مقالة فلسفية: هل يمكن الاستغناء عن الفرض في المنهج العلمي ؟
هل يمكن الاستغناء عن الفرض في المنهج العلمي ؟
المقدمة : إن الفكر الإنساني لا يقتصر على ملاحظة الحوادث بل إنه يطمح الى فهمها أي أنه يضع يده على قوانينها العامة ولعل سبيله في الوصول إلى هذه الغاية الفرض العلمي الذي “هو عبارة عن تفسير مسبق مؤقت لظاهرة يتبناه الباحث العلم ريثما تثبته التجربة غير أن أهمية الفرض هذا بالنسبة للعلوم التجريبية لم تحظ بالترحيب الكلي مدة طويلة حتى قال ماجندي “إن الحادثة التي يلاحظها الباحث ملاحظة جيدة تغنيه عن سائر الأفكار ” ويقصد بالأفكار الفروض ولكن هل للفرض أو الفرضية وزن في البحث التجريبي أو لابد من استبعاده بحجة التمسك بالحادثة في حد ذاتها ومحاولة تفهمها بصورة دقيقة ؟
عرض القضية : لا يمكن الاستغناء عن الفرض في المنهج التجريبي لأنه يحدد الكيفية التي سيتم بها الإجراء التجريبي لأن التجريب العلمي ينطق أساسا من التفسير وقال بهذا الرأي لصحاب النزعة العقلية .
الحجة : إن الكشف العلمي يرجع إلى تأثير العقل اكثر مما يرجع إلى تأثير الأشياء يقول ويوال (إن الحوادث تتقدم إلى الفكر بدون رابطة إلى أن يجيء الفكر المبدع) ويقول بوانكاري ( إن العلم يتألف من الحوادث ولكن الحوادث وحدها لا تكتفي ” فكما أن كومة الحجارة ليست بيتا كذلك اجتماع الحوادث دون ترتيب ليس علما ولهذا فإن النظام أو الفكرة لا تخرج من الحوادث بل تستخرج منها واستخراجها لا يتم إلا بتأثير من عقل العالم وخياله أو من حدسه ويعتبر بوانكاري خير مدافع عن دور الفرضية إذ يقول أن التجريب دون فكرة سابقة غير ممكن لأنه سيجعل كل تجربة عقيمة ذلك لأن الملاحظة الخالصة والتجربة الساذجة لا تكفيان لبناء العلم ) مما يدل على أن الفكرة التي يسترشد بها الباحث في عمله تكون من بناء العقل وليس بتأثير من الأشياء الملاحظة ولهذا الفكرة تستخرج من الحوادث واستخراجها لا يتم إلا بتأثير العقل وخيال العالم والفرض ضروري لكون الملاحظة الحسية لوحدها غير كافية لأن تفسير نفسها بنفسها بل الفكر هو الذي يتخيل تفسيرا مناسبا للإشكالية التي تطرحها الملاحظة الحسية ثم إن العقل لا يستقبل كل ما يقع في الطبيعة استقبالا سلبيا على نحو ما تصنع الآلة فليس الحادث الأخرس هو الذي يهب الفرض كلما تهب النار الدخان لأن الفرض من قبيل الخيال ومن قبيل واقع غير الواقع المحسوس ألم يلاحظ أحد الفلكيين مرة الكوكب “نبتون ” قبل “لوفيربي” ؟ ولكنه لم يصل إلى ما وصل إليه “لوفيربي” لأن ملاحظته العابرة لم تسبقها فكرة أو فرض ويقول كلود برنارد “الفكرة مبدأ كل برهنة وكل اختراع واليها ترجع كل مبادرة ” أي أن دور الفرض يكمن في تخيلي ما لاغ يظهر بشكل محسوس فنن لا ندرك دوران الأرض إدراكا مباشرا ولكننا نتصور حدوثه ومعنى هذا أن الفرض يحتوي عنصرين لم يسبق لنا أن أدركناه بحِسنا عنصرا تصوريا يتعدى الخبرة الحسية المباشرة ولذلك فإن الفرض بالنسبة لأصحاب النظرية العقلية هو الذي يقود الباحث نحو التجريب وليس الحواس ولقد تنبه إلى هذه الحقيقة ابن الهيثم في مطلع القرن 11م قال “إنني لا اصل إلى الحق إلا من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية وصورتها الأمور العقلية ” أي لكي ينتقل من المحسوس إلى المعقول لابد أن ينطلق من ظواهر تقوم عليها الفروض ومن الأمثلة التي تبين كيف أن العالم يغني المعطى التجريبي بحوادث مفترضة مثلما حدث في فلورنسا حيث لاحظ السقاءون أن الماء لا يرتفع في المضخات الفارغة اكثر من 10.33م وهذا ما جعلهم يشكون في تفسير أرسطو الذي يقول إن الماء يرتفع بواسطة المضخة لأن المضخة إذا أفرغت من الهواء والطبيعة تكره الفراغ لهذا فالماء يرتفع لملء هذا الفراغ لكن هذا التناقص دفع تورشلي إلى أن يفترض تفسيرا جديدا افترض وجود ضغط جوي وبه فسر وقوف الماء عند 10.33م لا اكثر فتورشلي لم يشاهد ظاهرتين متلازمتين في الحضور عدم ارتفاع الماء اكثر من 10.33م من جهة ووزن الماء من جهة أخرى بل شاهد فقط الظاهرة الأولى أما الثانية فهي من قبيل الخيال والذهن ولولا هذا الإبداع على حد تعبير برانشفيك لما وصل إلى فهم الظاهرة .
