وفرنسا حول السيادة على مقاطعتي الألزاس واللورين، النظرية الموضوعية وتمثلها المدرسة الألمانية، والنظرية الشخصية أو الإرادية وتمثلها المدرسة الفرنسية.
أ ـ المدرسة الألمانية: تنطلق من اعتبارات موضوعية في تحديد مفهوم الأمة. فهناك اتجاه يرى أنّ اللغة هي المعيار الأساسي الوحيد للأمة، ودافع عن هذه الفكرة الفقيه الألماني "مومسن" Mommsen حيث يقول: "إذا كان الألزاسيون قد فقدوا وعيهم القومي بسبب الاحتلال الفرنسي فإنهم لا يزالون ألمانا باللغة...".
وهناك اتجاه يرى أن العرق هو المعيار الأساسي للأمة، أما اللغة فهي مجرد معيار تابع وكاشف عن العرق. ومن بين هؤلاء فيما بعد نجد مثلا "هتلر" Hitler من خلال كتابه "كفاحي" Mankeifسنة 1933.
ب ـ المدرسة الفرنسية: تنظر إلى الأمة انطلاقا من اعتبارات نفسية ـ إرادية Psycho- volontariste، وبالتالي هي مجموعة من الأفراد اتفقت مشيئتهم (إرادتهم) على أن يعيشوا سويا مع بعضهم البعض... ومن بين المدافعين عن هذه النظرية نذكر الفرنسيان "آرنست رينان" Ernest Renan و"فوستيل دي كولانج" Fustel De Coulanges.
لكن يعاب على هذه النظرية أنّ الإرادة لا تصلح لوحدها في تفسير ظاهرة الأمة على أساس أنّ الإرادة لا تقوم على فراغ وإنما لا بد من وجود دوافع وأسباب تجعل الأفراد يلتفون حولها.
هكذا فإنّ مبدأ القومية يعني أنّ لكل دولة (أو كل شعب) الحق في تقرير مصيرها، وبالتالي تشكل دولة وطنية مستقلة خاصة بها. ولذلك ارتباط مبدأ تقرير المصير في هذه الفترة بمبدأ القوميات هو الذي دفع إلى تسميته بمبدأ تقرير المصير القومي.
من الناحية الواقعية، نجد أن هذا المبدأ قد نجح في كثير من الحالات مثل انفصال اليونان عن الدولة العثمانية سنة 1830، وانفصال بلجيكا عن هولندا سنة 1831، والوحدة الإيطالية سنة 1871، والوحدة الألمانية سنة 1871...
وهنا لابد من الإشارة إلى أنّ ظهور مبدأ القوميات قد لعب دورا أساسيا في القضاء على سياسة الحلف المقدّس، وتمهيد الطريق نحو اتباع سياسة أوربية جديدة عرفت بسياسة الوفاق الأوربي Concert européen، كانت تهدف هذه السياسة إلى تحقيق الأمن على مستوى القارة وإيجاد التسويات للمنازعات التي قد تنشأ بين الدول الأوربية. وكان تنفيذ هذه السياسة يتم عن طريق عقد مؤتمرات ترجي بصفة شبه دورية بناء على طلب إحدى الدول الكبرى، وذلك ما ساهم في إرشاد كثير من قواعد القانون الدولي العام من خلال الاتفاقيات التي كانت تبرم في ظل هذه المؤتمرات.
4 ـ انتشار استعمال المعاهدات: برز بشكل واضح خلال هذه الفترة اللجوء المكثف لإبرام المعاهدات، التي أصبحت أسلوبا قانونيا تلجأ إليه معظم الدول في تعاملاتها المتبادلة لمعالجة قضايا عديدة أساسها ضمان التوازن على الصعيد الأوربي أو تجنب الحروب وحل المشاكل المتعلقة بمناطق النفوذ، وذلك ما ساعد على تطور التنظيم الدولي. ومن أهم هذه المعاهدات نذكر على سبيل المثال معاهدة باريس سنة 1856 خاصة بقانون البحار، المعاهدات المنظمة لوضع المضايق التركية والبحر الأسود (1841، 1856، 1871، 1878)، اتفاقية جنيف بشأن وضع أسرى الحرب سنة 1864، اتفاقية بروكسل بشأن حظر تجارة الرقيق سنة 1890...
وتبقى المعاهدات التي كان لها تأثير كبير على تطور قواعد التنظيم الدولي هي دون سك معاهدتي "لاهاي" لسنتي 1899 و1907 اللتان تضمنتا معالجة مسألة السلم في العالم عن طريق صياغة قواعد خاصة لحل النزاعات الدولية سلميا، وسن قواعد قانونية لتنظيم حالة الحرب وحالة الحياد. كما اقترحت إنشاء محكمة تحكيم دولية دائمة يكون مقرها بمدينة "لاهاي" للنظر في النزاعات الدولية.
كما تبرز أهمية هاتين المعاهدتين من حيث أنهما جاءا يف وقت السلم، وهو ما يعني ظهور نوع من الديبلوماسية الجماعية في وقت السلم، وعدم قصرها على الدول الأوربية بل ساهمت فيها أيضا دول غير أوربية.
5 ـ اتّساع العلاقات الدولية: لقد ساعد انتهاج سياسة الوفاق الأوربي (التي طبعتها الدول الأوربية) على تهيئة المحيط العام ليصبح أكثر ملاءمة لقبول فكرة المساواة القانونية بين الدول. هذه المساواة برزت من خلال إقرار سياسة الباب المفتوح في ميدان العلاقات الدولية، مما سمح بدخول دول جديدة إلى المجموعة الدولية آنذاك مثل الدولة العثمانية (ولو بنية تقييدها بجملة من الالتزامات الدولية للتمكن من التصرف في البلاد التي تقع تحت حكمها) خلال مؤتمر باريس سنة 1856، وكذا الصين واليابان...، وبالتدريج ارتفع عدد أعضاء الجماعة الدولية بمناسبة انعقاد مؤتمر لاهاي الثاني سنة 1907، حيث بلغ عدد الدول المشاركة 44 دولة من بينها 19 دولة أمريكية ودولتين من إفريقيا.
ثالثا ـ المرحلة الثالثة (منذ 1914) أو المجتمع الدولي المعاصر:
لقد شهدت الفترة الممتدة من 1914 إلى سنوات التسعينات الحالية حدوث تغيرات هامة على الساحة الدولية، وظهور عوامل أساسية جديدة أثرت بشكل أساسي على تطور المجتمع الدولي، وبالتالي تطور قواعد القانون الدولي، ويمكن إجمال تلك العوامل الأساسية في العناصر التالية:
1 ـ تبلور التنظيم الدولي: إنّ المجتمع الدولي المعاصر هو مجتمع منظم لأنه يخضع لجملة من القواعد تنظم العلاقات داخله (بين أعضائه). ورغم الحروب والمآسي التي عرفتها هذه المرحلة، إلا أنها بالمقابل سجّلت العديد من المؤتمرات والاتفاقيات والمعاهدات التي تهدف إلى إرساء وتطوير التعاون بين الدول، إضافة إلى ذلك بروز ظاهرة التنظيم الدولي من خلال إنشاء المنظمات الدولية لنفس الغرض، وظهور الشركات المتعددة الجنسيات.
إنّ فكرة التنظيم الدولي هي فكرة قديمة، طرحها العديد من المفكرين لكن لم تتجسّد ميدانيا إلا بعد الحرب العالمية الأولى (ح.ع.1) عندما أنشئت أول منظمة عالمية ذات طبيعة سياسية ـ قانونية هي عصبة الأمم بمقتضى معاهدة فرنسا في 28/04/1919 من أجل حفظ السلم في العام وتنظيم العلاقات الدولية، وفتحت بذلك عهدا جديدا في العلاقات الدولية.
ولكن لما انهارت العصبة سنة 1939 عندما عجزت عن حل الكثير من النزاعات الدولية والتي من أهمها قيام الحرب العالمية الثانية (ح.ع.2) وما أفرزته من دمار وخراب، جاءت منظمة الأمم المتحدة سنة 1945 وأكثر من ذلك فإن اعتبارات التضامن بين الدول خاصة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، دفع ذلك المجموعة الدولية إلى تأسيس منظمات دولية متخصصة يف عدة مجالات تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة.
وهكذا فإنّ المجتمع الدولي المعاصر يشهد تزايدا ملحوظا في عدد المنظمات الدولية، وبالتالي كان لهذه الظاهرة (التنظيم الدولي) انعكاسات عميقة على تطور المجتمع الدولي وتطور قواعد القانون الدولي، بدليل الاعتراف القانوني بأنّ المنظمة الدولية هي شخص من أشخاص القانون الدولي؛ أي أنها مخاطبة بأحكام هذا القانون، وبالتالي تتمتع بالشخصية القانونية الدولية. وقد تأكّد ذلك بوضوح في الرأي الاستشاري الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في 11/04/1949 في قضية تعويض الأمم المتحدة عن الأضرار التي تلحق بموظفيها أثناء تأدية مهامهم، وهي القضية التي أثيرت بعد مصرع وسيط الأمم المتحدة في فلسطين "الكونت برنادوت" على يد العصابات الصهيونية في سبتمبر 1948، وال>ي قد قدم إلى فلسطين لتقصي الحقائق حول الوضع العام إثر وقوع أول حرب عربية إسرائيلية في 1948.
2 ـ عالمية المجتمع الدولي: بعد أن زال الطابع الأوربي المسيحي عن المجتمع الدولي مثلما كان الحال في القانون الدولي التقليدي (القانون العام الأوربي) من خلال بروز دول غير أوربية على الساحة الدولية (مثل الولايات المتحدة الأمريكية) ودول غير مسيحية (تركيا، اليابان)، تطور الأمر إلى ارتفاع عدد أعضاء هذا المجتمع الذين ينتمون إلى ثقافات وحضارات مختلفة، خاصة بعد انهيار النظام الاستعماري بفعل الحركات التحررية في قارتي آسيا وإفريقيا، واستقلال العديد من الدول منذ الستينات.
إنّ ظهور هذا الكم من الدول الحديثة الاستقلال جاء بآثار جديدة مست العلاقات الدولية من خلال سعيها إلى توحيد جهودها والتكتل للدفاع عن مصالحها في مواجهة الدول الكبرى المتقدمة (التي وضعت قواعد القانون الدولي) ليس على الصعيد السياسي الدولي، بل أيضا في مجال القانون الدولي الذي يحكم المجتمع الدولي وينظم العلاقات داخله، حيث حرصت هذه الدول على السعي لتقرير المزيد من الحقوق لها تمكنها من تجاوز مختلف الصعوبات التي تعاني منها بحكم معاناتها خاصة من مخلفات الاستعمار.
إضافة إلى ذلك عرفت نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من هذا القرن بروز ظاهرة الوعي القومي في أوربا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي سابقا وتفككه، وتراجع النظام الشيوعي، مما أدى إلى تفكك عدة دول مثل يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، واتحاد دول أخرى كالألمانيتين الشرقية والغربية. وحاليا فإنّ عدد الدول الأعضاء يف منظمة الأمم المتحدة وصل إلى 185 دولة (آخرها دولة "بيلاو" الواقعة في المحيط الهادي التي انضمت في سبتمبر 1974) بعد أن كان عدد الدول التي وقعت سنة 1945 على ميثاق سان فرانسيسكو 51 دولة فقط.
3 ـ تقسيم العالم: بعد انتهاء ح.ع.2 بدأت المصالح تغلب على الهداف المشتركة كما بدأت الأطماع تحتل المكانة الأولى في سياسة الدول، الأمر الذي ترتب عليه أن حلفاء الأمس أصبحوا أعداء اليوم.
زاد من شدة هذا الاختلاف وجود اختلاف آخر بين السياسة المطبقة في الدول المختلفة فقد ظهر الاتحاد السوفياتي كأحد القوى القطبية في العالم، وكذلك باعتباره الدولة الاشتراكية الكبرى التي تحاول أن تحمي نظامها وتعمل على توسيع تطبيقه في البلاد المختلفة، ويف نفس الوقت خرجي الولايات المتحدة الأمريكية من الرحب أيضا كقوة قطبية أساسية في العالم الغربي التي تطبق المذهب الفردي والنظام الرأسمالي، ومن ثمّة تسعى غلى حماية هذا النظام وتوسيع دائرة تطبيقه.
