في رحاب المسجد الأقصى
صلاح حميدة
- كم عمرك؟ ... أربعون سنة... أعطني هويّتك.... هذا هو الحوار الّذي يجري مع كل فلسطيني يذهب للصلاة يوم الجمعة في شهر رمضان في المسجد الأقصى، سؤال تُسأله عدّة مرّات من الكثبر من الجنود على حاجز قلنديا وغيره من الحواجز المحيطة بالقدس، تجد الكثير من الشّبّان الصّغار يقفون في الطّابور يريدون الصّلاة في الأقصى، وكلّهم يتمّ إعادته لأنّه لم يبلغ الأربعين، فمنهم من يلبس عباءة وكوفيّة وعجال وملابس كبار حتّى يظهر أنّه فوق الأربعين، ومنهم من يصبغ شعره بالأبيض ليمر عن الحاجز، وبعضهم يحاول عشرات المرات أن يمر ويدّعي أنّه يبلغ الأربعين من العمر، ولم أر في حياتي حبّاً من أحد أن يكون أكبر من سنّه مثلما رأيت من الشّباب الفلسطيني خلال أيّام الجّمعة ليتمكنوا من العبور للقدس والصّلاة في الاقصى.
بعض من لا يتمَكّنون من العبور يذهبون ليمارسوا ( الأولومبياد الرّمضاني الفلسطيني) بكل جدارة، فيذهبون للطّرق الملتفّة، يحبون حبواً من العبّارات الخاصّة بتصريف المياه، وإن أغلقها الاحتلال ينشرون الحديد بالمناشير، ويحفرون التراب ويدخلون للأقصى، يركضون مئات وآلاف الأمتار في الجبال، ماراثون من يصل إلى الأقصى أسرع ولا يستطيع جيش وشرطة الاحتلال القبض عليه، وتنظر لآلاف الشّباب وهم يركضون في الجبال و (الجيش الّذي لا يقهر) يطاردهم، ومن يتمكّن منه يعتقل، ومن يهرب يصل للأقصى ويصلّي. بعض الشّباب شارك في اولومبياد رمضان الفلسطيني بالتّسلّق والقفز من فوق الجدران الإسمنتيّة، برافعات أو سلالم أو حبال أو الأقمشة والكثير من الحالات المختلفة، وكلّما استحدث الاحتلال طرقاً لمنعهم من دخول القدس اخترعوا وسائل للتّغلّب على ذلك.
عبرنا المعبر هرولةً إلى الحافلات التي كانت تنتظرنا بشوق، ولفت نظري رجل طاعن في السن يبلغ تقريبا الثّمانين من العمر، كان يركض بسرعة للوصول قبلنا، وكأنّ كل خليّة في جسمه تقول واشوقاه يا قدس، واشوقاه يا أقصى.
ركبنا الحافلة وسارت فينا في طريق القدس، عبرنا الضّاحية وبيت حنينا وشعفاط والشّيخ جرّاح، تكحّلت عيوننا برؤية مسجد شعفاط ومسجد الشّيخ جرّاح ومسجد الصّحابيين سعد وسعيد في القدس، شعور رائع بالرّاحة النّفسيّة، فأنت تعبر في منطقة هي جزء منك- كما قال أحد الجالسين- فهذا لم يدخل القدس منذ عشر سنين، وهذا منذ خمس سنين....إلخ، بسبب عوائق الاحتلال، الجميع فرح ويريد رؤية كل شيء بكل تفاصيله، يسألون ما هذا وإلى أين تؤدّي هذه الطّريق...إلخ.