النقد : في الواقع لا يجب الانتقاص من قيمة الفرض وهو ضروري فمن دونه لا يقوم نشاط علمي وبدون فكرة لا تحصل معرفة لكن الفرض قد يخضع لذاتية نابعة عن خيال العالم ولذلك فهو قابل للخطأ وبعيدا عن الموضوعية كما أنه من الممكن أن يبعد الباحث عن التفسير الحقيقي لظاهرة ما إذا كان خاطئا خاصة وأنه يلتمس الخطأ والصواب ثم إن هناك بعض الأشياء تكتشف بغتة بدون أن يكون لها فرض من الفروض وهذا ما حدث مه غاليلي حينما اكتشف أقمار للمشتري بواسطة المنظار وإذا ما حاولنا استقراء التاريخ نجد أن الاكتشافات العلمية في الغالب لم تكن سوى اندفاع من فضولهم كما أن الفرض لا يكون سابقا للتجربة في كل مرة وليس ضرورة إطلاقا لأنه قد يكون في بعض الأحيان خطرا , “إن الخطر كما يقول “بوسوي” هو في بعض الأحيان حقيقة نحملها ما لا تطيق ” وكما هو معروف ينبغي أن يستوفي الفرض شروطا حتى يكون مفيدا – أن يكون الفرض منبثقا من الملاحظة – وان لا يناقض ظواهر مؤكدة تثبت صحتها –وان يكون الفرض كافلا بتفسير جميع الحوادث المشاهدة (المقصود منه الشمول لا التبسيط )
نقيض القضية : يمكن الاستغناء عن الفرض
الحجـة : إن الفرض مشروع قانون أو تفسير مؤقت نخاطر به في ميدان التجربة فإن ثبت بطلانه عدلنا عنه إلى فرض ثان فثالث حتى يكون قانونا عاما لكن هذا رأى طائفة من الباحثين وخاصة منهم بعض التجريبيين فهم يرون في الاستقراء الذي نحصل به على قضية عامة انطلاقا من عدد ما من الحالات الخاصة ويرون أن القضية تنتج بصورة واضحة من تجميع هذه الحالات أو على الأكثر من اجتماعها وتعميمها وان الخيال يشكل عائقا في وجه الباحث وبعض المعجبين بهذا الرأي يستندون إلى ما قاله ماجندي إلى تلميذه كلود برنارد ” أترك عباءتك وخيالك عند باب المخبر ” يكفي أن نترك التجربة تحل بنفسها في أذهاننا حتى ندرك حقيقة الظاهرة ويقول “ج,س,ميل ” (إن الطبيعة كتاب مفتوح ولإدراك القوانين التي تتحكم فيها ما عليك إلا أن تطلق العنان لحواسك أما عقلك فلا ) ويعتقد أن الخيال يؤثر على الموضوعية وإذا كان الفرض من طبيعة ذاتية فإنه يصبح عائقا في البحث العلمي واستخدام الفرض مع التأكد من صحته والاعتماد على التجربة عن الاختيار يعد مضيعة للوقت من جهة وإفراطا في الجهد من جهة أخرى ويرون انه من الممكن الانتقال من الملاحظة إلى التجربة وهذا معناه أن الملاحظة هي التي تقود الباحث إلى الحل وليس الفكر ولهذا سمي موقفهم بأصحاب النزعة الحسية دون اللجوء إلى الفروض ولقد اصطنع ج س ميل الطرق الاستقرائية التي تمكن الباحث من فهم الظاهرة والوقوف على عللها دون الخروج عن الطابع الحسي للظاهرة وحتى نتأكد من وجود السببية بين ظاهرتين نحاول اكتشاف نوع العلاقة بينهما منها : – طريقة التلازم في الحضور وتعني إذا تلازمت حالتان أو اكثر للظاهرة المراد دراستها في طرف واحد فقط فهذا الطرف هو العلة في حدوث الظاهرة أي أن العلة والمعلول متلازمتان في الحضور بحيث إذا شوهدت العلة وشوهد معها المعلول والعكس أي إذا لاحظنا أن