وقد استدعى هذا الوضع أن تقوم كل قوة بتكوين تجمع دولي حولها يتحقق فيه قدر معين من الانسجام والتنسيق. وهكذا كان الاختلاف المذهبي عاملا أساسيا في ظهور الكتل الدولية (الكتلة الشرقية والكتلة الغربية أو الدول الاشتراكية والدول الرأسمالية). هذه الكتل الدولية قامت من اجل تحقيق ما كانت تهدف إليه الأحلاف يف الماضي لكن تتميز بقيامها على استراتيجية أكثر ثباتا ورسوخا من الحلاف القديمة.
ومع ظهور هذا التنازع الواضح بين هاتين الكتلتين، وسعيا وراء تأكيد استقلال الشعوب المستعمرة، ورغبة في إحلال الأمن والسلام في العالم على أسس من العدل والتعاون المشترك، ظهرت مجموعة دولية أكثر مرونة في تشكيلها ومذهبها من المجموعتين السابقتين، كما أنها أكثر بعدا عن الاهتمام بمسائل التنظيم العسكري. هذه الفئة الجديدة تشمل ما يعرف باسم مجموعة دول عدم الانحياز.
أ ـ دور الكتلة الغربية: أو الدول الرأسمالية، فمنذ ح.ع.2 كانت الدول الغربية وعلى رأسها (و.م.أ) تدرك مدى عدم التوافق بعد الحرب مع الاتحاد السوفياتي، وكمحاولة لحماية أوربا الغربية من السيطرة الروسية (خاصة بعدما حدث في بولندا سنة 1945 وتشيكوسلوفاكيا سنة 1948) بدأت (و.م.أ) في تزعم قيادة الدول الغربية في مواجهة المد السوفياتي، وقد اقتضى ذلك ضرورة قيامها بأمرين أساسيين هما: الأول: مساعدة أوربا الغربية للخروج مما ترتب على الحرب من دمار، ولذلك جاءت خطة الجنرال "مارشال" التي أعلن عنها في "هارفرد" في 05/07/1947. والثاني: تقرير نظام دفاع مشترك يكفل الدفاع عما يسمى بالعالم الغربي، تحقق من خلال حلف شمال الأطلسي، وبررت ذلك على أنه اتفاق للدفاع الشرعي الجماعي.
ب ـ دول الكتلة الشرقية: كان للقوات الروسية دور كبير في تحرير كثير من الدول الأوربية الواقعة في شرق ووسط القارة الأوربية من القوات الألمانية. وبمجرد انتهاء الحرب حاول الاتحاد السوفياتي فرض سيطرته على هذه الدول، حيث ساعد على إقامة نظم اشتراكية فيها. وكمحاولة لحماية هذه الدول من تأثير الدول الغربية، عمد الاتحاد السوفياتي إلى إقامة نوع من التحالف الجماعي بين هذه الدول المختلفة. هذا التحالف يقوم على أساس منظمتين هما حلف وارسو (يختص بالمسائل العسكرية) ومنظمة الكوميكون (تختص بالأمور الاقتصادية).
لقد عرفت دول المجموعة الشرقية مبدأين أساسيين هما: مبدأ البروليتارية الدولية، مبدأ التعايش السلمي، ولكل منها مجال للتطبيق. فالأول: مخصص فقط للدول الاشتراكية، أما الثاني: فيدخل في إطار العلاقات بين الدول الاشتراكية وغيرها من الدول الأخرى خاصة الغربية منها.
فمبدأ البروليتارية الدولية: يشكل أساس أشكال التعاون المختلفة بين الدول الاشتراكية وبالتالي أساس العلاقات بينها، وهو يعلو على مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول، وذلك في حالة ما إذا كانت الاشتراكية في خطر. وهذا ما طبق في المجر عام 1956، وتشيكوسلوفاكيا عام 196، لأنه في الواقع الاعتبارات السياسية هي التي تحكم العلاقات الروسية مع دول الحلف (وارسو) وليست المقتضيات القانونية. هذه الاعتبارات السياسية تخضع لتقدير السلطة الروسية وحدها. ولعلّ احسن دليل على ذلك ما يعرف بمبدأ "برجتيف" عن السيادة المحدودة للدول الأوربية المتخالفة مع الاتحاد السوفياتي، بل أن هذا التحديد يخضع للتقدير المطلق للسلطة الروسية. وهكذا لم يكن ليستمر هذا المبدأ خاصة بعدما اتضحت أوجه التفاوت بين الشعوب والحكام في هذه الدول. كما أنّ المصالح الاستراتيجية تتحكم في العلاقات بينها.
السيادة:
1ـ ظهور فكرة السيادة: السيادة تجد مصدرها الأول بالمفهوم الغربي في الصراع بين الملوك وأمراء الإقطاع من جانب وفي النزاع بين السلطتين الدينية والزمنية من جانب آخر.
ـ والسيادة مفهوم حديث ذو اصل فرنسي ارتبط بظروف الصراع بين أمراء الإقطاع وملوك فرنسا خلال العصور الوسطى.
ـ وتعود مبادرة صياغة وبلورة هذا المدلول للسيادة إلى الفقيه الفرنسي (جون بودان) الذي عرض في مؤلف نشر عام 1576 تحت عنوان الكتب الست للجمهورية (حيث يرى أن السيادة غبر قابلة للتجزئة).
2 ـ تعريف السيادة: تعددت تعاريف السيادة
أ ت السيادة هي السلطة العليا.
ب ـ السيادة وصف للسلطة وخاصة من خصائصها الأساسية.
ـ معنى السيادة في الأصل الأول الغربي يقيد السلطة العليا الآمرة في الدولة، لكن مادامت الدولة شخص معنوي فمن صاحب السيادة إذا؟
ـ في الجواب على هذا السؤال تعددت الآراء.
ـ فقال كل من بودان وهوبز أن السيادة ملك الملك، وقال وجون جاك روسو أن السيادة ملك الإدارة العامة (الأمة) وجعلت الثورة الفرنسية السيادة للأمة أيضا. ثم تطورت الأوضاع في العصر الحديث، وأجمعت أغلب دساتير الدول الحديثة على أن السيادة ملك للشعب.
3 ـ أساس السيادة:
المشكلة الأساسية في موضوع السيادة هي: كيف تسمو إرادة إنسانية على إرادة إنسانية أخرى وأجابت عن هذا السؤال عدة نظريات هي:
1. نظريات دينية (تيوقراطية): ومنها نظرية الحق الإلهي المباشر ونظرية الحق الإلهي غير المباشر.
2. نظريات ديمقراطية: ومنها نظرية العقد الاجتماعي.
كما قامت مدارس مختلفة في دراسة موضوع السيادة والبحث في أساسها وجوهرها وممارستها ومنها.
1 ـ المدرسة التاريخية: أسسها سافيتي الذي يعتقد أنا مصادر القانون هي عادات وأعراف الأمم ومن ثمّة فالسيادة للأمة.
2 ـ المدرسة الوضعية: أسسها دي مارتز القائل أنه مادام القانون هو نتاج سيادة الدولة وهذا القانون نفسه هو الذي يقيد ويحكم الدولة لكنه يجب أن يصدر عن إرادتها (المتمثلة في المعاهدات والعرف).
3 ـ مدرسة السيادة المطلقة: وهي مدرسة ألمانية وأسسها جورج جيلينيك وترى أن سيادة الدولة مطلقة دون قيد أو أي حد وقد قال هيقل بهذا النظرية أيضا.
4 ـ مدرسة حقوق الدول: وهي مدرسة فرنسية وأسسها بيليه الذي يعتقد أن أساس القانون الدولي يكمن في الحقوق التي تتمتع بها كل دولة في نطاق علاقات التعايش بين أعضاء الأسرة الدولية التي يجب أن يتم الاعتراف بها وأهم هذه الحقوق هي: حق البقاء، والاستقلال والاحترام، والتعامل مع الغير.
مظاهر السيادة: لسيادة الدولة مظهران، داخلي وخارجي.
الداخلي: وهي مباشرة الدولة بكل استقلالية اختصاصاتها وسلطتها على شعبها وإقليمها ومرافقه العامة وتختار النظام السياسي الذي يلائمها.
الخارجي: قيام العلاقات بين الدولة والدول الأجنبية على أساس المساواة في السيادة وعدم التدخل، وحق الدول في استقلالها ثرواتها.
ومن صفات هذه السيادة أيضا:
1. غير قابلة للتجزئة أو التقسيم في الدولة الواحدة.
2. غير قابلة للتصرف (لا بيع ولا تنازل، ولا تملّك...).
3. لا سيادة إلا سيادات الدول.
5 ـ تطور مفهوم السيادة: تطور مفهوم السيادة عبر المراحل التاريخية المختلفة لتطور المجتمع الدولي:
1ـ في العصور القديمة: كان الحاكم يعتبر سيدا على المواطنين جميعا يمارس سلطانه دون حدود أو ضوابط، ومع ذلك ظهر فكرا ينادي بمعرضة ذلك. فظهر كونفوشيويس في الصين القديمة نادى بإقامة جمهورية عالمية تستند إلى رضا الشعب الذي يملك السيادة.
ـ أما اليونانيون فقد كرّسوا مبدأ استقلالية الدول المختلفة وتمتعها بالسيادة داخليا وخارجيا حتى داخل اليونان الكبرى.
ـ وعند الرومان نجد السيادة أصلها الأول في تنظيم العائلة الرومانية التي يقف على رأسها سيدها وذلك استنادا إلى النظام القبلي كما هو الحال في المجتمع العربي قبل الإسلام (العهد الجاهلي).
2 ـ في القرون الوسطى: تميّز عهد سيطرة الإقطاع في أوبا بتعدد أصحاب السيادة يف الدولة الواحدة (المجتمع الواحد) لأن الإقطاعيين من الملاك الكبار كانوا يشاركون الملوك في السلطة.
كما عرف هذا العصر صراع بين السلطة الزمنية والدينية، وانتهى باعتماد العلمانية في الدول الأوربية التي قضت بفضل الدين عن الدولة.
3 ـ العصر الحديث: ارتبط اسم نظرية السيادة باسم (جودان بودان)(1530-1596) حيث عرف السيادة: "السلطة العليا على المواطنين والرعايا والتي لا تخضع إلا للقانون"
ـ لكن ابن خلدون (1332- 1406) كان أول من وضع نظرية في سيادة الدولة.
6 ـ انتهاك السيادة: إذا كان المبدأ العام الدولي المعاصر يقضي احترام سيادة الدول فالواقع الدولي قد عرف صورا كثيرة لانتهاك السيادة منها:
ـ الاستعمار، الانتداب، التدخل، الحماية والوصاية.
تعريف الاعتراف: يعني الاعتراف بأمرها وهو ما يتعلق مع قوله تعالى: "فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير"[الملك، الآية ].
أما في القانون الدولي فالاعتراف هو: "ينصرف الاعتراف إلى كل ما يصدر عن الإرادة المنفردة لأي من أشخاص القانون الدولي العام من تصرفات قانونية من جانب واحد تستهدف الإقرار بقيام وضع دولي معين والسلم بمشروعيته".
ملاحظة: هذا التعريف يشترط المشروعية في موضوع الاعتراف ليكون صحيحا أما إذا تعارض مع قاعدة دولية آمرة فيعد غير مشروع وباطل.
ـ تنوع مواضيع الاعتراف حسب الأوضاع المعترف بها إذ هناك الاعتراف باكتساب إقليم أو فقدانه، وإقامة نظام حياد دائم، رسم الحدود، تغير حكومات، حركات تحرير، حالات حرب.
ـ ويكفي في الاعتراف الإرادة المنفردة أو بالامتناع أو التقبل الناتج عن السكوت بشأن وضعية ما كان من المفروض اتخاذ موقف بشأنها.
ـ وأهم نقطة يثيرها هو عندما تتعلق المسألة بوجود دول أو حكومات بين النظرية المنشئة والنظرية المقرّرة.
أهمية الاعتراف:
1. هدفه تيسير اتصال الحكومة الجديدة بحكومات دول أخرى.
2. يسهل إقامة العلاقات بين البلدان، فالدول الجديدة لا تدخل في علاقات قانونية إلا مع الدول المعترف بها، والانضمام للهيئات يكون بعد الاعتراف.


