ثالثا: سيناريوهات المعركة المصيرية
إذا كان السلام أمرا مستحيلا في المنظور الاستراتيجي بين العرب وإسرائيل نتيجة الطبيعة الصفرية الصراع، فإن الرؤية الاستشرافية لتلك النتائج التي سيؤول إليها الصراع يمكن أن تتحدد في ثلاث سيناريوهات.
1- سيناريو النهاية المرة: ويصور أن أحد الأطراف قد بلغ درجة القدرة على اتخاذ قرارات مؤثرة على الوجود السياسي للطرف الآخر، ولنفترض أن العرب قد توصلوا إلى هذا المستوى من القوة، فهل هذا يعني إزالة الكيان الاستيطاني من الخريطة السياسية لجغرافية الوطن العربي؟
إن هذا السيناريو، يجعل من العرب كأمة حضارية في مواجهة مفتوحة ومباشرة مع الغرب عامة والقوى السياسية التي أوجدت إسرائيل بهدف خدمة مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، فإن التحالف الاستراتيجي الإمبريالي – الصهيوني سوف لن يسمح بانقراض وإزالة هذا الكيان الاستيطاني المغروس في الجسد السياسي للنظام الإقليمي العربي.
إن القوى الدولية التي خلقت وحمت إسرائيل، هي نفسها التي أدخلتها إلى المجتمع الدولي وفرضت عليه الاعتراف بها، أي أن الشرعية الدولية نفسها أصبحت شريك في حماية المشروع السياسي للصهيونية على حسب مبادئها في حفظ السلم والأمن، وضد مبادئ العدل والقانون وحق الشعوب في تقرير مصيرها. إن كل ما تستطيع إنجازه القوى العربية هو إرغام إسرائيل على الالتزام بتنفيذ قرارات الشرعية الدولة الصادرة في حق الشعب الفلسطيني من جهة، وتحجيم دورها المشاغب في النظام الإقليمي العربي من جهة أخرى.
أما إذا حدث عكس الفرضية السابقة، أي أن إسرائيل سوف تبلغ في المستقبل درجة عالية من التطور في صناعة تكنولوجية أسلحة التدمير الشامل بشكل يخل بمبدأ التوازن الإقليمي، فهل هذا يعني توظيف هذه التكنولوجية لاستئصال الوجود القومي العربي؟
الإجابة عن هذا التساؤل تقتضي الاسترشاد بمجموعة حقائق أهمها:
أ- أنه لم يحدث في تاريخ النزاعات البشرية أن شعبا صغيرا بحجم اليهود، قد تمكن من إفناء أمة أكبر منه بحجم الأمة العرية، مهما أوتي من قوة، لأن الكم البشري يعتبره بدوره أيضا من العوامل الثابتة في قوة الدول والأمم.
ب- إن استئصال إسرائيل لأسلحة نووية قد تؤدي إلى هزيمة محدودة وليس إلى هزيمة شاملة، لأن تأثيرها سوف يكون محدودا نتيجة لاتساع العمق الجغرافي والتوزيع السكاني عليه، أي أن العرب بإمكانياتهم المادية والبشرية والمعنوية يستطيعون امتصاص الضربة الأولى والثانية، والقدرة على التكييف مع نتائجها، بينما لا تستطيع إسرائيل التكيف مع التأثير التي تحدثه حرب حتى ولو كانت بأسلحة تقليدية، لذلك تحاول إسرائيل أن تتجنب مثل هذا الخيار لأنه حسب مقولة ماو تسي تونغ: " سيبقى مائة عربي، ولكن ستفنى إسرائيل "، أي أن الصراع المؤجل كما يتوقع – يوهان غالتونغ – يعمل لمصلحة العرب، لأنهم سيصبحون أقوياء.
ت- إن كل ما تستطيع إسرائيل فعله، هو توظيف العامل النووي لردع الحكومات العربية والحيلولة دون التفكير في أي عمل عسكري ضدها، وفرض شروطها بما يتوافق والمفهوم الإسرائيلي للحدود الآمنة.
2- سيناريو الاحتواء: يفترض هذا السيناريو أن أحد طرفي الصراع قد بلغ مستوى معينا من القوة الشاملة على حساب الطرف الآخر فهل يستطيع أن يحتوي خصمه، ويكيف حركته السياسية والاقتصادية والثقافية، وفقا لمتطلبات وجوده السياسي والأمني؟
مما لا شك فيه، أن التفوق واختلال التوازن لصالح طرف على حساب الآخر، سوف يؤدي إلى تغيير أسس الوضع القائم، ويدفع بالطرفين إلى ابتداع خيارات سياسية واستراتيجية جديدة تتناسب مع معطيات ومكونات الوضع السياسي الجديد للمتنافسين.
