لقد مارس الحكام الأتراك العثمانيون بالجزائر ما يمكن تسميته بسياسة التهميش تجاه الجزائريين على مستوى الإدارة و مراكز القرار السياسي، و تقديمهم لليهود التجار كل التسهيلات و الدخول معهم في مصالح تجارية و منحهم الامتيازات الخاصة، مهدت لاحتلال فرنسا للجزائر عام 1830م
كانت حركة سياسة الجزائر يديرها الأتراك الذين بدأت دولتهم هناك سنة 921 هـ - 1515 م و استمرت حتى سنة 1246هـ - 1830م و قد قسم بعض المؤرخين الأوروبيين فترة هذا العصر إلى أربعة عصور فرعية منذ بداية التنظيم ألإداري التركي في الجزائر : ( عصر البايات و عصر الباشاوات ثم يأتي عصر الآغاوات لينتهي العصر الرابع بعصر الدايات)..، و كانت الحكومة الجزائرية التركية تموج في بحور من دماء الثورات الداخلية التي اندلع أوارها في أعراش القبائل و انفجر بركانها في أحضان البدو، و ربما امتدت ألسنة لهيبها إلى عواصم المدن و لعل السبب في ذلك سوء معاملة الحكام للرعية و إغفالهم شؤونهم الضرورية و اشتغالهم بالركض وراء السلطة ، و حب الإنفراد بالرئاسة، و اهتمامهم بالكراسي و العروش..
لقد مارس الحكام الأتراك العثمانيون بالجزائر ما يمكن تسميته بسياسة التهميش تجاه الجزائريين على مستوى الإدارة و مراكز القرار السياسي، و تقديمهم لليهود التجار كل التسهيلات و الدخول معهم في مصالح تجارية و منحهم الامتيازات الخاصة، مهدت لاحتلال فرنسا للجزائر عام 1830م ، ولدت عملية التهميش العنصر المحلي قطيعة بين الحكام الأتراك العثمانيين تجلت في العديد من الثورات ذات الطابع السياسي ( ثورات منطقة القبائل، و ثورات الكراغلة المرتبطين بالدم مع السكان)، كانت منطقة القبائل اشد المناطق معارضة للحكم التركي الذي كان يعتمد على الكراغلة لتولي المناصب الهامة و المشاركة في الميليشيا و في مقدمتها منصب " الباي"، و حسب المصادر التاريخية فقد تم إحصاء تولي أربعة بايات من الكراغلة من ضمن خمسة لهذا المنصب في بايلك قسنطينة خلال الفترة الممتدة من 1700 إلى 1713،و في وهران تم تسجيل كرغلي واحد هو مصطفى العمر في الفترة الممتدة من 1736 إلى 1748م، و في بايلك التيطري تم التعرف أيضا على كرغلي واحد هو محمد الذباح، ثم الحاج أحمد في بايلك قسنطينة و ذلك في الفترة الممتدة بين 1826 إلى 1837 ..
من هو صالح باي؟
هو صالح باي بن مصطفى ولد سنة 1138هـ - 1725 م بمدينة أزمير، و جاء من هناك إلا الجزائر بعد ست عشرة سنة من عمره، و انخرط في سلك الإنكشارية و بقي هناك يرتقي حتى وصل إلى درجة " باي" سنة 1185هـ 1771م حسبما جاء في كتاب " التحفة المرضية في الدولة البكداشية في بلاد الجزائر المحمية" للدكتور محمد بن ميمون الجزائري، وبعد أن ذاع صيته أمر الداي حسين باشا بقتله شنقا بقصبة قسنطينة في أوائل سنة 1207هـ - 1792 م بعد اعتناقه منصب باي اثنتين و عشرين سنة..
تزوج صالح باي حسبما ذكرته المصادر من بنت أحمد القلي الباي الذي سبقه على رأس بايلك قسنطينة ( 1756-1771) و الذي قربه إليه، فارتقى صالح بن مصطفى الزميرلي في ظله و تحت رعايته و تقلد قيادة قبيلة الحراكتة العتيدة فتعرف على أصحاب السلطة و الجاه بالجزائر فرشح لمنصب الباي و كان ذلك أمام محمد عثمان باشا داي الجزائر فيما بين 1766 إلى 1791..