عدل سابقا من قبل khaled في الإثنين 11 مارس 2013 - 20:24 عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
baconecdz
baconecdz


مدير المنتدى : خالد khaled
مدير المنتدى : خالد khaled


الجنس الجنس : ذكر
هوايتي : الرياضة
مسآهمآتے مسآهمآتے : 11463
التقييم التقييم : 368

محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق Empty
مُساهمةموضوع: رد: محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق   محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق Emptyالإثنين 11 مارس 2013 - 20:22

محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق ل م د (03)

نظريات الاعتراف:
1ـ النظرية المنشئة: يرى أنصار هذه النظرية أن الاعتراف هو الذي ينشئ الدولة، أو على الأقل يضفي عليها الشخصية القانونية الدولية، ولهذا فظهور الدولة يتوقف على الاعتراف بها من طرف الدول الأخرى.
ـ ويتبنى هذه النظرية ممثلو المدرسة الإرادية في القانون من الألمان (تريبل، وجينيلاك) ومن إيطاليا (كفالياري) ومن بريطانيا (لوترباخت).
ـ وهذه النظرية هي وجهة نظر حاولت الدول الاستعمارية الاستناد على أسسها حتى تحرم الأقاليم المستعمرة من الاستقلال، وكانت الدول المسيحية تعتمد معيار الاعتراف لقبول عضو جديد يف نطاق القانون الدولي التقليدي ذي الطابع المسيحي.
ـ ومن الانتقادات الموجهة لهذه النظرية:
• أنها نظرية سياسية تخدم وجهة نظر المصالح الخاصة بالدول المعترفة التي تعترف بما يفيدها سياسيا.
• أنها تتناقض مع مبدأ المساواة القانونية فيما بين الدول.
• النسبية في وجود الدول (أي توجد بالنسبة للمعترفين فقط).
2 ـ النظرية المقرّرة: ظهرت كرد فعل للنظرية المنشئة ومفادها أنه متى اجتمعت للدولة العناصر الأساسية (إقليم، شعب، سلطة) تصبح شخصا قانونيا دوليا وتدخل إلى المجتمع الدولي دون إذن الاعتراف بها.
3 ـ النظرية التوفيقية: فقد ذهب لوترباخت وكافنهايم إلى القول بأنه من واجب الدول أن تعترف بغيرها متى توفرت في الدولة عناصر قيامها.
ـ غير أن هذا الرأي ما هو إلى خطوة للتخلي عن النظرية المنشئة بحيث أنه إذا كان من واجب الدولة أن تعترف كلما توفرت شروط معينة في الدولة المنصب عليها الاعتراف فما ذلك في حقيقة الأمر سوى إقرار بوجود حالة وحقيقة قائمة.
أنواع الاعتراف:
بما أن الاعتراف ذو طبيعة اختيارية من حيث المبدأ، وأنه يقترن بظروف سياسية واقتصادية واجتماعية فإننا نجد يف الحقيقة أنواعا مختلفة للاعتراف.
ـ إن أضعف أنواع الاعتراف هو الاعتراف المحدود وذلك كوجود دولتين لا تعترفان ببعضهما البعض ولكن تجمعهما الظروف كونهما أطراف في معاهدة متعددة الأطراف أو أعضاء في منظمة دولية، فهذا يفرض عليهما التعامل يف إطار المنظمة أو طبقا للمعاهدة لتحقيق الهدف منها.
ـ الاعتراف الواقعي: هو اعتراف مبدئي ينطوي على نوع من التردد والتخوف تجاه الكائن الجديد وذلك في انتظار الاعتراف الكامل وسبب ذلك هو عدم وجود الاستقرار يف الكائن الجديد.
مثال ذلك: اعتراف بريطانيا بالاتحاد السوفياتي في 1924، اعتراف قانون 1924، اعتراف أمريكا وكثير من دول الغرب بالاتحاد السوفياتي والصين اعتراف واقع تحول إلى اعتراف قانوني.
الاعتراف القانوني: أو كما يطلق عليه الاعتراف الكامل فهو الاعتراف الواقعي لا شكّ ولا تردد فيه بالنسبة للدولة المعترفة، فالاعتراف القانوني هو ما 00000 كل كائن جديد.
ـ إن الاعتراف القانوني آثاره حقوق بكثير أثار الاعتراف الواقعي خاصة من الناحية السياسية. وقد ينتج عن ذلك معاملة خاصة يف القوانين الداخلية للدولة المعترفة، فإذا طالبت دولة تحصلت عل اعتراف واقعي فقط بممتلكاتها يف الخارج ففي إمكان الدولة الأخرى الموجودة بترابها أن ترفض هذه المطالبة خاصة إذا كان هناك طرف آخر معترف به قانونيا يطالب ينفس الممتلكات.
ـ إنّ الاعتراف الواقعي يمكن سحبه.
السيادة في ظل العولمة وتبدل موازين القوة
1 ـ عن المفهوم وإشكاليته:
"السيادة" مفهوم قانوني ـ سياسي ارتبط بوجود الدولة القومية وأصبح أحد أهم خصائصها وسماتها الرئيسية. وحين توصف الدولة بأنها كيان يتمتع بالسيادة فالمقصود أنّ الدولة هي التنظيم السياسي والاجتماعي الذي يحق له وحده دون غيره أن يحتكر أدوات القوة التي يحتاجها، بما في ذلك أدوات القمع والإكراه، لفرض سلطته على مجمل الإقليم الذي يشكل حدوده السياسية، وعلى الأفراد الذين يقطنون هذا الإقليم. معنى هذا أن تتمتع الدولة بخاصية السيادة هو الذي يبرز احتكارها لأدوات القوة اللازمة لتمكينها من القيام بوظائفها وأدوارها المختلفة على الصعيدين الداخلي والخارجي، وهي وظائف وأدوار حيوية للغاية وغير قابلة للاختزال على الرغم من أنّ مضمونها وأساليب القيام بها تقبل التغير والتحول لمواكبة التطور المستمر في طبيعة العلاقات الدولية. فالدولة هي وحدها المسؤولة عن سن القوانين وفرض الالتزام بها وتحقيق المن والنظام والاستقرار في الداخل، وهي وحدها المسؤولة، في الوقت نفسه، عن الدفاع عن الوطن وحماية أمنه وسلامته وتكامله الإقليمي في مواجهة القوى والأطماع الخارجية.
ويرتبط مفهوم السيادة بمفهوم الاستقلال وحرية الإرادة، ولذلك يعد الاستقلال السياسي شرطا لتمكين الدولة من ممارسة مظاهر سيادتها على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وكانت حركة المد الاستعماري، والتي بدأت مع الاكتشافات الجغرافية الكبرى ووصلت ذروتها خلال القرن التاسع عشر، قد أدت إلى تقلص عدد الدول المستقلة على المسرح الدولي، بعد أن تمكنت حفنة صغيرة من الدول الاستعمارية الأوربية من إحكام سيطرتها على العالم. غير أنّ حركة مناهضة لها هي التحرر الوطني، والتي وصلت ذروتها خلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين، عادت وتمكنت من تصحيح هذا الوضع المختل وأدت بالتالي إلى زيادة هائلة في عدد الدول المستقلة بعد أن استعادت جميع الدول "فاقدة" أو "ناقصة" السيادة لوضعها الطبيعي كدول مستقلة ذات سيادة. وهكذا لم يعد هناك سوى حالات نادرة لدول يمكن وصفها، قانونيا، بالدول المستعمرة أو المحمية أو التابعة، كما لم تعد هناك دول خاضعة لنظام الانتداب أو الوصاية. وأصبحت جميع شعوب العالم تقريبيا تعيش الآن داخل وحدات سياسية مستقلة تسمى الدول وتتمتع من الناحية الشكلية على الأقل بالسيادة الكاملة على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وقد ظل مفهوم السيادة موضوعا لم يتوقف في الواقع منذ نشأة ظاهرة الدولة القومية في أوربا في منتصف القرن السابع عشر وحتى الآن. ففي أعقاب ظهور الدولة القومية، بدت الحاجة ملحة لحماية هذا الشكل الوليد من أشكال التجمع الإنساني، ولذا مال معظم الفقهاء نحو التشدد والتوسع في مفهوم السيادة، فاعتبروا أن السيادة إما أن تكون مطلقة أو لا تكون.
والسيادة بمعناها المطلق تعني عدم الخضوع لأي سلطة سياسية أعلى، وأن يصبح بمقدورها أن تقرر بنفسها ما تراه صالحا لها، وأن لا تسمح لأحد كائنا من كان بالتدخل في شؤونها الخاصة، وأن تكون مطلقة الحرية في اختيار نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في الداخل، وفي اختيار ما تراه مناسبا من وسائل لتحقيق مصالحها، في الخارج، بما في ذلك حقها في استخدام القوة.
غير أن المآسي الإنسانية الكبرى التي نجمت عن الحروب واستخدام القوة كوسيلة لحل المنازعات، من ناحية، وتطور علاقات الاعتماد المتبادل بين الدول، من ناحية أخرى، رسّخت الاقتناع بنسبية مفهوم السيادة وباستحالة، بل وبخطورة، الادّعاء بوجود سيادة مطلقة على أرض الواقع. فالسيادة هي، في جوهرها، أداة لتنظيم العلاقات بين الدول، وليست حقا مكتسبا لفرض الإرادة المنفردة على الآخرين. وبهذا المعنى يصبح من الممكن إزالة أي تناقض بين مفهوم السيادة ومتطلبات الالتزام بقواعد القانون الدولي العام وإدارة العلاقات الدولية من خلال أطر وإجراءات مؤسسية أصبح لا غنى عنها لتنظيم العلاقات بين الدول.