إن فرضية التفوق – الكمي والنوعي – تعزز الثقة في سلامة وأمن الوجود القومي، وفي عقلنة سياسته وسلوكه، مما تسمح له برسم سياسات جديدة وانتهاج سلوكات ابتزازية لفرض شروط تستهدف التأثير في تغيير سياسة وسلوك الخصم واحتواء حركته السياسية وتكييفها لأهدافه واستراتيجيته.
إذا كانت الهزائم المتتالية لأنظمة العسكريتارية العربية ( 1948- 1956- 1967- 1973- 1982 ) تؤشر عن تفوق إسرائيل النوعي والذي يترجم عمليا في احتواء المواقف الرسمية لبعض الحكومات العربية وإرغامها على تغيير موقفها الرافض للوجود الاستيطاني الصهيوني على الأرض الفلسطينية، والاعتراف ب" شرعية وجوده " والتفاوض معه بشأن إقامة علاقات طبيعية، فإن هذه الهزائم وهذا الاحتواء لم يمتد إلى المؤسسات الشعبية العربية وإلى الوجود الحضاري للأمة العربية بكل مكوناتها البشرية والثقافية والروحية ونظمها القيمية، لا يمكن لكيان إستيطاني بحجم سكانه الحالي أو المستقبلي ( 10 مليون يهودي ) أن يحتوي أمة من المتوقع أن يبلغ سكانها 270 مليون نسمة مع سنة 2010.
إن ما تستطيع أن تفعله إسرائيل هو تأجيل هذا المشروع القومي، وهو فعل يمكن تنفيذه كما يتصوره – اللواء – شلوماغاريت من خلال: " حراسة أمينة لاستقرار الدول العربية المحيطة، والمحافظة على أنظمة الحكم القائمة، وكبح مسار التحول نحو الديمقراطية والراديكالية، وعرقلة توسع الأصولية الدينية المتعصبة ".
أما فرضية الاحتواء العربي للوجود الإسرائيلي، فإنها تعني من الناحية العملية احتواء وإلغاء الوظيفة السياسية والعسكرية التي خلقت من أجلها إسرائيل، وهو ما يضع الأمة العربية في مواجهة مباشرة مع التحالف البروتستانتي الأمريكي – الصهيوني وإتباعهما في العالم، وهذه الفرضية بدورها ترشح استمرارية الصراع في اتجاه الشمولية والعالمية بين الصليبية الإمبريالية وربيبتها الصهيونية من جهة، والعرب والمسلمين والمظلومين في العالم من جهة أخرى.
3- سيناريو تعايش الأنظمة وصراع الشعوب: يتصور هذا السيناريو المشهد السياسي لتفاعل العلاقات العربية – الإسرائيلية في ظل التحولات الجارية في العلاقات الدولية وفي مؤسسات النظام الدولي من نظام ثنائي القطبية إلى فرضية " الأحادية القطبية " أي " الشرطي العالمي " التي ظهرت عقب الحرب الصليبية على العراق عام 1991 وتفكك المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي.
يصور منظرو وحكام عرب أمريكا أن الولايات المتحدة الأمريكية، أضحت القوة الوحيدة – هيمنة وقيادة – في العالم، وعلى الحكام العرب أن يستوعبوا هذه " الحقيقة " وأن يكيفوا سياستهم مع هذه " القيادة " الجديدة استراتيجيا وعسكريا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا، والانضواء تحت سيادتها لتفادي " الانقراض " على أيدي ربيبتها الصهيونية، بل واستجدائها للقبول بدور " الشريك الكامل " لإجراء مصالحة تاريخية مع الصهيونية، والانخراط سويا في بناء " شرق أوسطي " تحت المظلة الأمريكية في مقابل تعهد أمريكي بحماية الملوك والرؤساء العرب من تمرد وثورة الشعوب عليهم.
ونتيجة لهذا التنظير على فرضية خاطئة، جاءت مشاركة الأنظمة العربية في مؤتمر مدريد " السلام " في 30/10/1991 الذي يعتبر مؤتمر تدرجين الأنظمة ومحطة جديدة في التاريخ السياسي للصراع العربي – الإسرائيلي، حيث أفضحت الأنظمة العربية، القطرية عن هويتها، السياسية، وانخراطها في المنظومة الأمريكية، والسير في مشروع السلام الأمريكي – العبري وقطع علاقاتها المبدئية بالقضية الفلسطينية التي أصبحت فيما بعد من اختصاصات قيادة " السلطة الوطنية " الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو.
