هل فكرت لحظة أن تعود إلى عهد الفراعنة لتلعب بعصا البردي، أو زمن الفتوات حيث عاشور الناجي، وأدهم الشرقاوي، أم أن الرحلة بعيدة، لا تفكر كثيرا.. فأصوات العصي، على نغمات المزمار تخطف الأنظار في الصعيد، يتبارز الرجال في حلقات دائرية.. أصوات الخيزران والشوم، وصيحات المشاهدين مشجعين ومهللين، مشهد ينهيه سقوط عصا أحد الخصمين، ليُعلن فوز الآخر.
الموالد والتحطيب
يقول الباحث "محمد بربر" صاحب دراسة العادات المصرية القديمة: تعدّ الموالد الشعبية هي المكان الرسمي لتلك اللعبة والتي بدأت تندثر في الفترة الأخيرة، حيث يتجمع عشاق ولاعبو العصي من كل مكان للاستمتاع باللعبة في الموالد، التي أصبحت مكانًا متعارفًا عليه لجميع من يريدون لعب العصا والمرتكزة خاصة في محافظات الصعيد، فمع بداية إقامة الموالد بـ"محافظة قنا"، والتي تعد المركز الأول في ارتكاز اللعبة يتهافت الكثيرون من لاعبي العصا، للمشاركة في هذا العرس.
طقس فرعوني
ويستكمل بربر، وهي لعبة فرعونية قديمة، ومن الألعاب التي تشجع على الفروسية والمهارة في القتال، فقد وجدت بعض النقوش والحفريات على جدران المعابد الفرعونية، تظهر أفرادًا يتبارزون بالعصي في رياضة سلمية لكن العصا التي استخدمها قدماء المصريين كانت مصنوعة من نبات البردي المعجون حتى لا تكون مؤذية، لكن التي تستخدم الآن شديدة الصلابة لدرجة أنها قد تتسبب في وفاة المبارز إذا جاءت الضربة قوية فوق رأسه، ووقتها لن يكون هناك حق لأهله في المطالبة بثأره أو حتى ديته.
تراث مصري
ويضيف بربر، التحطيب فن شعبي يعبر عن تراث البيئة المصرية، فهو يعلم لاعبيه الكثير من الخصال الحميدة، فله قواعد وأصول صارمة، لابد من تعلمها جيدًا قبل حمل العصا والدخول لميدان اللعبة، فتبدأ تلك اللعبة بتكوين حلقة دائرية من الشباب والرجال ويحتل عازفو المزمار البلدي والربابة والناي جزءًا مميزًا من هذه الحلقة ليكونوا على مقربة من لاعبي العصا ليبدأوا اللعب على أنغام المزمار، وقبل البدء لابد من اختيار مُحكم ليفصل في أي نزاعات أو خلافات قد تنشأ بين اللاعبين، بالإضافة إلى ضرورة الالتزام بارتداء الجلباب الصعيدي البلدي وبدونه لا يمكن لأي شخص المشاركة.
قواعد التحطيب
ويبدأ اللعب بتبادل التحية والسلام بين اللاعبين برموز وحركات معينة باستخدام العصا، فكل حركة لها دلالة خاصة، فوضع العصا بشكل أفقي تعني أن المبارز يريد صدّ عصا المنافس، وأي خطوة يخطوها الفارس تكون محسوبة دائماً وليست عفوية، والعودة للخلف بالظهر لخارج الحلبة يحسب نقطة على الفارس لصالح خصمه.
وتعادل ضربة الرأس ثلاث نقاط، بينما تساوي الضربة على الجزء الأوسط من الجسم نقطتان أما الضرب على الساق فيحقق نقطة واحدة وعندما يستطيع أحد الخصمين، إسقاط العصا من يد الآخر بالضغط عليه فإن ذلك يعني فوزه، ويقوم بعدها اللاعبان بمعانقة بعضهما، ويقوم الفائز بمشاركة الجمهور رقصة قصيرة على أنغام المزمار.
لاعب تحطيب
ويشير "محمد الراوي" لاعب تحطيب أن تلك اللعبة ليست مجرد لعبة عادية، فبجانب كونها هواية إلا أنها تعلم الإنسان الكثير من القيم والصفات منها الصبر والمروءة الشهامة، مضيفاً، أن لاعب التحطيب لابد أن يجيد فنون التعامل مع الآخرين ويتمتع بذكاء يمكنه من الانتصار على خصمة.
وبجانب ضرورة توافر صفات جسدية منها القوة البدنية والجسمانية لكي يتمكن المبارز من الإمساك بالعصا جيدًا وبقوة حتى لا تقع من يده، مشيرًا إلى أن التحطيب المصري في العصور القديمة يختلف عن التحطيب الآن، وذلك لأن الفراعنة استخدموه كطقس من الطقوس المنتظمة التي تؤدي في الأعياد الدينية، وبدلاً من العصي الخشبية كانوا يستخدمون لفافات البردي الكبيرة حتى لا يصاب المتبارون بالأذى، ثم جاء تطور التحطيب باختزال اللفافتين إلى واحدة وتحويلها إلى عصى بتطور استخداماتها في مجال الدفاع عن النفس.
التحطيب رياضة
وفى نفس السياق يقول "عماد سليمان" لاعب تحطيب ، وأحد متعهدي إقامة الموالد بمحافظة سوهاج ، أن فن التحطيب رياضة أيضاً ، ويختلف عن رقصات الفنون الشعبية والتي تعتمد على العصي كأداة للرقص، فيما يقدمه من الروح الحقيقية للتحطيب المصري الذي يعتبر رياضة لها أخلاقيات خاصة فرغم اعتمادها على الهجوم والدفاع وفكرتها القتالية، إلا أنها تدعو إلى التسامح والإخاء.
عصي محبة
ويشير سليمان، إلى أن العصا المستخدمة في فن التحطيب ليست عصا عدوان، ولكنها عصى محبة لحفظ الحقوق وإقرار السلام والتمسك بالنبل والشهامة، فمنذ القدم وحتى الآن والعصي رفيقة الفلاح في عمله ورفاهيته فهي رفيق لا يعرفه ساكن المدينة، مضيفاً أن المصريين يتعاملون معها الآن على أنها طقس لا ينتمي إلى الطقوس الدينية بل إلى العادات الاجتماعية والتي تفرض التحطيب في المناسبات السعيدة.
حضارات أخرى
ورغم محلية التحطيب، إلا أنه كان نبعًا، ارتشفت منه كثير من الحضارات مثل "الكيندو الياباني والمبارزة القديمة التي انتشرت في معظم الحضارات الغربية، والتي تتشابه طقوسها وأخلاقياتها مع الجذور القديمة للتحطيب الفرعوني.