الظاهرة (أ) تتبعها دائما الظاهرة (ب) استنتجنا من التلازم في الحضور أن (أ) علة (ب) وعلى هذا المنوال فسرت ظاهرة الندى حين لاحظ “ولز” إن الضباب يتكاثف على زجاج النوافذ أثناء الشتاء وان بخار الماء يتكاثف أيضا على جدران الكوب إن كان فيه ماء مثلج أو على سطح المرآة إذا نفخ عليها …الخ ,وانتهى (ولز) من مشاهدة هذه الحالات إلى استخلاص هذه الحقيقة وهي أن جميع تلك الحالات تتفق في ظرف واحد مشترك هو أن بخار الماء الموجود في الهواء يتكاثف على سطوح الأجسام الصلبة متى كانت درجة حرارتها اقل من درجة حرارة الجو المحيط بها وهذا الظرف المشترك الوحيد هو سبب وجود الظاهرة .
-* طريقة التلازم في الغياب ومفادها أن غياب العلة يستتبع غياب المعلول معها قام باسكال نفسه بحذف الضغط الجوي من وعاء الزئبق والأنبوب الممتد فيه ووصل إلى أن الزئبق لم يرتفع في الأنبوب وهنا غياب ضغط الهواء يستتبع غياب ارتفاع الزئبق في الأنبوب .
-* طريقة التغيير النسبي وهي تنظر إلى العلاقة بين الأشياء نظرة رياضية كمية وتعني أن كل تغير يطرأ على الظروف (السببية) يقتضي تغيرا مقابلا في الظاهرة وهذا ما قام به باستور للتحقق من علاقة ظاهرة التعفن بما في الهواء من جراثيم فقد اخذ ثلاث مجموعات من أنابيب الاختيار عدد كل مجموعة عشرون أنبوبا وملأها بسائل معين ثم عقمها ووضعها مفتوحة في أماكن تختلف درجة نقاء الهواء فيها وبعد مدة تبين له أن نسبة التعفن في المجموعة التي وضعها في الريف كانت ثمانية من عشرين ونسبة التعفن في المجموعة الثانية التي وضعت في جهة اكثر من الأولى كانت خمسة أنابيب من عشرين بينما كانت هذه النسبة واحدا من عشرين فتحها في منطقة يستمر فيها الجليد طوال العام , واستخلص منه أن نسبة التعفن تزيد كلما كان الهواء اكثر تعرضا للتلوث بالجراثيم .
-* طريقة البواقي وملخصها أن الباقي من العلل للباقي من المعلولات مثلا إذا كان لدينا مجموعة من المفاتيح (أ), (ب), (ج) وعرفنا أن كل واحد من هذه المفاتيح يفتح مجموعة من الأبواب (د),(ه), (و) وعرفنا بأن (أ) يفتح (ه) و(ج) يفتح (د) فيثبت لدينا أن المفتاح الباقي (ب) يفتح الباب الباقي (و) ولهذه الطريقة اثر في المجال الفلكي من ذلك أن العالم الفلكي الفرنسي
“لوفيربي ” لاحظ سنة 1846م أن الكوكب أورانوس قد في مساره عن موقعه وعلل هذا الاضطراب عملا بما تفترضه نظرية الجاذبية التي تحدد موقع أي كوكب بدنو أحد الكواكب المجاورة لـ أورانوس من هذه الكواكب اخذ لوفيربي يدرس نصيب كل كوكب في التأثير فقدر المسافة التي تفصل الكوكب المنحرف عن الكواكب التي تجاوره وعلق عنايته على الخصوص بالمشتري وزحل ونسب إلى كل منهما مقدار أثره في الاضطراب غير انه لاحظ أنه يبقى في النهاية جزء من الاضطراب لا يرجع إليها فوجد أن هذا المقدار الباقي راجع إلى تأثير كوكب يكون بقرب أورانوس ولم يشاهد بعد وسمي هذا الكوكب ” نبتون ” وقد طلب العالم الفلكي الألماني “غال ” أن يراقب الكوكب في المسار الذي عينه حسابه وتم الاكتشاف .
