إنَّ للوطنِ مكانةً عاليةً وحبُّهُ غريزةٌ متأصلةٌ فِي النفوسِ جُبلَ الإنسانُ عليهَا، فليسَ غريباً أنْ يُحبَّ الإنسانُ وطنَهُ الذِي نشأَ علَى أرضِهِ، وشبَّ علَى ثراهُ، وترعرعَ بينَ جنباتِهِ، كمَا أنَّهُ ليسَ غريباً أنْ يشعرَ الإنسانُ بالحنينِ الصادقِ لوطنِهِ عندمَا يُغادرُهُ إلَى مكانٍ آخرَ، لقوةِ الارتباطِ وصدقِ الانتماءِ، فهذَا سيدُ الخلقِ وحبيبُ الحقِّ صلى الله عليه وسلم يقولُ لِمَكَّةَ يومَ خرجَ منهَا مهاجراً: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِلَىَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ» ([3]) وقدْ دعَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ربَّهُ بأنْ يرزقَهُ حبَّ المدينةِ لَمَّا انتقلَ إليهَا، فقدْ قالَ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ» ([4])
إنَّ الحبَّ الحقيقيَّ للوطنِ يعنِي القيامَ بالواجباتِ المنوطةِ بكلِّ فردٍ بأمانةٍ وإخلاصٍ، علَى اختلافِ المواقعِ والمراكزِ والمناصبِ والرُّتَبِ، وأنْ نسعَى دائماً إلَى كلِّ مَا يُحقِّقُ الرفعةَ والحضارةَ لهذَا الوطنِ؛ فكلُّ خيرٍ ومعروفٍ وبذلٍ وعطاءٍ نقدِّمُهُ لأوطانِنَا هوَ عبادةٌ نتقرَّبُ بِهَا إلَى اللهِ تعالَى، قالَ سبحانَهُ:) وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [([5]) ولنعلمْ أنَّ حبَّ الوطنِ مرتبطٌ بسلوكِ الفردِ ارتباطاً لاَ انفكاكَ منْهُ، يلازمُهُ فِي كلِّ مكانٍ فِي حلِّهِ وترحالِهِ، فحبُّ الوطنِ يظهرُ فِي احترامِ قادتِهِ، وفِي احترامِ رموزِهِ، وفِي احترامِ أنظمتِهِ وقوانينِهِ، وفِي التشبثِ بكلِّ مَا يؤدِّي إلَى وحدتِهِ.
ومِنْ مقتضَى محبةِ الوطنِ المحافظةُ علَى ثرواتِهِ وخيراتِهِ، فهيَ ملكٌ لجميعِ أبنائِهِ، ولنعلمْ أنَّ كلَّ إنسانٍ مؤتمنٌ علَى كلِّ ما يُوكَلُ إليهِ مِنْ أعمالٍ: «فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» ([6]). وعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ أَحَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ» ([7]).
ومِنْ مقتضَى محبةِ هذا الوطنِ طاعةُ أولياءِ الأمورِ ومحبتُهُمْ واحترامُهُمْ، قالَ اللهُ تعالَى] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [([8]).
ومِنْ مقتضَى محبةِ هذَا الوطنِ الحرصُ علَى تحصيلِ العلمِ النافعِ الذِي هوَ ميراثُ الأنبياءِ عليهمُ الصلاةُ والسلامُ، يَقُولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضاً لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِى الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ النُّجُومِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظِّهِ أَوْ بِحَظٍّ وَافِرٍ» ([9]) إنَّ العلماءَ يقومُونَ فِي الناسِ مقامَ الأنبياءِ؛ يبصرونَهُمْ الْهُدَى ويجنبونَهُمْ الرَّدَى، فبِالعلمِ تنمُو الحياةُ وتتقدَّمُ الشعوبُ والأُمَمُ، فعلَى هذَا نَتَوَاصَى بأنْ نَحْرِصَ عَلَى أنْ نبذلَ جُهْدَنَا، وَجُلَّ أوقاتِنَا فِي تعلُّمِ العلمِ النافعِ الذِي يؤدِّي إلَى ثمرةٍ يانعةٍ، وهيَ العملُ الصالِحُ.
والمعلمُ والأسرةُ يقعُ عليهِمَا دورٌ كبيرٌ فِي بناءِ الوطنِ وتأصيلِ الانتماءِ إليهِ ومحبتِهِ وغرسِ القيمِ والمبادئِ والأخلاقياتِ التِي تُحققُ معانِيَ الوطنيةِ والهويةِ الاجتماعيةِ، فيعيشُ الأبناءُ ولديهِمُ الانتماءُ الحقيقيُّ لهذَا الكيانِ، فالوطنُ هوَ امتدادٌ لحياةِ الآباءِ والأجدادِ.
ومِنْ مقتضَى محبةِ هذا الوطنِ أنْ يشارِكَ الجميعُ فِي بنائِهِ، وأنْ يعملَ كلُّ إنسانٍ مَا استطاعَ مِنْ أجلِ حمايةِ مكاسبِهِ وصيانةِ خيراتِهِ ومقدراتِهِ، وإنَّ ذلكَ - معَ تقوَى اللهِ والشعورِ بنعمتِهِ - شكرٌ لهذِهِ النعمةِ، قالَ اللهُ سبحانَهُ وتعالَى:) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (([10]).
ومِنْ مقتضَى محبةِ هذَا الوطنِ التمسكُ بالعاداتِ والتقاليدِ الأخلاقيةِ والأدبيةِ الطيبةِ المباركةِ التِي ورثنَاهَا عَنِ الآباءِ والأجدادِ، فإنَّ العاداتِ والتقاليدَ سمةٌ مُمَيِّزةٌ لدَى كلِّ شعبٍ مِنْ شعوبِ الأرضِ