صالح باي خصص لليهود قطعة أرض ليقيموا
عليها مساكنهم في قسنطينة
ما يأتي الحديث عن الحاكم الأتراك عند المؤرخين إلا و يرد ذكر العلاقة التي ربكتهم بالعنصر اليهودي، فالحكام ألأتراك لم يروا شيئا في السماح لليهود بالعيش في بلادهم، سواء السلاطين في اسطنبول، أو الدايات في الجزائر، بحيث أصبح السلطان العثماني بايزيد الثاني بن محمد الفاتح ( 1481م – 1512م ) فرمانا سمح بموجبه لليهود بالإقامة في الأراضي التابعة لدولته ، و في إيالة الجزائر رحب العثمانيون باليهود المطرودين من اسبانيا حيث رأوا فيهم عنصرا حليفا يستخدمونه في صراعهم مع الإسبان وعاملا اقتصاديا مهما لتنشيط الصناعات الحرفية، و التبادل التجاري مع موانئ المتوسط، و انطلاقا من تعاليم الإسلام كان يجب أن يخضع اليهود للقانون الذي يحكم به أهل الذمة خاصة فيما تعلق بـ: "الجزية" و دفعها إلى خزينة الدولة، و التي كان مقدم الطائفة اليهودية يتكفل بجمعها و تقديمها إلى الخز ناجي أو شيخ البلد..
كانت بداية هذا الترحيب من الباي محمد الكبير ( 1779م – 1796م ) باستدعائه اليهود للعيش بوهران بعد أن استعادها، فانتقل إليها يهود ( معسكر، تلمسان، ندرومة و مستغانم) وتم إعفاؤهم من الضريبة، و بيعت لهم أرض بثمن رمزي ليقيموا عليها منازلهم ثم خصصت لهم أرض اتخذوها مزرعة، و قرّب محمد الكبير البعض منهم فجعلهم وكلاء دبلوماسيين يمثلون مصالحه فقي الخارج..
وعلى نفس المنهاج سار صالح باي حسبما كشفه الدكتور كمال بن صحراوي في كتابه " الدور الدبلوماسي ليهود الجزائر في أواخر عهد الدايات" حين خصص صالح باي قطعة أرض لليهود يقيمون عليها مساكنهم في قسنطينة حيث تجمعوا في مكان واحد عام ( 1771م – 1791م ) و أولى اهتمام كبيرا لهم كطائفة لها وزنها، مغفلا دورها الخطير الذي مارسته في المجالات المالية و التجارية و حتى في العلاقات الدبلوماسية التي انعكست سلبا على ألأوضاع الداخلية للجزائر، و كانت سببا في أزمة جزائرية فرنسية انتهت باحتلال الجزائر عام 1830م ، و هذا الاهتمام بالعنصر اليهودي تواصل في عهد الدايات خاصة مع تنامي مصالح اليهود و ثرواتهم وازدادت شوكة اليهود قوة بعدما تم تعيين مصطفى باشا الوزناجي بايا على قسنطينة عام 1794 م أي سنتين بعد مقتل صالح باي، و تؤكد المصادر التاريخية أن تعيين مصطفى الوزناجي بايا على قسنطينة بعد مقتل صالح باي كان من بضغط اليهودي بوشناق على الناخبين من الإنكشاريين ليختاروا مصطفى الوزناجي دايا للجزائر، عن طريق التهديد و تقديم الرشوة لشراء الأصوات و قد كان مصطفى الوزناجي مبغضا للعرب محبا لليهود مما جعل اليهود أصحاب نفوذ سياسي..
غير أن الأمر انقلب رأسا على عقب إذ أصبح اليهود هم الذين يتحكمون في الأتراك، و هذا ما ذكره المؤلف كمال بن صحراوي عن اليهودي سليمان المعروف بـ: جاكيت jaquette الذي توفي عام 1724م، و جاكيت اليهودي رجل كان مجهزا بالسفن، عندما قدم من ليفورن إلى الجزائر ، و قد احتكر تجارة الشمع و نجح في توطيد العلاقة مع حكام الجزائر مستغلا قدرته على تقديم معلومات، كما يحدث في الدول الأوروبية، و استخدماه كل الطرق للسيطرة على عقول الحكام متظاهرا بالتعلق بمصالح الإيالة..