وإذا كان مفهوم السيادة يرتبط، بالضرورة، سواء من حيث الشكل أو من حيث المضمون، بتسليم الدول، كبيرها وصغيرها، بعدد من المبادئ أو القواعد العامة الحاكمة للعلاقات في ما بينها، وفي مقدمتها مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، فإن هذه المبادئ نفسها تثير العديد من الإشكاليات في ما يتعلق بوضع مفهوم السيادة موضع التطبيق. فالإقرار بمبدأ سيادة الدول، وبالتالي بأهليتها للتصرف كشخص من أشخاص القانون الدولي العام، يرتب تلقائيا، ضرورة التسليم بمبدأ المساواة القانونية بينها، وبالتالي ضرورة التزام الجميع بالكف عن التدخل في الشؤون الداخلية للغير. ونظرا لأن هذه المساواة القانونية لا تقابلها مساواة فعلية على أرض الواقع، حيث تختلف كثيرا أحجام وأوزان وقوة الدول، وبالتالي قدرتها على التأثير الفعلي على مجملا التفاعلات الدولية، فإنّ هذه المفارقة تثير إشكالية كبرى في تنظيم العلاقات بين الدول وفي وضع خطوط فاصلة بين الشأن الداخلي، والذي هو مسؤولية الدولة المعنية وحدها، والشأن الخارجي، والذي يفترض، أو يتعين، أن يكون مسؤولية المجتمع الدولي ككل.
ولأنه يوجد ميل طبيعي من جانب الدول الأكبر والأقوى في المجتمع الدولي للتدخل في شؤون الدول الأصغر والأضعف، كما يوجد نفور طبيعي من جانب الدول الكبرى والأقوى في المجتمع الدولي للتعامل مع الدول الأصغر والأضعف على أساس من الندية والمساواة، فقد كان من الطبيعي أيضا أن تواجه المحاولات الرامية لتنظيم العلاقات الدولية وفق قاعدة المساواة في السيادة صعوبات بالغة. ويمكن القول أن تطور فكرة السيادة، كمفهوم أو كأداة قابلة للتطبيق عمليا داخل نسيج العلاقات الدولية، تأثر بعاملين رئيسين:
الأول: ثقب موقع الدولة كفاعل في العلاقات الدولية، مقارنة بالفاعلين الدوليين الآخرين الذين بدؤوا يزاحمون الدول مثل: المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، والشركات متعددة الجنسيات...إلخ.
الثاني: موازين القوى السائدة وطبيعة وهيكل النظام الدولي الذي تفرزه الموازين في المراحل التاريخية المختلفة لتطور العلاقات الدولية.
2 ـ موقف القانون الدولي:
يعتبر ميثاق الأمم المتحدة هو الوثيقة الرئيسية التي تحدد وتعكس موقف القانون الدولي من المفاهيم والقضايا الدولية الرئيسية، ومنها مفهوم وقضية سيادة الدول، دون مبالغة أو تجاوز، أن البنية الفلسفية والقانونية لهذه الوثيقة لا ترتكز على مجرد الاعتراف بمفهوم السيادة ولكنها تحاول في الوقت نفسه تكريسه وتدعيمه كمبدأ وكأساس للتنظيم الدولي وكمعيار لتحديد حقوق الدول وواجباتها. فقد نصت الفقرة الأولى من المادة الثانية من الميثاق على "قيام الأمم المتحدة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع الأعضاء". والمقصود هنا المساواة القانونية في الحقوق والواجبات. ويعكس الهيكل التنظيمي للأمم المتحدة، كما تعكس معظم القواعد والإجراءات الأساسية المحددة لحقوق الدول وواجباتها مدى حرص الأمم المتحدة على وضع هذا المبدأ الأساسي موضع التطبيق. فجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة متساوون في الحقوق والواجبات، وفي مقدمتها حقوق المشاركة والتصويت في أعمال المنظمة وفقا لقاعدة أن لكل دولة صوت واحد.
ومع ذلك فقد تعيّن أن يوائم الميثاق، في الوقت نفسه، بين ما تفرضه حقوق السيادة، من ضرورة المساواة القانونية بين الدول الأعضاء كبيرها وصغيرها، وبين ما تفرضه مقتضيات الفاعلية، من ضرورة تحمل الدول الكبرى أعباء ومسؤوليات خاصة في ما يتعلق بدورها في المحافظة على السلم والأمن الدولي، ومطالبتها هذه الدول بأن تتمتع في مقابل ذلك بحقوق ومزايا موازية.
فقد اقتضت الاعتبارات الخاصة بتفعيل دور الأمم المتحدة في مجال حفظ السلم والأمن الدوليين، مقارنة بدور عصبة الأمم، منح خمس دول كبرى تم تحديدها بالاسم مقاعد دائمة في مجلس الأمن ومزايا تصويتية لا تتمتع بها الدول الأعضاء في المجلس (حق الفيتو).
غير أنّ الميثاق لم يكتف بمجرد الاعتراف بمبدأ المساواة في السيادة بين الدول الأعضاء ولكنه حاول، في الوقت نفسه، تدعيم هذا المبدأ بتحريم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، حتى من جانب الأمم المتحدة نفسها. إذ نصّت الفقرة السابعة من المادة الثانية على انه: "ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة التدخل في الشؤون التي تعتبر من صميم الاختصاص الداخلي لدولة ما، وليس ما يسمح لدول الأعضاء بأن تطرح هذه الشؤون على أجهزة الأمم المتحدة لمعالجتها بمقتضى الميثاق". غير أنّ نص الفقرة نفسها وضع قيدا على هذا التحريم المطلق حين أضاف على الفور: "أنّ التسليم بهذا المبدأ (عدم التدخل في الشؤون الداخلية) لا يحول دون تطبيق تدابير الردع الواردة في الفصل السابع من الميثاق. معنى ذلك أنّه لا يجوز الدفع بمبدأ حظر التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء لتقييد حرية مجلس الأمن في اتخاذ ما يراه من تدابير لازمة للمحافظة على السلم والأمن الدوليين، خصوصا تلك المتعلقة بأعمال الردع أو المنع أو القمع المخولة له بموجب الفصل السابع من الميثاق. غير أنّ ميثاق الأمم المتحدة لم يتضمن تعريفا أو حصرا للمسائل التي تدخل في إطار الاختصاص الداخلي للدول.
ومن المعروف أنّ موقف الفقهاء من قضية حدود الشأن الداخلي للدول يختلف اختلافا بيّنا. فهناك من يعتبر أن لكل دولة الحق في تحديد ما تعتبره شأنا داخليا يخصها (نظرية اختصاص الاختصاص)، وهناك من يحاول تضييق نطاق الصلاحيات الممنوحة للسلطة المنفردة للدول في هذا الشأن لحساب الصلاحيات الموكولة للمؤسسات التي تتحدث باسم المجتمع الدولي، وخصوصا المؤسسات المعنية بالمحافظة على السلم، مثل مجلس الأمن. كما تجدر الإشارة إلى أنّ الميثاق لم يقتصر اختصاصات وصلاحيات الأمم المتحدة على المجالات السياسية والأمنية فقط وغنما مد نطاق هذه الصلاحيات والاختصاصات لتشمل كافة المجالات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بما يف ذلك المجلات التي كانت تعتبر، تقليديا، من صميم الاختصاص لحل المنازعات للدول، مثل قضايا حقوق الإنسان.
ولكي يوفر الميثاق بيئة دولية ملائمة، تحافظ على السلم وسيادتها وتحترم مبدأ عدم التدخل في شؤونها الداخلية، تضمن مبادئ وقواعد أخرى معاونة تلزم كافة الدول الأعضاء باللجوء إلى الوسائل السلمية وتحريم استخدام القوة أو التهديد بها كوسيلة لحل المنازعات الدولية وتنفيذ التزاماتها بحسن نية...إلخ.
وقد ساعدت عوامل عديدة في الواقع على ترجيح كفة الاتجاه المطالب بتنفيذ الاختصاص الداخلي للدول لصالح التوسع في اختصاصات المؤسسات الدولية وتمكين هذه الأخيرة من إدارة أكثر فاعلية لشؤون ومصالح المجتمع الدولي ككل. من هذه العوامل:
1 ـ عدم وضوح الخطوط الفاصلة بين ما هو شأن داخلي وما هو شأن دولي وضوحا كاملا وقاطعا في القانون الدولي، مما أتاح مجالا واسعا للتفسيرات المختلفة وربما المتعارضة.
2 ـ تداخل وتشابك المصالح بين الدول والمجتمعات الإنسانية وتعاظم درجة الاعتماد المتبادل بينها نتيجة تطور العلاقات بينها في جميع المجالات تحت تأثير الثورات العلمية والتكنولوجية المتعاقبة، مما ضاعف من صعوبة الفصل القاطع بين "شؤون الداخل" و"شؤون الخارج".
3 ـ تآكل الدور التقليدي للدول في العلاقات الدولية بسبب بروز ومزاحمة فاعلين دوليين آخرين مثل المنظمات الدولية، الحكومية وغير الحكومية، والشركات المتعددة الجنسيات وغيرها، مما ساعد على ظهور شبكات وخرائط جديدة للتفاعلات والمصالح الدولية لا تتطابق بالضرورة مع خريطة التقسيم السياسي للعالم على أساس الدولة القومية.
ولهذا لم يعد مقبولا أن تتعلق بسيادتها وبمبدأ تحريم التدخل في شؤونها الداخلية، مثلما كان يحدث عادة في الماضي، للحيلولة دون تمكين المؤسسات من الاضطلاع بمسؤولياتها.
غير أن ترجيح كفة المؤسسات الدولية ومنحها صلاحيات جديدة للتدخل في بعض ما كان يعتبر تقليدا شأنا داخليا، تلب بدوره، وكما سنشير لا حقا، وضع ضوابط دقيقة تقضي أن يكون هذا التدخل في أضيق الحدود الممكنة، من ناحية، وان يكون مدفوعا بالرغبة الصادقة في تحقيق مصالح عليا مؤكدة تتعلق بالمجتمع الدولي ككل، وليس مجرد غطاء لمصالح دولية خاصة أو ضيقة.
3 ـ سيادة الدول في ظل القطبية الأحادية:
لا جدل في أنّ إبرام ميثاق الأمم المتحدة، بما تضمنه من مبادئ وقواعد وضوابط عديدة ومتكاملة، ثم دخوله حيز التنفيذ العلي، بعد تصديق الدول الموقعة عليه، شكّل خطوة هائلة إلى الأمام على طريق محاولة نقل العلاقات الدولية من "حالة الطبيعة" إلى "حالة المجتمع"، وفقا للتعبير الأثير لدى هوبز. غير أنّ هذه الخطوة لم تكن كافية بذاتها لضمان وكفالة احترام المبادئ والقواعد المنصوص عليها في الميثاق، وخاصة ما يتعلق باستقلال وسيادة الدول ومنع التدخل في شؤونها الداخلية. فقد توقف ذلك على توافر عاملين إضافيين متكاملين ومترابطين، الأول: أن تعمل الدول من تلقاء نفسها وفق هذا النهج الذي حدده الميثاق، والثاني: أن تصبح المؤسسات الدولية، وخاصة مجلس الأمن في وضع يسمح لها بإلزام الدول بالسير وفق هذا النهج، وبإنزال العقاب الملائم بكل من يجرؤ على الخروج عليه. وللأسف فإنّ التعويل على الالتزام الذاتي والإداري للدول بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى هو أمر يبدو مغرقا في مثالية ولا يستقيم مع خبرة وتجارب الماضي، ولذلك تركزت الآمال في الأمم المتحدة، وبالذات في مجلس الأمن، لتوفير تلك الضمانات. غير أنّه تبيّن أن المناخ الدولي الذي ساد في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة لم يساعد على تهيئة أفضل الظروف لقيام مؤسسات دولية فاعلة.
فالوضع الدولي الاستثنائي الذي أفرز منظومة الأمم المتحدة كان قد اتسم بصراع حاد بين دواتين تمكن أحدهما من الانتصار على الآخر وسحقه. وهكذا أصبح التحالف المنتصر هو نفسه "الأمم المتحدة" وتمّ استبعاد التحالف المنهزم من المنظمة الدولية الوليدة حتى إشعار آخر. ولم يكن التحالف المنتصر نفسه يشكّل بدوره كتلة واحدة متجانسة عند إنشاء "الأمم المتحدة"، ولكنه كان ينقسم بدوره إلى مجموعتين مختلفتي المصالح والأهداف:مجموعة الدول الكبرى التي تحملت العبء الأكبر في تحقيق النصر وهي: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي (السابق) والمملكة المتحدة، ومعهما فرنسا والصين أيضا، وهي المجموعة التي تم الاعتراف لها بوضع متميز في النظام الدولي مكنها من الحصول على عضوية دائمة وعلى حق الاعتراض "الفيتو" في مجلس الأمن/ ومجموعة الدول الأخرى التي لم يكن أمامها من خيار آخر سوى أن تسلم بالمزايا الممنوحة للدول الكبرى المنتصرة وأن تقبل بالأوضاع الجديدة على مضض. أما الدول والشعوب التي كانت تقف خارج أسوار المنظمة الدولية الوليدة عند نشأتها فلم تكن قاصرة على الدول "المهزومة" وحدها وإنما شملت أيضا كافة البلدان التي كانت ما تزال خاضعة للاستعمار الغربي وخاصة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
غير أنّ الأحلام والتطلعات التي صنعت الأمم المتحدة في لحظة كان النظام الدولي يمرّ فيها بحالة من السيولة سرعان ما اصطدمت بموازين القوى الفعلية التي أفرزها النظام الدولي الجديد الذي استقرّ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، واستمرّ بعد ذلك لما يقرب من خمسين عاما، وهو نظام القطبية الثنائية. فقد تصد"ع تحالف الدول الكبرى المنتصرة في الحرب، وانقسم بدوره إلى معسكرين إيديولوجيين متصارعين يسعى كل منهما للهيمنة على العالم. وآثار هذا الانقسام سلسلة من التفاعلات وردود الأفعال غيّرت من قواعد اللعبة التي كان قد تمّ الاتفاق عليها في الميثاق. وفي ظل النظام الدولي ثنائي القطبية تغيّر مفهوم "العدو" كما تغيّرت النظرة إلى مفهوم الاستعمار لتصبح المستعمرات نفسها محلا للصراع على النفوذ بين القطبين العظميين.
ولا جدال في أنّ هذا التحول في هيكل النظام الدولي كانت له جوانبه السلبية والإيجابية كما كانت له انعكاساته الهائلة على قدرة الأمم المتحدة على المحافظة على استقلال وسيادة الدول دون تدخل الدول الكبرى في شؤون الدول الصغرى. ولو أنّ هذا التحول كان قد تمّ قبل انعقاد مؤتمر سان فرانسيسكو أو بعده مباشرة لما قامت "منظمة الأمم المتحدة" أصلا، أو لقامت على قواعد وأسس مختلفة تماما. وعلى أي حال فقد دفع هذا التحول في اتجاهين متناقصين في ما يتعلق بقدرة الأمم المتحدة على المحافظة على سيادة الدول ومنع التدخل في شؤونها الداخلية. فالحرب الباردة أدت، من ناحية، إلى شلل نظام الأمن الاجتماعي، ومن ناحية أخرى، إلى ضخ الرياح في شراع حركة التحرر الوطني وبالتالي فتحت طريق العالمية أمام الأمم المتحدة بعد أن كانت أقرب إلى كونها منظمة للدول المتحالفة والمنتصرة في الحرب العالمية الثانية.
أولا: شلل نظام الأمن الاجتماعي:
كان ميثاق الأمم المتحدة،كما سبقت الإشارة، قد وضع نظاما دقيقا ومتكاملا للأمن الدولي يقوم على فكرة أنّ أمن الجزء يرتبط ارتباطا عضويا بأمن الكل، ومن ثمّة يتعين على هذا الكل (ممثلا في الأمم المتحدة) أن يتصدى، مجتمعا لأي عدوان أو تهديد قد تتعرض له أي دولة عضو. وتضمّن هذا النظام ثلاث عناصر وآليات محددو:
1 ـ مبادئ وقواعد سلوك عامة وموحدة يتعين أن تلتزم بها كافة الدول: كبيرها وصغيرها، في العلاقات الدولية.
2 ـ جهاز يملك صلاحية مراقبة سلوك الدول وسلطة فرض الجزاءات، بما فيها القيام بعمل عسكري، على الخارجين على قواعد الشرعية الدولية (مجلس الأمن).
3 ـ مجموعة من الأجهزة والآليات المكملة التي تستهدف إما مساعدة الدول على تسوية خلافاتها بالطرق السلمية و/ أو تهيئة الوسائل الكفيلة بتمكين مجلس الأمن من القيام بوظائفه.
غير أنّ استكمال مقومات هذا النظام، ناهيك عن تشغيله، تطلب توافق آراء وإجماع الدول الدائمة العضوية، وهو ما أصبح متعذرا تماما بسبب انقسام التحالف المنتصرة في الحرب العالمية الثانية إلى معسكرين. وخلقت الحرب الباردة أوضاعا أدت إلى انعكاسات خطيرة على نظام الأمن الجماعي. فقد تعذر استكمال آليات النظام نفسه، لأن لجنة أركان الحرب (المنصوص عليها في المادة 47) كجهاز معاون لمجلس الأمن في (الأمور العسكرية) لم تتمكن من الاتفاق على وضع المادة 43 (والخاصة بتشكيل جيش دولي يمكن لمجلس الأمن أن يستخدمه عند الضرورة) موضع التنفيذ. وأدى ذلك بدوره إلى تجميد لجنة الأركان نفسها وحرمان مجلس الأمن من الأداة العسكرية التي صممت لتعاونه في قمع العدوان أو ردعه. من ناحية أخرى، فقد أدت الحرب الباردة بين المعسكرين المتصارعين إلى إسراف الدول دائمة العضوية في استخدام حق النقض (الفيتو) وغلى استخدامه في غير الأغراض التي شرعت له، مما عرقل عمل مجلس الأمن إلى درجة الشلل أحيانا، ولذلك يمكن القول أنّ نظام الأمن الجماعي ولد غير مكتمل النمو،فعاش طوال حياته مشوها.
وهكذا بدأت الدول الكبرى، وخاصة دول المعسكر الغربي، تبحث عن ترتيبات أخرى لحماية أمنها خارج النظام المنصوص عليه في الميثاق، وجدت ضالتها في حلف شمال الأطلسي (1949) ثم حلف وارسو (1955). وبصرف النظر عما قيل وقتها عن شرعية قيام هذه الأحلاف استنادا إلى نص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تجيز الدفاع الجماعي عن النفس، إلا أنّ قيامها أثّر تأثيرا سلبيا خطيرا على المم المتحدة. فقد حلّ نظام "مناطق النفوذ" محل نظام "المن الجماعي" المنصوص عليه في الميثاق، وهو نظام نقيض له يف الواقع. ذلك أنّ نظام الأمن الجماعي يتعامل مع الكون ككتلة واحدة ويرتب على الكل مسؤولية تضامنية لمواجهة ما قد يقع من عدوان على الجزء. أمام نظام مناطق النفوذ فيقسم العالم إلى أجزاء يطلب كل منها الحماية المنفردة لقوة عظمى. وهذا ما حدث بالفعل.
فقد خضعت أوربا الشرقية للنفوذ السوفياتي المنفرد وأصبحت مرتعا لتدخله المتكرر في شؤونها الداخلية (المجر:56، تشيكوسلوفاكيا:68...إلخ. كما خضعت أوربا الغربية والأمريكيتين لنفوذ وتدخل الولايات المتحدة المنفرد في شؤونها الداخلية. وفي هذا السياق يمكن القول إنّ دور وفاعلية الأمم المتحدة في المحافظة على استقلال وسيادة الدول وفي منع الدول الكبرى من التدخل في شؤون الدول الصغرى قد اختلف في مرحلة الحرب الباردة باختلاف طبيعة الأزمات التي اندلعت خلال تلك المرحلة، والتي يمكن التمييز بين ثلاثة أنماط منها:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
baconecdz
baconecdz