لقد ترجمت هذه الصفقة غير المعلنة في التداعيات السياسية التالية:
أ- في 15/12/1991 وبرئاسة مصرية – سعودية ( كان بطرس بطرس غالي من جمهورية مصر العربية أمينا عاما للأمم المتحدة، وعمر لشهاب من المملكة العربية السعودية رئيسا الجمعية العمومية في دورتها 1991-1992 )، تم إلغاء القرار الأممي رقم 3379 الصادر بتاريخ 10/11/1975 والذي يعتبر الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية.
ب- في مؤتمر موسكو 1992 تم الاعتراف العالمي بإسرائيل ومنحها شرعية البقاء والسيادة على أرض فلسطين وتحويل الصراع العربي – الصهيوني إلى قضية هامشية تجري معالجته في إطار القضايا الكبرى لمنطقة الشرق الأوسط والأدنى.
ت- توقيع معاهدة السلام الإسرائيلي – الأردنية بوادي عرية بتاريخ 26/10/1994 وبحضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون والملك حسين، تبعها إقامة علاقات مباشرة بين إسرائيل وبعض البلدان العربية من مستوى قنصلية وملحقيات تجارية ومكاتب علاقات في كل من المغرب، تونس، قطر، عمان.
ث- عقد المؤتمرات الاقتصادية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكل دوري بدءً من مؤتمر الدار البيضاء 30/10/1994، وعمان 29-31/10/1995 ثم القاهرة 13-14/11/1996 وأخيرا الدوحة، والهدف من هذه المؤتمرات رفع المقاطعة العربية عن إسرائيل وبناء السلام الأمريكي – العبري في الشرق الأوسط، والتغلغل الاقتصادي الإسرائيلي في الاقتصاد العري أبي بلغة الملك الحسن الثاني " تزاوج العبقرية اليهودية مع المال العربي ".
ج- عقد قمة " صانعي السلام " الأمريكي – العبري بشرم الشيخ لمحاربة " الإرهاب " في 13/03/1996 وهي القمة التي ساوت بين العمل الإرهابي والعمل الفدائي الفلسطيني، والتي قيمها شمعون بيريز قائلا: " لا أتذكر مناسبة كهذه اجتمع فيه هذا العدد من الدول العربية ( 13 دولة ) لتعلن أمام العام دعمها لإسرائيل والسلام معها ".
إذا كانت الأنظمة القطرية العربية، قد اهتدت إلى خيار المصالحة والتعايش السلمي مع الكيان الصهيوني كمساومة سياسية لحماية واستمرار بقائها في السلطة، فإن مصالحة الأنظمة مع بعضها لا يعني المصالحة بين الشعوب والأمم، وأن تخاذل الأنظمة مع بعضها لا يعني المصالحة بين الشعوب والأمم، وأن تخاذل الأنظمة ليس خيانة الشعوب لأوطانها وتاريخها وحضارتها، وأن سير لحكام العرب في المدار الأمريكي – الصهيوني ليس هو نفس الطريق والمنهج الذي تختاره وتسلكه شعو الأمة لعربية.
ولذلك يدرك قادة الصهيونية السياسية، أن موقف الرأي العام العربي، هو الموقف الثابت والمستقل الذي يفصح عن الرؤية الحضارية والإنسانية للأمة العربية، وعن كيفية تعاملها مع شعوب وأمم الأديان الأخرى، بينما تمثل سياسة حكوماته موقف النخب الحاكمة، وهي مواقف متغيرة وغير ثابتة، ولا يمكن الرهان عليها لإقامة سلام دائم مع العرب، وأن القوى الشعبية التي همشها الاستبداد والقمع والإقصاء السياسي، هي القوة التي تَعدُ بإسقاط سلاطين ورؤساء القراقوز، واستعادة الأرض والثروة، وسيادة الشعب، وبناء أنظمة وطنية ديمقراطية تبشر بتجدد حضاري ونهوض قومي جديد، ومن ثم بناء السلام الشامل والعادل والدائم من منطلق حضاري وإنساني.