النقد : إذا اقتدى العالم ببعض هذه الطرف فإنه لاشك يقف على فهم الظاهرة بدون أن يكلف نفسه عناء حدود هذه الظاهرة في طبيعتها الحسية ولكن أليس في هذا الموقف نوع من المجازفة ؟ ثم من الاعتراضات التي نسبت إلى “ميل” ما قاله “ويوال ” قال إن الاستدلال التجريبي الذي يقترحه “ميل” يغفل دون العقل ونشاطه مع أن العقل هو الأداة التي نكشف بها العلاقات القائمة بين الأشياء وعن طريق وضع الفروض و”ميل ” هو نفسه يعترف بعيوب طريقته ولقد قيل في شأن الطريقة الأولى أن العامل الذي يلازم الظاهرة وقوع ليس من الضروري أن يكون مسؤولا عن الظاهرة فحضوره باستمرار في حالات وقوع الظاهرة لا يعني أنه لا يحضر في الحالات التي لا تقع فيها الظاهرة فقد يكونان معا معلولين لظاهرة أخرى وهذا يدل على أن استخدام طريقة الاتفاق يمنعنا من أن نطمح إلى بناء فروض أخرى وقيل في انتقاد في الطريقة الثانية إننا قد نغفل عن عناصر أخرى هامة في الموقف مما قد يكون له الأثر الحقيقي في حدوث الظاهرة إذ من يدري فقد يكون هناك شيء آخر لم يره “باسكال”
وعزله عندما حذف الهواء أثناء تجربته وكان هذه الطريقة تنصح بأنه “لا يمكن أن يعتبر نسبيا لظاهرة أي عامل لا يغيب في الوقت الذي تغيب فيه الظاهرة” والطريقة الثالثة قاصرة هي الأخرى لأن وجود ارتباط في التغير بين ظاهرتين لا يعني ان الأولى علة أو نتيجة للثانية فقد يكون الارتباط من قبيل الصدفة فالتغيير المطرد بين ظاهرتين لا يدل إطلاقا على وجود علاقة علية بينهما والطريقة الرابعة فلا تستخدم إلا في مرحلة متقدمة من العلم حيث يكون الباحث مشبعا باطلاع واسع عالما ببعض النظريات أو الأفكار ولهذا أعلن “غاستوب باشلار” (إن التجريب العلمي الصحيح يتنافى وهذه الطرائق التي تعود الى عمر ما قبل العلم ) كما أن التفكير العلمي لم يعد همه اكتشاف العلل أو الأسباب بقدر ما هو اكتشاف العلاقات الثابتة بين الظواهر .
التركيب : إن الطرق الاستقرائية تفيد العالم وتجعله يقف على فهم الظاهرة ومعرفة عللها دون تجاوز الطابع الحسي لها ولكن هذه الطرق لا يمكنها أن تحل محل الفرض العلمي فبدونه لا يقوم نشاط علمي وبدون عقل مفكر يجمع بين الحوادث لا يحصل إدراك ولا معرفة وعليه تبقى الفرضية من اكبر خطوات المنهج التجريبي فعالية وقد أكد غاستوب باشلار على المعنى التكاملي بين كل من الفرض والتجربة فالفرض الفاشل يساهم في إنشاء الفرض الناجح عن طريق توجيه الفكر .
الخاتمة : لا يمكن إنكار دور الفرضية أو استبعاد آثارها من مجال الفكر والتفكير عامة لأنها من جهة أمر عفوي يندفع إليه العقل الإنساني بطبيعته ومن جهة أخرى وهذه هي الصعوبة تعتبر أمرا تابعا لعبقرية العالم وشعوره الخاص إن مصير الرحلة يتوقف على نقطة الانطلاق ويعترف كلود برنار بأنه ( لا توجد قاعدة لتوليد فكرة صحيحة في ذهن العالم إثر ملاحظة من الملاحظات ولكن الفكرة إذا تولدت أمكننا أن نخضعها لقواعد دقيقة لا يستطيع المجرب أن يبتعد عنها ) وما يطمح إليه العلم لا يتحقق على الوجه الأكمل إلا بالانتقال من الفرضية إلى القانون .