مدير المنتدى : خالد khaled
مدير المنتدى : خالد khaled


الجنس الجنس : ذكر
هوايتي : الرياضة
مسآهمآتے مسآهمآتے : 11463
التقييم التقييم : 368

محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق Empty
مُساهمةموضوع: رد: محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق   محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق Emptyالإثنين 11 مارس 2013 - 20:23

1 ـ الأزمات التي داخل النفوذ المباشر لإحدى القطبين العظميين. ولم تلعب الأمم المتحدة أي دور فاعل لمعالجتها، بعد أن تحولت هذه المناطق إلى ميادين محجوز لتدخل أطر إقليمية تهيمن عليها إحدى القوتين العظميين (حلف وارسو بالنسبة للاتحاد السوفياتي، وحلف الأطلسي ومنظمة الدول الأمريكية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية).
2 ـ الأزمات التي انخرطت فيها إحدى القوتين العظميين كطرف مباشر (فيتنام أو أفغانستان على سبيل المثال). وهي أزمات عجزت الأمم المتحدة ليس فقط عن معالجتها وإيجاد الحلول وإنما حتى عن مجرد مناقشتها أحيانا (أزمة فيتنام) أو لمجرد توفير غطاء الانسحاب القوى العظمى يف أحيان أخرى (أفغانستان).
3 ـ الأزمات الأخرى، أي تلك التي دارت خارج مناطق النفوذ المباشر أو لم تكن إحدى القوتين العظميين طرفا مباشرا فيها. وكان هذا هو النمط الوحيد من الأزمات الذي سمح النظام الدولي ثنائي القطبية للأمم المتحدة بأن تلعب فيه دورا اختلفت أشكاله وفاعليته من أزمة أخرى.
ورغم ضعف الدور الذي لعبته الأمم المتحدة عموما في معالجة الأزمات الدولية وعدم تمكنها من صد محاولات الدول الكبرى للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الصغرى خلال مرحلة الحرب الباردة، إلا أنّ التوازن الدولي النسبي الذي ساد خلال تلك الفترة حال دون أن تصبح الأمم المتحدة أداة يف يد أي من المعسكرين المتصارعين. ومع ذلك فمن الواضح أن موازين القوة الفعلية في النظام الدولي كانت تميل خلال تلك الفترة لصالح الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها في الواقع، وهو ما ألقى بظلاله السلبية على الأمم المتحدة، بدليل أن إسرائيل تمكنت في مرحلة الحرب الباردة من أن تشنّ في عام 1967 عدوانا على الدول العربية المجاورة، وان تحتلّ أراضي شاسعة من هذه الدول، وأن تحتفظ بهذه الأراضي كورقة مساومة تفرض من خلالها شروطها للتسوية على الدول العربية. ولم يتمكن مجلس الأمن من مجرد الإشارة يف قراره بوقف إطلاق النار إلى انسحاب القوات المتحاربة إلى الخطوط التي كانت عندها قبل العمليات العسكرية كما اعتاد أن يفعل يف مثل هذه الأزمات. وكان ذلك مؤشرا مبكرا على عجز المم المتحدة عن تقديم الحماية الضرورية للضعفاء في النظام الدولي.
ثانيا: تنامي دور العالم الثالث: لا جدال أن النظام الدولي ثنائي القطبية قد أفسح المجال لصعود نجم مجموعة الدول التي لم تكن لها مصلحة يف الانضمام إلى أي المعسكرين المتصارعين ويف تمكين هذه المجموعة من أن تلعب ، من خلال منظومة الأمم المتحدة، دورا سياسيا يدعم استقلال الدول وسيادتها ويحاول الحد قدر الإمكان من تدخل الدول الكبرى في شؤونها الداخلية. فقد دلت قيادة النظام الدولي في مرحلة الاستقطاب الثنائي إلى قوى غير أوربية ليس لها ماض استعماري مما أدى من ناحية، إلى إضعاف القوى الاستعمارية التقليدية الأوربية وتراجع دورها يف هذا النظام الدولي الجديد، ومن ناحية أخرى، إلى تنشيط ودعم حركات التحرر يف الدول المستعمرة التي حاولت كل القوتين العظميين المتصارعتين استمالتها إلى ناحيتها. وقد خلق هذا الوضع زخما ساعد على أن تتمتع "مجموعة عدم الانحياز"، تدريجيا، بأغلبية عددية في الجمعية العامة الأمم المتحدة في المنظمات العالمية المتخصصة الديمقراطية الطابع، حاولت استخدامها لتحقيق هدفين:
الأول: القضاء على الظاهرة الاستعمارية وتمكين الدول الواقعة تحت الاستعمار أو الدول ناقصة السيادة، بأشكالها المختلفة، من الحصول على استقلالها السياسي. وهو ما نجحت فيه بشكل شبه تام.
الثاني: تصحيح الخلل في هياكل وموازين القوة في النظام الدولي، وخاصة الاقتصادية والتكنولوجية، والحصول على دعم مالي وفني يمكنها من تحويل استقلالها السياسي، أو القانوني والشكلي، إلى استقلال فعلي. وهو مل لم تنجح فيه إلا على نحو محدود جدا.
وعلى الرغم من ظان حركة العالم الثالث لم تنجح بالكامل في تحويل استقلالها السياسي إلى استقلال حقيقي، إلا أن نظام الاستقطاب الدولي وضعها في حالة استنفار ويقظة نسبية مكنتها من استخدام الأمم المتحدة ومنظماتها الديمقراطية المتخصصة كأداة للمحافظة قدر الإمكان على استقلالها السياسي والحيلولة دون خضوعها للاستعمار والتبعية المباشرة والفجة من جديد.
ولذلك شكّلت هذه الحركة شوكة في حلق القوتين العظميين، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي صبّ جام غضبها على منظومة الأمم المتحدة.
وبوصول الجناح اليميني في الحزب الجمهوري بقيادة ريجان إلى السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1980 زاد الضغط الأمريكي على الأمم المتحدة ووكالتها المتخصصة إلى حد انسحاب الولايات المتحدة من اليونسكو والامتناع عن تسديد جانب كبير من التزاماتها المالية إلى الأمم المتحد...إلخ.
وكان الهدف تركيع هذه المنظمات وضمان عدم تجاوزها للخطوط الحمراء التي ترسمها الإدارة الأمريكية. وتسبب الموقف الأمريكي في أكبر أزمة مالية في تاريخ الأمم المتحدة التي أصبحت تكاد تكون عاجزة عن دفع رواتب موظفيها. غير أن مياها كثيرة جرت يف نهر النظام الدولي قبل أن تبدأ بوادر انهيار الاتحاد السوفياتي في أعقاب وصول غوباتشوف إلى السلطة، ثم انهياره الفعلي عقب أزمة الخليج الثانية.
4 ـ سيادة الدول يف ظل العولمة والقطبية الحادية:
حين نتحدث عن ظاهرة "العولمة" يجدر بنا أن نميز بين العولمة كعملية تاريخية Process والتي يشير إليها مصطلح Globalisation وبين العولمة كإطار فكري أو كنظام قيمي أو إيديولوجي، والتي يشير إليها مصطلح Globalism فالتقدم التكنولوجي، وخاصة في مجال الاتصالات والمواصلات، غير من أنماط ومن درجة وكثافة التفاعلات بين الدول والمجتمعات والشعوب والأفراد بطريقة جعلت من العزلة مسألة شبه مستحيلة. وبالطبع فإنّ درجة تأثر الدول والمجتمعات بهذه العملية "التاريخية"، والتي تدفع أجزاء العالم الجغرافية المتناثرة نحنو التقارب وربما التوحد، تختلف من حالة إلى أخرى، وتتوقف على موقع الدول والمجتمعات من شبكة التفاعلات الناجمة عن هذه العملية، ومدى قربها أو بعدها من مركز هذه الشبكة. وبهذا المعنى تعتبر "العولمة" أمرا واقعا يتعين التسليم به وبحث تأثيراته المختلفة، على الاقتصاد والسياسة والاجتماع...إلخ، بغية التقليل من أضراره والاستفادة من مزاياه إلى أقصى حد ممكن. أما العولمة Globalism كإيديولوجية أو كنظام قيمي والتي جسدتها بعض النظريات مثل نظرية فوكوياما حول "نهاية التاريخ" أو نظرية هنتنغتون حول "صراع الحضارات"، فهي أطروحات قابلة للجدل والاختلاف وتدخل في نطاق الفلسفة وليس في نطاق العلم. وتركيزنا سوف يكون على العملية التاريخية لا على إيديولوجية العولمة أو نظامها القيمي.
ولا جدال في أن التحولات المتسارعة لعملية العولمة تدخل تحولات مهمة وعميقة على هيكل وموازين القوة في النظام الدولي وبما يؤثر بشدة على موضوع استقلال وسيادة الدول الذي نناقشه. من هذه التحولات:
1 ـ إعادة توزيع وتغيير الأوزان النسبية للفاعلين في النظام الدولي لصالح الشركات العابرة للقوميات والمنظمات الدولية غير الحكومية (مؤسسات المجتمع المدني الدولي) وعلى حساب الدول لصال والمنظمات الدولية الحكومية.
2 ت إعادة تشكيل خريطة وموازين القوى يف النظام الدولي بما يرجح أوزان القوى الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية (وخاصة في مجال تكنولوجيا المعلومات) على حساب القوى التقليدية، وخاصة العسكرية والديموغرافية.
3 ـ إعادة ترتيب الأولويات على جدول أعمال النظام الدولي وتراجع القضايا التقليدية التي كانت تحتل مرتبة الصدارة في مرحلة الحرب الباردة، مثل قضايا الصراع بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب، وتقدم قضايا جديدة إلى موقعا الصدارة، مثل قضايا البيئة وحقوق الإنسان وأسلحة الدمار الشامل والإرهاب...إلخ.
ولهذه التحولات انعكاسات بعيدة المدى على قضية سيادة الدول ومبدأ عدم التدخل يف الشؤون الداخلية للدول لأنها تثير تساؤلات، وربما إشكاليات، بالغة الأهمية تتعلق بمدى صلاحية الأسس والمبادئ التقليدية التي يقوم عليها صرح التنظيم الدولي، والوظائف والأدوار التي تؤديها (أو يتعين أن تؤديها) أجهزة هذا التنظيم وآلياته المتنوعة، وطبيعة العلاقة بين المنظمات الدولية بأنواعها المختلفة (الحكومية وغير الحكومية، العالمية والإقليمية، العامة والخاصة...إلخ)، ومدى ملاءمة هياكلها وبنيتها الداخلية للاضطلاع بالوظائف المنوطة بها...إلخ.