رابعا: الانتفاضة واستراتيجية الاستنزاف
إذا كانت الأنظمة العربية قد اختارت التعايش المؤقت مع إسرائيل، والتسليم الوضع القائم، فإن الرأي العام يرفض مثل هذه السياسة، لأنها تمنح إسرائيل حرية المناورة لتكييف الواق العربي وتحديد مصير شعوبه بالشكل الذي تريده الصهيونية.
إن التحضير والاستعداد لإدارة الصراع المؤجل مع إسرائيل من منطلق الإرادة في الانتصار، يستلزم تجديد النظم السياسية والإدارية في البلاد العربية، وتكسير عملية الاحتكار النخبوي للسلطة السياسية، ودمقرطة المجتمع، وشراك المؤسسات الشعبية ومجتمعها المدني في عملية رسم السياسات وصنع القرارات الوطنية الاستراتيجية.
إن تجديدا مؤسساتيا من هذا النوع، هو الطريق السليم لتجديد وانبعاث حضاري، به تجدد الأمة حيويتها في لعطاء والتضحيات والصمود والتغلب على مشاكلها بالتعاون والتضامن والوحدة وهو الذي يرفع نظم حكمها إلى مستوى الأقدار وتصنع السلام من منظور حضاري وإنساني.
وفي هذا السياق، فإن الانتفاضات والتمردات الشعبية المتنامية على امتداد الساحة العربية تمثل أحد أشكال النضال السياسي الذي يستهدف الضغط على الحكومات العربية لتجديد ذاتها وأهدافها، وأساليب عملها، وهي كذلك، تعبر عن موقف معارض للواقع وللنهج السياسي الذي تسير عليه بشأن التعايش والتصالح مع إسرائيل في صبغتها الصهيونية، لذلك تمثل انتفاضة أطفال الحجارة في فلسطين المحتلة طليعة الموقف الشعبي العربي من جهة وأسلوب جديد في إدارة الصراع نيابة عن الحكومات والشعو العربية من جهة أخرى، إنها استراتيجية تتماشى مع سياسة " اللاحرب واللاسلم " أي سياسة " الهدنة المؤقتة " وأيضا مع إمكانات الشعب الفلسطيني، وظروفه السياسية المحلية والإقليمية والدولية.
تعتبر الانتفاضات والتمردات الشعبية وحرب العصابات من الأساليب الفنية الناجحة في إدارة الصراع مع الخصم والتأثير في سياسته وسلوكه بشكل تستنزف إمكاناته وترهق قدراته، وتضييق الخيارات السياسية أمامه، بحيث يحرم من المرونة اللازمة لاتخاذ قرارات " عقلانية " ( يقصد بالقرار العقلاني تحقيق المنافع والمكاسب بأقل خسارة ممكنة ) مؤثرة مما يدفعه إلى ارتكاب أخطاء في حق الشعوب والإنسانية، تكشف عن الحقيقة العنصرية والفاشية للاستعمار والكيانات الاستيطانية أمام الرأي العام العالمي.
لقد أثبتت التجارب التاريخية، أن استراتيجية استنزاف الخصم التي انتهجتها حركات التحرير الوطني في أكثر من موقع ( الجزائر- فيتنام- جنوب إفريقيا...الخ ) قد كللت بالنجاح وأصابت الخصم في العمق وأرغمته على المثول أمام صوت الحرية وإرادة الحق والقيم الإنسانية.
لذلك، فإن انتفاضة الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة، تعني من الناحية العملية الاستهلاك التدريجي لقوة اسرائيل، و ارهاقها، و النيل من معنوياتها، وتحجيم دورها المشاغب ضد حركة النهضة العربية, فالانتفاضة, تعني بلغة الأرقام وضع الاقتصاد الاسرائيلي و قواه العاملة في حالة حرب دائمة بخسارة تقدر يوميا ب 10 مليون حسب إحصائيات فدرالية غرفة التجارة الإسرائيلية.
لقد أدت الانتفاضة الى تراجع نسبة النمو الاقتصادي من 6% سنة 1990 الى 4.7% سنة 2000، ثم الى 2.7% سنة 2001 ، ويحتمل أن ينخفض الى 1.7% خلال سنة 2002، تعني أيضا فقدان الشعور بالأمن و الاستقرار اللذان يؤثران بدورهما على حركة رؤوس الأموال حيث انخفضت نسبة الاستثمارات الأجنبية ب 70% منذ اندلاع الانتفاضة. أما في قطاع السياحة فقد انخفضت الى 50 % منذ 1999 و ترتب عنها فقدان ¼ مناصب العمل في القطاع السياحي، كما توقفت الهجرة اليهودية الى فلسطين مقابل خروج منها نتيجة تزايد نسبة القتلى بين الإسرائيليين من 1/5 في ربيع 2001 الى ½ مع نهاية شهر ديسمبر من نفس السنة.
