الجاحظ ونقاد المدرسة القديمة:
وحول رأيه عن نقاد المدرسة القديمة مدرسة الرواة واللغويين والنحويين يقول الجاحظ أنه قد لاحظ أن النحويين لا يهتمون إلا بالشعر الذي فيه شاهد نحوي، وأن الرواة لا يعجبون إلا بكل شعر فيه الغريب والمعاني الخفية التي تحتاج إلى شرح وتوضيح، كما أن الإخباريين لا يبحثون إلا عن الشعر الذي فيه الشاهد والدليل(1).
ويقول في موضع آخر أنه قد ذهب يبحث عن علم الشعر عند الأصمعي فلم يجده يعرف إلا غريبه، فعطف على الأخفش فما وجده يعرف إلا إعرابه، ثم عطف على أبي عبيدة فوجده لا ينشد من الشعر إلا ما يشتمل على الأخبار والأيام والأنساب. ثم يُؤَكِّد الجاحظ أنه لم يجد ضالته إلا عند رجال الأدب من الكتّاب أمثال الحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك الزيات(2) وفي حديثه عن أهم الموضوعات في الشعر الذي ينشده رواة المسجديين ورواة المربد ذكر أنهم لا يقبلون الراوية إلا إذا كان يروي أشعار المجانين، ولصوص الأعراب، وشعر النسيب ومقطعات الرجز مما ينظمه الأعراب، وشعر اليهود، والقصائد المنصفة. ويروي الجاحظ أنه قد لاحظ بعد ذلك أنهم قد تركوا كل هذا واقتصروا على رواية الخطب القصيرة، وقصار القصائد. والقطع والمختصرات. وقد كانوا في زمن مضى – كما يروي الجاحظ – مولعين برواية شعر النسيب عند العباس بن الأحنف فما لبثوا أن جاءهم خلف الأحمر وأنشدهم من شعر النسيب عند الأعراب، وسرعان ما أعجبوا به جداً وتركوا شعر العباس وبعد سنوات من ذلك تركوا كل هذا ولم يعد أحدٌ يروي شعر النسيب عند الأعراب إلا أن يكون راوية مبتدئاً أو متغزلاً. وأكّد الجاحظ أنه لم يسمع الأصمعي ولا أبا عبيدة أو حتى رواة بغداد يروون شعر النسيب، والاستثناء الوحيد هو خلف الأحمر الذي كان يروي بجانب شعر النسيب كل الأغراض الشعرية الأخرى(3).
ما الذي كان يبحث عنه الجاحظ، وماذا وجد عند الرواة من الكتّاب وأهل الأدب، وما الذي عجز أن يجده عند الرواة والنحويين واللغويين ممن وجّه إليهم ذلك النقد العنيف؟ في الواقع إنَّ الجاحظ أفاد كثيراً من آراء هذه الفئة الأخيرة فيما يتعلق بنقد الشعر، ولكنه كان يبحث عن شيء آخر فوق هذا شيءٌ أهملته هذه الفئة؛ لقد كان يبحث عن الائتلاف بين اللفظ والمعنى، وصحة الوزن، والحذق في الصنعة الشعرية. وقد كتب قائلاً عن الرواة من الكتّاب أنّه قد راقبهم أزماناً طويلة فوجدهم لا يبحثون في الشعر إلاّ عن الألفاظ المتخيرة والمعاني المنتخبة مع الألفاظ العذبة والمخارج السهلة، والديباجة الكريمة، مع الطبع المتمكن، والسبك الجيد، والكلام الذي له ماء ورونق، والمعاني التي إذا دخلت القلوب عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت أبواب الفصاحة للّسان، وقادت القلم إلى خزائن الألفاظ وأنارت الطريق إلى حِسَان المعاني.
ثم ذكر الجاحظ أنه وجد أنَّ إدراك وفهم هذا الجوهر من الكلام أمرٌ شائع بين الكتّاب الذين تدربوا على رواية الشعر؛ وظاهر عند حُذاق الشعراء(4).