ففي ما يتعلق بحدود العلاقة بين الشأن الداخلي والشأن الخارجي، أصبح من المسلم به، في ظل تنامي علاقات التأثير والاعتماد المتبادل بين الدول أن فكرة السيادة المطلقة لم تعد مقبولة، وان إطلاق يد الأنظمة الحاكمة في تحديد نطاق الشأن الداخلي لم يعد أمرا مسلّما كما كن في الماضي، بل وأصبح تدخل المجتمع الدولي في بعض الأمور التي كانت تعتبر في ما مضى شأنا داخليا ليس فقط أمرا مقبولا وإنما يراه البعض ضروريا وواجبا. فالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أو تقديم العون والمساعدة للإرهاب الدولي أو الإضرار بالأنساق البيئية...إلخ أصبحت كلها أمورا تستوجب أو تبرر تدخل المجتمع الدولي.
وقد عكس السكرتير العام للأمم المتحدة طبيعة التحول الذي طرأ على مفهوم السادة في عصر العولمة حين أشار في تقريره لعام 1999 إلى أنّ "مفهوم سيادة الدولة يمر في جوهره وفي معناه العميق بعملية تحول كبرى لا تعود فقط إلى وقوعه تحت ضغط وقى العولمة والتعاون الدولي. فالدول ينظر إليها الآن باعتبارها أدوات خاصة في خدمة شعوبها وليس العكس"، واستخدم تعبير "سيادة الفرد أو الإنسان" باعتباره مفهوما يتجدد الوعي به ويحظى بدعم متزايد نتيجة انتشار الحقوق الفردية، قبل أن يطالب بإيجاد تعريف أكثر رحابة لمفهوم المصالحة الوطنية" يتناسب مع متطلبات القرن الحادي والعشرين ويساعد على حفز الدول لضم الصفوف والسعي لتحقيق درجة أكبر من الوحدة على طريق الأهداف والقيم المشتركة".
كذلك تعيد العولمة طرح قضية تعريف العدوان. إذ تتوقف فاعلية المؤسسات في تحقيق السلم والأمن الدوليين، في نهاية التحليل، على مدى وضوح مفهوم العدوان ومعناه وحجم الاتفاق المتحقق حوله. ولم يكن تعريف العدوان في مرحلة الحرب الباردة سهلا، كما سبقت الإشارة. ومع ذلك فقد كان هناك ما يشبه الإجماع على أنّ مفهوم العدوان ينصرف أساسا إلى أي عمل عسكري غير مبرر، أي غير مشروع تقوم به دولة أو أكثر ضد دولة أخرى أو أكثر. أما في زمن العولمة فقد اصبح تعريف العدوان أكثر تعقيدا بما لا يقاس. فقد يؤدي التلاعب يف أسواق المال الدولية أو إلقاء نفايات نووية، أو تسهيل حصول جماعات إرهابية على أحد أسلحة الدمار الشامل ...إلخ، إلى إحداث أضرار قد تفوق بما لا يقاس حجم الأضرار الناجمة عن العدوان العسكري بمعناه التقليدي. ولأنه لا يوجد يف ميثاق الأمم المتحدة تعريف محدد للعدوان، فضلا عن أنّ معظم أجهزة الأمم المتحدة العاملة في مجال المحافظة على السلم والأمن الدوليين كانت قد صمّمت لمواجهة العدوان العسكري بمعناه التقليدي، فإنّ البحث عن تعريف دقيق للعدوان يف زمن العولمة لا يتطلب فقط ضرورة إعادة التفكير في مصادر تهديد السلم والأمن الدوليين، وإنما يتطلب أيضا، وفي الوقت نفسه، ضرورة العمل على إعادة هيكلة وتصميم المؤسسات الدولية بما يمكنها من مواجهة كافة تلك التهديدات القديمة منها والمستحدثة.
على صعيد آخر يلاحظ أنّ العولمة تدفع في اتجاه دور الفاعلين الآخرين غير الدول على المسرح الدولي وهو ما يؤدي إلى انعكاسات بالغة الخطورة على قدرة المؤسسات الدولية الحكومية على القيام بالوظائف والأدوار المنوطة بها تقليديا. فالعضوية في المؤسسات الدولية الراهنة تقتصر على الدول التي تمثل من خلال حكومتها. وهناك من يرى أنّه إذا كان لهذا الوضع ما يبرره في مرحلة كانت فيها الدول هي الفاعل الرئيسي،إن لم يكن الوحيد، في العلاقات الدولية، فإنّ استمرار هذا الوضع في مرحلة تتآكل يفها أوزان الدول والحكومات في ظل الأوضاع الراهنة. وتطرح هذه الإشكالية تحديا خطيرا يتمثل في ضرورة إعادة صياغة العلاقة بين المنظمات الدولية والحكومية، من ناحية، وبين كل من المنظمات الدولية غير الحكومية الشركات العابرة للقوميات من ناحية أخرى.
وكانت الأمم المتحدة قد حاولت إفساح المجال أمام المنظمات الدولية غير الحكومة للتعبير عن رأيها بصورة أوضح عندما وجّهت الدعوة إلى أعداد ضخمة منها للمشاركة في المؤتمرات العالمية التي نظمتها حول قضايا البيئة (قمة الأرض:ريو دي جانيرو)، وحقوق الإنسان (فينا) والسكان والتنمية (القاهرة)...إلخ. لكن العلاقة بين الأمم المتحدة والمنظمات الدولية غير الحكومية ما تزال في حاجة إلى صيغة مؤسسية أكثر وضوحا واستقرارا. وكانت الشركات العابرة للقوميات محل هجوم وانتقادات عنيفة ومتواصلة من جانب دول العالم الثالث خلال مرحلة الحرب الباردة، وقد خفّت حدة هذا الهجوم الآن بسبب طبيعة الإيديولوجية العالمية السائدة وتراجع دور العالم الثالث في التنظيم الدولي، لكن العلاقة ما تزال في حاجة إلى صيغة مؤسسية مستقرة.
وتثير هذه الأمور كلها قصية المواءمة بين الاعتبارات المتعلقة بديمقراطية التنظيم الدولي والاعتبارات المتعلقة بفاعليته. فالديمقراطية تتطلب تحقيق المساواة الكاملة بين الدول الأعضاء على أساس أنّ لكل دولة صوتا واحدا، كما تتطلب اتخاذ القرارات بالأغلبية ومشاركة الجميع في التصويت. أما الفاعلية فتتطلب سرعة اتخاذ القرارات وسرعة حشد وتعبئة الموارد المادية والبشرية اللازمة لمواجهة المواقف الطارئة وإدارة الأزمات الدولية. وكانت الأمم المتحدة قد حاولت حل هذا التناقض، كما سبقت الإشارة، عن طريق إنشاء مجلس الأمن محدود العضوية، إلى جانب الجمعية العامة التي تمثل فيها كافة الدول الأعضاء دون تمييز. واسند هذا المجلس المصغر مهمة حفظ السلم والأمن الدوليين، وخوّل سلطات وصلاحيات واسعة (اشتملت أيضا على سلطة اتخاذ إجراءات عسكرية).، وانفردت فيه الدول الكبرى وحدها بالعضوية الدائمة وبحق الاعتراض على مشروعات القرارات المعروضة عليه. غير أنّ الفاعلية المرجوة من وراء هذا الحل توقفت على شرط مهم وهو إجماع الدول الكبرى دائمة العضوية، والذي لم يتحقق بسبب اندلاع الحرب الباردة مما ترتب عليه إصابة مجلس الأمن بالشلل طوال ما يقرب من نصف قرن، كما سبقت الإشارة. غير أنّ التحول الذي أصاب هيكل موازين القوة في النظام الدولي تحت تأثير العولمة وانتهاء الحرب الباردة أحال الجهاز المسؤول عن السلم والأمن الدوليين إلى مجرد أداة في يد القوة العظمى الوحيدة المهيمنة وهي الولايات المتحدة.
وكانت قد لاحت يف الواقع فرصة نادرة لإحياء نظام الأمن الجماعي وتدعيمه عندما اندلعت الأزمة التي تسبب فيها الغزو العراقي للكويت في 2 أغسطس عام 1990، خصوصا وان حائط برلين كان قد سقط وانتهت الحرب الباردة قبل اندلاع الأزمة. وطرح بوش، وغيره من زعماء العالم، شعار "النظام العالمي الجدي" الذي تلعب فيه المم المتحدة الدور الرئيسي في المحافظة على السلم والمن في العالم. وبدأ مجلس الأمن يتصرف أثناء الأزمة الكويتية بطريقة مختلفة تماما وغير معهودة. فاجتمع أكثر من مرة على مستوى وزراء الخارجية، وبدأ يشير في قراراته جميعها (صراحة ولول مرّة) أنّه يتصرف وفقا للفصل السابع، وقام بتطبيق نظام العقوبات المنصوص عليه في الميثاق بحذافيره وبطريقة بالغة القسوة والصرامة. لكن اتضح بعد ذلك، وللأسف الشديد، أن هذا الشعار لم يقصد به سوى المحافظة على تماسك التحالف الدولي الذي برز في مواجهة العراق، وأن إحياء نظام الأمن الجماعي لم يكن مطروحا أصلا على أجندة الإدارة الأمريكية. ولذلك ما إن حصلت الولايات الأمريكية المتحدة على القرار 687، والذي يفوض التحالف الدولي الذي تقوده باستخدام القوة ضد العراق، حتى أحست بأنها أصبحت حرّة تماما وطليقة الحركة وظانّ مجلس الأمن لم يعد يعنيها في قليل أو كثير. ولذلك يلاحظ أنّ مجلس الأمن أصيب بالسكتة القلبية تمام في الفترة الممتدة من 29 نوفمبر 1990 (تاريخ صدور قرار التفويض) وحتى نهاية الحرب في مارس 1991. واعتبر العديد من الباحثين أنّ مجلس الأمن تعرّض خلال هذه الفترة لعملية اختطاف فعلية كي تصبح الولايات المتحدة في موقف يمكنها من إدارة الأزمة بالطريقة التي تحقق لها أهدافها الرئيسية وهي: ضمان تواجد أمريكي عسكري كبير ودائم في منطقة الخليج، والتعجيل بانهيار الاتحاد السوفياتي عن طريق إثبات عجزه وتدهور مكانته في النظام الدولي. وقد تمكنت بالفعل من تحقيق هذين الهدفين بالكامل.
وإذا كانت نهابة الحرب الباردة قد أعادت لمجلس الأمن بعضا من حيويته المفقودة، بعد أن تقلّصت احتمالات استخدام الفيتو في ظل النظام العالمي "الجديد"، إلا أنّ هذا النظام كشف، في الوقت نفسه، عن مواطن الخلل الهيكلي في الشرعية الدولية التي يمثلها مجلس الأمن. ويظهر تحليلنا للطريقة التي أدارت بها الأمم المتحدة الأزمات الدولية بعد انهيار نظام القطبية الثنائية وجود ثلاثة أنماط لهذه الإدارة وهي:
1 ـ الإدارة بالاستبعاد: في الأزمات التي لا يراد للأمم المتحدة أن تتدخل فيها على ا؟ي نحو. واهم مثال هذا النموذج إدارة الصراع العربي ـ الإسرائيلي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
2 ـ الإدارة بالافتعال: في الأزمات التي يراد إقحام مجلس الأمن فيها إقحاما دون أي مبرر قانوني أو أخلاقي. واهم مثال على هذا النموذج إدارة الأزمة في ليبيا بسبب حادث لوكربي.