علاقة صالح باي بـ: حمودة باشا باي تونس
تعود هذه العلاقة منذ أن تحولت تونس إلى غيالة عثمانية مستقلة في 18 مناي 1573م وصدور فرمانات من السلطة العثمانية تؤكد على استقلالية تونس في إطار إيالة عثمانية منذ الحملة العثمانية سنة 1574 م و من هنا تباعدت سياسة تونس عن الجزائر منذ انفصالها عن الجزائر خاصة بعد المشاكل التي وقعت بين البلدين و تم تسوية بعضها مثل المشكلة التي وقعت سنة 1614 م لتمديد مناطق القبائل التابعة لبايلك قسنطينة في عمق التراب التونسي، و هو ما كشفه الدكتور حنيفي هلايلي في كتابه: " أوراق في تاريخ الجزائر في العهد العثماني" طبعة أولى 2008 ، غير أن الأمور كما أوضح صاحب الكتاب زادت تأزما بين الجارتين..
ففي عهد حسن باي قسنطينة ( 1608- 1622 م ) تم إبرام معاهدة ضبط الحدود مع إيالة تونس عام 1614، لكن في عهد يوسف داي قام التونسيون بخرق المعاهدة فلجأ مراد باي تونس عام 1647 إلى استعمال القوة من خلال شن حملة عسكرية ضد الجزائر ، انتهت بهزيمة الجيش التونسي في معركة السطارة قرب مدينة الكاف ، و ذلك في 17 ماي 1628م في عهد حسين باي قسنطينة، و صدرت اتفاقات تجبر الحكومة التونسية على إبقاء مجرى وادي صراع الحد الفاصل بين البلدين ( الجزائر و تونس) في المناطق الجنوبية..
في حين تواصل تحديد الحدود بين البلدين من (وادي ملاق إلى الكرش، فقلوب النيران و رأس جبل الحافة ثم إلى البحر) ، إلا أن الوضع أصبح أكثر تأزما كذلك بحدوث المعارك بين القوات التي كان يقودها باي قسنطينة و التونسيين بسبب مسالة "الضريبة" التي كانت تدفع إلى بايلك قسنطينة في عهد علي خوجة، و خرج منها مراد باي منتصرا بعدما ارتكب مجزرة في الأسرى بلغ عدد ضحاياها حوالي خمسمائة ( 500) من الإنكشارية و أرسل آذانهم إلى تونس دليلا على انتصاره، ثم فتح المفاوضات مع المغربي مولاي إسماعيل في الفترة الممتدة بين 1672 إلى 1727م للقيام بعمل ضد الجزائر..، نشير هنا أن ضريبة التي كانت ترسل كل سنة إلى الجزائر كانت تتضمن ( 250 جرة زيت، 20 جُرّة من الصابون، بالإضافة إلى الهدايا التي ترسل إلى قادة الإنكشارية من برانس و عطور وورود و شالات تقدر بـ: 150 ألف جنيه فرنسي
و لما خلف الداي الحاج مصطفى باي تونس نظم حملة عسكرية لفك حصار مرا باي تونس على قسنطينة و هاجم معسكر التونسيين خلال الليل، أين تمكن من تحرير قسنطينة و سحق القوات التونسية بالقرب من سطيف ( العلمة) كان ذلك بتاريخ 07 أكتوبر 1700م ، و عند تولي حمودة باشا بايا على تونس لعب صالح باي دورا كبيرا بشأن مساعيه لتأمين حدود البايلك الشرقي سنتي 1783 و 1787م و مطالبته بالتعويضات، لاسيما والوضع في تونس كان جد حرجا لتورطها في خلاف مع جمهورية البندقية Venetian Republic شمال شرق إيطاليا، و بذلك حصل صالح باي سنة 1784م على تعويض يقدر بـخمسة و عشرين ألف ( 25 ألف) سُكـّة (نوع من العملات النقدية الإسلامية غير الدينار الذهبي و الدرهم الفضي، يطلق عليها اسم "السُكة") لفائدة القبيلة التونسية المقيمة داخل البايلك، و هذا العداء بين الإيالتين شجع باي تونس القوات الفرنسية على تكثيف قواتها البحرية الممركزة في الساحل الشرقي ، كما جهز أربعة زوارق مدفعية لحماية الأسطول الفرنسي من ضربات السفن الجزائرية..
