أنيسها الوحيد كلب ونعاج في حياة تشبه زمن العصر الحجري
الوصول إلى المكان الذي تعيش فيه خالتي «سعيدة تافساست» يتطلب أولا النزول عبر منحدر صخري بخطوات بطيئة وحذر شديد وتدقيق في اختيار موطئ القدم، على أن لا يكون صخورا متحركة أو مكانا شديد الانحدار قد يتحول إلى خطر حقيقي مثلما حدث معنا أكثر من مرة، وبانتهاء مرحلة النزول نجد مجرى مائيا يجب قطعه للمرور إلى الجانب الثاني من طرفي الوادي، وبعد تخطي عشرات أشجار النخيل تبدأ المرحلة الثانية من رحلة الوصول إلى امرأة العصر الحجري في إحدى شرفات غوفي ببلدية غسيرة في ولاية باتنة .وعلى نقيض المرحلة الأولى، يجب التمتع بقوة جسدية تسمح بالصعود إلى غاية منتصف الجهة المقابلة من الجبل في رحلة تتطلب حوالي ساعة من الزمن ذهابا فقط، وبمجرد الاقتراب إلى موقع خالتي سعيدة لا صوت يعلو على صوت نباح كلبها المدوي عبر أرجاء واد سحيق وجبال شامخات كانت رفوفها موطنا للإنسان الأمازيغي القديم، وبقيت إحدى تلك الرفوف تأوي خالتي سعيدة ليومنا هذا، في مفاجأة لم تكن تخطر على البال، فهذه المرأة لا أنيس لها نهارا في هذا المكان المقفر سوى كلب وعنزات ونعاج ورثتهم عن والديها المتوفين، تطعمهم وتتحدث إليهم وتشكو لهم آلام عمودها الفقري كلما بدأت صباح أحد أيام الأسبوع رحلة نقل كيس فضلات غنمها لبيعه في المدينة بمبالغ تتراوح بين 200 و300 دج كمصدر رزق وحيد تشتري به دقيقا تحمله على ظهرها، وتعود مساء عبر نفس المسافة الشاقة إلى وكرها لإعداد كسرة تتناولها مع كأس حليب ماعز إن وجد، وإن لم يُدر ضرع العنزة به، فالكسرة هي طبقها الرئيسي في العشاء أو الغداء، أمّا وجبة الفطور فلا موقع لها من قاموس خالتي سعيدة التي وصلنا إليها عند منتصف النهار تقريبا، وأقسمت أنها لم تتناول شيئا، ولم تكن تمتلك شيئا لتأكله وأنها ستنظر في أمرها بعد إطعام الكلب وقطيع الماعز والغنم، في مشهد مؤثر أبكى مرافقنا. وفي الليل فصل جديد من حكاية امرأة مكنتها الحياة البرية من حفظ جيد لمواقع النجوم التي تستدل بها أوقات السحور في رمضان وصلاة الفجر في بقية الأيام، ففي الليل يدخل عدوها اللدود الوحيد على الخط وهو الذئب، الذي يحاول اقتحام زريبة الغنم عدة مرات في الليلة الواحدة، وفي كل مرة يواجهه الكلب بنباح يقطع سكون الليل ويوقظ خالتي سعيدة من نوم خفيف تحت صخرة عملاقة نتجت عن ترسبات طبيعية لملايين السنين، فتهرع بعصاها ومصباح يدوي وسط الظلام الدامس بين الصخور لمواجهة ذئب لا يكل ولا يمل من محاولاته، إلى غاية بزوغ فجر يوم جديد، تبدأ فيه مهام روتينية مع امرأة لا تعرف عيد المرأة في حياة برية من مخلفات العصور الحجرية تذوقت فيها خالتي سعيدة المرارة فقط، ولم تذق فيها الملذات طوال نصف قرن من عمر قضته بعيدة عن أعين الرجال، فبقيت عزباء وحيدة في البراري لا قريب لها سوى شقيق مكسور في المستشفى، وعند حوالي الثانية بعد الظهر ودّعتنا خالتي سعيدة بابتسامة عريضة تحطمت عندها كل مظاهر قسوة تلك الحياة.