ثمّ تقف الحافلة قرب شارع صلاح الدّين.... صلاح الدين والقدس والأقصى لهم في عقولنا وقلوبنا ذكريات ومحبّة وأشجان.. ثم ينزل الجميع يحثّون الخطى تحو أبواب القدس، هذا إلى باب العمود، وذاك إلى باب الزّاهرة أو الأسباط أو غيره.. تمرّ في أسواق القدس القديمة وترى وجوه أهلها مبيتهجة من سيل الفلسطينيين القادم من كل حدب وصوب، طوال الطريق وعلى أبواب المسجد وداخل ساحاته تجد شبّان وشابّات الحركة الكشفيّة الفلسطينيّة يوجّهون النّاس، وشباب الخدمات الطّبيّة يقدّمون خدماتهم للمرضى، ومئات الشّباب يحملون بخّاخات للمياه يرشّون بها رؤوس المصلّين خوفاً من ضربات الشّمس، حتّى وأنت جالس في الحر تجد من يأتي ليسكب الماء على رأسك مع ابتسامة جميلة، تسمع الخطبة وتصلّي الجمعة، وتبحث عن الظّل لتهرب من لهيب الشّمس الحارقة، وتدخل المسجد الأقصى وكانّك دخلت الجنّة، فهذا يقرأ القرآن، وهذا يصلي، وذاك صلّى ما يقارب المائة ركعة حتّى يستزيد من الأجر، تتحسّس جدرانة وأعمدته، تريد أن تمشي وتنام وتصلّي في كل جنب من جنباته، تتسلّق الأسوار، وتنزل للمسجد الأقصى القديم، والمسجد المرواني، ترى الفلسطينيين من النقب ومن الجليل والمثلت وكل الضّفة الغربية، ترى مسلمين من دول أوروبيّة ومن أمريكا ومن الهند وجنوب إفريقيا وغيرها، وترى المئات من المسلمين المتسللين من دارفور.
تصلي العصر ثم يسيح النّاس في ساحات الأقصى وأسواق القدس، هذا يبحث عن مكان لشراء الإفطار، وبعضهم يريد التّعرّف على معالم وأسواق القدس، يبحثون فيها شبراً شبراً، يعانقون أعمدتها ويتحسّسون جدرانها، تجدهم يقفون في الطّابور لشراء الطّعام، ولسان حال تجار القدس يقول يا ليت العام كلّه رمضان، فما أطيب كعك القدس وفلافلها وحلويّاتها، كل طعام في القدس له مذاق آخر، هذا ليس شعوراً نفسيّاً فقط، بل حقيقة لا يعرفها إلى من يعيشها.
قبل الإفطار يبدأ أهل الخير بتوزيع وجبات الطّعام والحلوى والماء والعصائر والشّوربات والحلويّات والفواكه على المصلين، أفراداً وتجّاراً وشركات ومؤسسات خيرية، مؤسسة الأقصى للوقف والتّراث وهيئة الأعمال الخيرية الإماراتيّة وشباب الحركة الاسلامية في القدس والدّاخل الفلسطيني، والعديد من المتطوّعين حتّى في تنظيف القمامة وجعل الأقصى نظيف دائماً.
نصلّي العشاء والتّراويح في الأقصى وساحاته... ما أجملها وما أخشعها وما أروعها من صلاة، يتعب الجسم ولا تتراجع المعنويّات، ولا تخذلك النّفس، ولا سبيل إلا الصّلاة والتّعبّد والتّقرّب من الله، فأنت في أرض المعراج وأولى القبلتين وثالث الحرمين... يصلّي النّاس، فمنهم من يبقى ليعتكف صياماً وقياماً وتعبّداً ، ومنهم من يخرج عائداً لعمله وعائلته على نيّة العودة ليلة القدر والجمعة الأخيرة من رمضان إن شاء الله.
تخرج في شوارع القدس وأسواقها - القديمة والجديدة- عشرات الآلاف يسيرون .. يتسوّقون في احتفاليّة رائعة بينهم وبين المقدسيين، بعض النّاس يذهب إلى مخابز الكعك، وبعضهم إلى المكتبات، وبعضهم إلى محلّات الملابس، الكل يحرص أن يشتري كل ما يستطيع من القدس، فكل قرش تصرفه في القدس يسهم في تثبيت أهلها فيها في وجه أشرس حملة تهويد واقتلاع تشهدها المدينة.
تركب الحافلة عائداً من حيث أتيت.. ترى بيوت المقدسيين تتلألأ بالأضواء والزّينة احتفالاً برمضان والقدس وزوّار القدس، وتأكيدأ على هويّتهم الّتي يستهدفها الاحتلال بالطّمس، فالبيت الّذي يتلألأ فلسطيني، يزداد ألمك كلّما اقتربت من سجنك خلف الجدار.. أنت مسجون ومحروم من القدس والأقصى وبقيّة فلسطين.. والقدس مسجونة خلف هذا الجدار.. سجينان لا يدركان حرّيّتهما إلا عندما يتعانقان.. الفلسطيني والقدس...