ان الانتفاضة هي نقل المعركة الى داخل البيت الصهيوني، مما يؤدي الى تآكل التاريخي للكيان الاستيطاني من الداخل، لأن الاستنزاف الدائم حسب الكتابات الإسرائيلية – أهارون كوهين – " تعجل بزوال إسرائيل حتى في حالة انتصارها " وبالتالي فإنها حسب رأيه " أن تختار بين الحياة والسلام أو الأرض العربية والحرب والموت ".
إن الكفاح المسلح الإسرائيلي المدعوم بالمساندة والمقاطعة الشعبية لسياسة التطبيع هما الأسلوبان الوحيدان اللذان تفهمهما وتخشاهما إسرائيل والأنظمة الضالعة في نهج المصالحة والتطبيع.
إذا كانت الصهيونية ومؤسساتها الأمنية والعلمية تهتم بدراسة ومعرفة المجتمع العربي من مختلف جوانبه الاجتماعية والسياسية والعرقية والطائفية بهدف اختراقه والتغلغل فيه، فإن الأبحاث والدراسات العربية المتخصصة بالتركيبة الديمغرافية والشخصية الإسرائيلية تكاد تكون منعدمة، ولذا، فإن الاهتمام البحثي بمثل هذه الموضوعات سوف يسهل كيفية التعامل العربي مع مجتمع يختزن في داخله تناقضات وانقسامات من الممكن إثارتها وتفجيرها من الداخل إذا ما تم اختراقها والتغلغل فيها بشكل انتقائي ومدروس.
إن قدرة العرب على توظيف هذا لعامل واستعماله كسلاح سياسي سيفكك إسرائيل من الداخل وسيحول اهتمامه من إثارة الفتن العرقية الطائفية والسياسة في المجتمع العربي إلى الانشغال بمشاكلها لداخلية، مما يؤدي إلى تحجيم وتقليص دورها المشاغب الذي خلقت من أجله، وبدون هذه الوظيفة، فإن مكانتها وقيمتها ستتراجع في نظر وسياسة حلفائها الغربيين وفي التزاماتهم السياسية والأمنية تجاهها.
لقد حدث ذلك مع نظام فرموزا عندما أخفقت في تأدية وظيفتها المشاغبة ضد الثورة الاشتراكية في الصين الشعبية 1949-1969 مما اضطر أمريكا إلى مراجعة سياستها بناءً على مصالحها الاستراتيجية في آسيا، فتم طرد فرموزا من العضوية الدائمة لمجلس الأمن الدولي، المنصب الذي شغلته نيابة عن الصين الشعبية، وهو نفس الموقف الذي حدث مع النظام العنصري في جنوب إفريقيا عندما استنزفته الانتفاضات الشعبية، وكشفت حقيقة عنصريته وفاشيته على مرأى من العالم، مما دفع بالقوى الدولية التي أوجدته إلى التخلي عن حمايته، بل ساعدت على فرض الحصار عليه، وإقامة نظام وطني ديمقراطي.
إن تحركا دبلوماسيا وإعلاميا عربيا موازيا لانتفاضة على مستوى الجبهات والمحافل الدولية من جهة، والتلويح بتهديد فعلي لمصالح القوى الدولية الراعية والحامية لإسرائيل من جهة أخرى، سيدفعان المجتمع الدولي إلى فرض العقوبات السياسية والاقتصادية والعسكرية على إسرائيل كوسيلة ضغط حتى تمتثل لقرارات الشرعية الدولية، وإقامة الدولة الفدرالية التي تتعايش فيها الأديان الثلاث على أرض فلسطين، وهو تعايش يمكن صناعته عندما تتخلى إسرائيل عن وظيفتها كامتداد للاستعمار والإمبريالية في المنطقة، وتعلن عن استقلاليتها عن الصهيونية والقطيعة السياسية معها، وماعدا ذلك فإن السلام بين العرب وإسرائيل سيبقى أمرا مستحيلا طالما بقيت إسرائيل ملتزمة بتنفيذ المشروع الصهيوني الإمبريالي في الوطن العربي.
المرجع: المجلة الجزائرية للعلوم السياسية والإعلامية، مجلة فصلية علمية متخصصة في الدراسات السياسية والإعلامية، دار هومه، الجزائر، العدد الأول، 2001-2002