3 ـ الإدارة بالمشاركة المحسوبة: وهو النمط الغالب على أسلوب الأمم المتحدة في إدارة الأزمات الدولية بعد نهاية الحرب الباردة. ووفقا لهذا النمط تلعب الأمم المتحدة دورا يختلف من حيث الحجم والفاعلية باختلاف نوع الأزمة ويتوقف على درجة حماس الدول الغربية، وخاصة الولايات الأمريكية المتحدة، ومدى استعدادها لوضع الإمكانات المادية والبشرية اللازمة تحت تصرف الأمم.
وقد أظهرت إدارة الأمم المتحدة للأزمات زمن العولمة عموما أنّ مجلس الأمن معرض لأن يتخذ قرارات غير دستورية دون أن يكون في مقدور أي جهاز دولي آخر أن يمارس في مواجهته أي نوع من أنواع الرقابة السياسية أو القضائية. وساهم سقوط وانهيار الاتحاد السوفياتي في إلقاء مزيد من الضوء على حقيقة أنّ تشكيل مجلس الأمن لم يعد يعكس هيكل وموازين القوى في النظام الدولي "الجديد". ومعنى ذلك أنّ مصداقية تمثيل مجلس الأمن للمجتمع الدولي أصبحت محلّ شكّ. بعبارة أخرى يمكن القول أنّ مجلس الأمن، وهو الجهاز الذي يحتل موقع القلب في بنية التنظيم الدولي العالمي، تحول في زمن العولمة إلى شيء أشبه بحكومة ديكتاتورية غير مسؤولة وغير شرعية أيضا. ويطرح هذا الوضع تحديا من طبيعة مزدوجة تتعلق، من ناحية، بضرورة البحث عن صيغة جديدة لحل معضلة التوفيق بين اعتبارات الديمقراطية واعتبارات الفاعلية، ومن ناحية أخرى، تطوير معايير لفرز واختيار القوى التي يحق لها احتلال مقاعد دائمة أو شبه دائمة في مجلس الأمن بما يضمن شرعية ومصداقية تمثيل هذا الجهاز للمجتمع الدولي وموازين القوى فيه.
وعلى الرغم من اتباع الولايات المتحدة، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، لسياسة منظمة تهدف في نهاية المطاف إلى تهميش وإضعاف دور الأمم المتحدة، إلا أنّ الحرص على وجود غطاء الشرعية الدولية ظلّ قائما في جميع الأحوال. وعلى سبيل المثال فقد ظلّت الولايات المتحدة تدّعي أنّ العمليات العسكرية التي تقوم بها منفردة أو بالتعاون مع دول أخرى ضد العراق عمليات مشروعة قانونا، لأنها تأتي في إطار تفويض سبق صدوره من مجلس الأمن ومازال معمولا به، وأنّ الهدف النهائي لهذه العمليات هو تطبيق قرارات صادرة عن مجلس الأمن. لكن يبدو أنّ الولايات المتحدة لم تعد حريصة حتى على مجرد استيفاء النواحي الشكلية اللازمة للإضفاء المشروعية على سياستها. وقد ظهر هذا جليا عندما تدخل حلف الناتو عسكريا في كوسوفا دون الحصول على تصريح بذلك من مجلس الأمن، وهو ما يمكن أن يتكرّر في الأزمة العراقية الحالية حيث تهدد الولايات المتحدة علنا بعزمها على استخدام القوة ضد العراق، منفردة أو بالتعاون مع آخرين، إذا لم تتمكن من استصدار القرار الذي تريده من مجلس المن. وربما يعود السبب في هذا المنحى الجديد إلى رغبة الولايات المتحدة في ممارسة سياسة حرّة وطليقة من كل قيد حتى ولو تمّ ذلك عبر جثة الأمم المتحدة. ولتبرير هذا الاستخدام غير الشرعي للقوة يطرح مبدأ التدخل لأغراض إنسانية. لكن التدخل المسلح لأغراض إنسانية له شروطه ويتعين في جميع الأحوال أن يتم تحت سلطة مجلس الأمن.
على صعيد آخر فإنّ الآثار المتوقعة لعملية العولمة ولهيمنة القطب الواحد تفرض إعادة طرح قضية العلاقة بين التنظيم العالمي والتنظيم الإقليمي. وكان ميثاق الأمم المتحدة قد أوجد صيغة معقولة لهذه العلاقة، لكنها لم تعمل على ارض الواقع بالكفاءة المطلوبة يف زمن الحرب الباردة بسبب انهيار نظام المن الجماعي وبروز نظام مناطق النفوذ. ولأن نهاية الحرب الباردة لم تؤدّ إلى إحياء نظام المن الجماعي فقد حاول حلف الأطلسي، وهو أحد أهم الأطراف المنتصرة في الحرب الباردة، أن يعطي لنفسه دورا جديدا يتجاوز به ليس فقط دوره التقليدي كحلف دفاعي وإنما أيضا الدور المنصوص عليه في الميثاق للمنظمات والترتيبات الإقليمية المشكلة وفقا للفصل الثامن من الميثاق، بل يمكن القول أنّ حلف الأطلسي يحاول أن يطرح نفسه الآن كبديل لمجلس الأمن نفسه، في حالة عدم تحقق الإجماع بين الدول دائمة العضوية أو كأداة عسكرية لمجلس الأمن في حالة تحقق مثل هذا الإجماع. وذلك وضع خطير جدا يفرض ضرورة إعادة صياغة العلاقة بين التنظيمين العالمي وإقليمي وهو ما يحتاج إلى جهد مبتكر وخلاق.
الخلاصة:
من الضروري والمفيد أن نميز بين نمطين من أنماط التحولات التي يشهدها النظام الدولي حاليا وهما: نمط التحولات الناجم عن عملية العولمة، من ناحية، ونمط التحولات الناجم عن هيمنة القطب الواحد على النظام الدولي في مرحلة تطوره الراهن، من ناحية أخرى. فلكل من هذين النمطين تأثيرات تبدو متناقضة على مفهوم سيادة الدول ومبدأ التدخل في شؤونها الداخلية.
فعملية العولمة، والتي تبدو وكأنها عملية حتمية لا فكاك منها، تؤدي إلى مزيد من تداخل وتشابك المصالح بين الدول والشعوب وعلى نحو يصعب معه تحديد الخطوط الفاصلة بين حدود الاختصاص في الشأن الداخلي وحدود المسؤولية الدولية. وحلّ هذه الإشكالية، في تقديرنا، لا يكون إلا بالعودة إلى المفاهيم التقليدية للسيادة وبإعادة التأكيد على أنّ السلطة القائمة في الدول، وبصرف النظر عن مدى شرعيتها، هي التي تقرر بنفسها ولنفسها حدود الشأن الداخلي. وإنّما يكون بدعم وتقوية سلطة المؤسسات الدولية وضمان نزاهتها وديمقراطيتها.
أما عملية الهيمنة، والتي قد تكون هي نفسها أحد النتائج الفرعية لعملية العولمة في مرحلة تطورها الراهن، فقد أفرزت موازين للقوة غذت طموح ونهم الولايات المتحدة الأمريكية في السيطرة على العالم. فهناك فجوة كبيرة بين حجم ونوع ما تملكه من وسائل القوة، بمعناها الشامل، وما تملكه القوى الأخرى على قمة التنظيم الدولي كالاتحاد الأوربي وروسيا الاتحادية الصين، وربما اليابان أيضا. وتحاول الولايات المتحدة استخدام هذه الفجوة لتسخير قوى وآليات عملية العولمة لصالحها وعن النحو الذي يمكنها من السيطرة على النظام الدولي مستفيدة من حالة الارتباك والفوضى التي تميّز المؤسسات الدولية يف الوقت الراهن. وفي هذا السياق تروّج الولايات المتحدة لمبدأ "التدخل الإنساني" وتتوسع في تفسير مفهومه، لكنها تخلط عمدا بين إرادتها هي وبين إرادة المجتمع الدولي معتبرة أنّ إرادتها الخاصة تعبر بالضرورة عن إرادة الشرعية الدولية. ويصبّ الوضع في اتجاه إضعاف المؤسسات الدولية وطمس شفافيتها ودعم النزاعات الفاشية والإرهابية.
وهكذا تعود فكرة الحكومة العالمية لتطل برأسها من جديد في زمن العولمة، لا باعتبارها حلما بعيد المنال، كما كان الحال في الماضي، وإنما باعتبارها مسألة ضرورية وربما حتمية. ولم تعد الإشكالية المطروحة في هذا الزمن تتعلق بخيار قبول أو رفض وجود مثل هذه الحكومة وغنما بنوع الحكومة المطلوبة وسبل إقامتها. وما هو مطروح، في هذا الإطار، قد لا يخرج عن ثلاثة بدائل. الأول: حكومة خفيّة تمثلها شبكة متّسعة من تحالف غير معلن بين الشركات العابرة للقارات وبعض المؤسسات المجتمع المدني بالتنسيق والتعاون مع حكومات مجموعة الدول السبع. والثاني: حكومة معلنة مفروضة بحكم الأمر الواقع، تمثلها الإدارة الأمريكية وتمارس تدخلها من خلال مجلس الأمن أو حلف الأطلسي أو منفردة، حسب ما تراه ملائما لمصلحتها. والثالث: حكومة منبثقة عن نظام عالمي ديمقراطي تمارس عملها في ظل رقابة سياسية وقانونية، أي في ظل سلطة تشريعية دولية وسلطة قضائية.
البديلان الأول والثاني قائمان ويتنافسان على أرض الواقع. أما البديل الثالث فمازال حلما بعيد المنال لأن الظروف لم تتضح بعد لوضعه موضع التنفيذ. وهذا ما يتعيّن على القوى الرافضة للهيمنة والباحثة عن ديمقراطية العلاقات الدولية أن تبذل كل جهد ممكن لتحويله إلى واقع .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
azzedine17
azzedine17


عضو جديد
عضو جديد


الجنس الجنس : ذكر
مسآهمآتے مسآهمآتے : 2
التقييم التقييم : 0

محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق Empty
مُساهمةموضوع: رد: محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق   محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق Emptyالجمعة 17 أكتوبر 2014 - 17:43

مشكور جدا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 

محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» محاضرات في مقياس "الإلتزامات (قانون مدني)" لطلبة السنة الثانية حقوق
» محاضرات في مقياس اللسانيات العامة لطلبة السنة أولى جامعي تخصص أدب عربي
» سنة ثانية حقوق محاضرات في مقياس الإلتزامات
» لطلاب السنة الثانية حقوق في مقياس القانون الجنائي
» امتحان مع التصحيح النموذجي في مقياس الاعلام الالي لطلبة السنة الثانية علوم و تقنيات



صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى التعليم الشامل :: الـتـعـلـيـم الـجـامـعـي ::  فــضـاء طــلـبـة نــظـام L.M.D :: حقوق droit :: منتدى السنة الاولى حقوق droit LMD :: المؤسسات و العلاقات الدولية-