لقد أدت هذه الأحداث إلى قتل جلهم في مناصبهم شنقا مرة، و خنقا تارة، و ذبحا تارة أخرى ، و لعل السبب في قتل هؤلاء الباشوات و الدايات يعود إلى سخط الرعية المظلومة و انتقام الجنود المرتزقة ( الإنكشارية)، أما سبب قتل البايات فيرجع إلى استحواذ الغيرة المقيتة على عقول الدايات و استيلاء الحسد الفتاك على قلوبهم مخافة امتداد قوة البايات المعنوية و سريان نفوذهم في صفوف الرعية فراحوا يجازونهم بالسجن و التعذيب و القتل و مصادرة أموالهم، و يقدم التاريخ أسوأ صورة على ذلك تقشعر لها القلوب و تشمئز لها النفوس تلك هي صورة قتل صالح باي ( باي قسنطينة) شنقا و قد ترك هذا القتل البشع في نفوس الرعية الجزائرية بأجمعها صدمة رهيبة تمخض مفعولها في النفوس الحساسة من خلال مرثيته "قالوا العرب قالوا" التي غناها عميد المالوف محمد الطاهر الفرقاني و ربما نافسه الحاج أحمد باي آخر بايات الجزائر العثمانية
سجل صالح باي للأوقاف
مصدر للدراسات التاريخية و الاجتماعية
ترك صالح باي سجلا كبير الحجم جامعا لأملاك المساجد في المدينة و سن سجلات صغيرة يخص كل منها مسجد أو جامع أو زاوية، و قد بلغت المائة أو تفوق، و هو يتمثل في ورقات مصورة ، هو اليوم حسب ما أكدته الدكتورة فاطمة الزهراء قشي في كتابها الجديد تحت عنوان سجل صالح باي للأوقاف (مصدر للدراسات التاريخية و الاجتماعية) طبعة أولى 2009 بحوزة عائلة بن جلول و يتكون السجل من 75 صفحة تنقص منها و هي : رقم 07 ثم من رقم 58 إلى 62 دونت فيها 70 عقدا و قد تم إيداع هذه الوثائق في مصلحة أرشيف ولاية قسنطينة من طرف المحامي ابن طرشة في الثمانينيات من القرن الماضي تحت اسم: " سجل صالح باي للأوقاف" و كان قد تعرف على هذه العقود العدلية هذه في إطار عمله كمحامي ضمن ملف عائلة بن جلول و هم أحفاد السيد شعبان بن عبد الجليل القاضي الحنفي في عهد صالح باي، و ترجح الدكتورة قشي أن هذه العقود جزء من سجل جامع سيدي الكتاني، يحتوي هذا السجل على عقود عدلية صدرت عن المحكمة الشرعية لمدينة قسنطينة و كل العقود مخطوطة بخط مغربي واضح، و يبدو من هذه العقود أن صالح باي قد أجرى معاملات كثيرة بين شراء و معاوضة مع أعيان المدينة و ملاكها من المسلمين و اليهود، فحرص على صون مصلحة ألأوقاف..، حيث أفادت هذه العقود في جرد المعالم العمرانية داخل ألسوار من خلال مخططات النسيج العمراني القسنطيني التي وضعت بعد الاحتلال مباشرة، و العقود تفتقر إلى تاريخ ، و لكن الأرجح كما تشير صاحبة الكتاب أنها تعود إلى سنتي 1202 أو 1203 للهجرة عندما ظهر لصالح باي إخراج البنات و حصر حبسه بعد مماته في ولده البكر محمد..
__________________