محاضرات د عمار بوضياف - قانون إداري
المادة القانون الإداري
المحور العقود الإدارية/ الصفقات العمومية
العنوان:
تعريف الصفقات العمومية
معايير تحديد الصفقات العمومية تشريعا وفقها وقضاءا
تمييز الصفقات العمومية عن سائر العقود المدنية
مقدمة
بهدف التحكم في مصطلح الصفقات العمومية يقتضي الأمر منا إعطاء تعريف لها سواء من ناحية التشريع أو اجتهادات القضاء أو الفقه .
كما يقتضي تحديد معايير الصفقات العمومية تشريعا وموقف القضاء والفقه منها.ثم تمييزها عن بعض العقود الأخرى المدنية والتجارية وعقود العمل. وهو ما رأينا معالجته في ثلاثة مطالب:
المطلب الأول : تعريف الصفقات العمومية
المطلب الثاني : المعايير التشريعية للصفقات العمومية وموقف القضاء والفقه منها.
المطلب الثالث: تمييز الصفقات العمومية عن بعض العقود الأخرى.
المطلب الأول:
تعريف الصفقات العمومية
"العقود الإدارية"
من منطلق أن التعريف التشريعي يعلو على بقية التعريفات الأخرى. وبالنّظر للدور الكبير والرائد للقضاء الإداري كان علينا أن نسوق أولا التعريف التشريعي لنتبعه بالتعريف القضائي ثم نتوج جهود المشرع والقضاء بتبيان جهود الفقه.
وعليه قسمنا هذا المطلب إلى ثلاثة فروع نستعرض في:
الفرع الأول: التعريف التشريعي.
الفرع الثاني: التعريف القضائي
الفرع الثالث: التعريف الفقهي
الفرع الأول: التعريف التشريعي
عرّف المشرّع الجزائري عبر قوانين الصفقات المختلفة الصفقات العمومية. نعرض هذه التعريفات حسب التدرج الزمني.
1- قانون الصفقات الأول أمر 67-90:
عرفت المادة الأولى من الأمر 67-90 الصفقات العمومية بأنّها " إنّ الصفقات العمومية هي عقود مكتوبة تبرمها الدولة أو العمالات أو البلديات أو المؤسسات والمكاتب العمومية قصد انجاز أشغال أو توريدات أو خدمات ضمن الشروط المنصوص عليها في هذا القانون".
2- المرسوم المتعلّق بصفقات المتعامل العمومي(82-145):
عرفت المادة الرابعة من المرسوم 82-145 المؤرخ في 10 أفريل 1982 المتعلّق بالصفقات الّتي يبرمها المتعامل العمومي الصفقات العمومية على أنها: " صفقات المتعامل العمومي عقود مكتوبة حسب مفهوم التشريع الساري على العقود، ومبرمة وفق الشروط الواردة في هذا المرسوم قصد إنجاز الأشغال أو اقتناء المواد والخدمات".
3- المرسوم التنفيذي المتضمّن تنظيم الصفقات العمومية لسنة 91:
لم يبتعد المرسوم التنفيذي رقم 91-343 المؤرخ في 9 نوفمبر 91 المتضمن تنظيم الصفقات العمومية عن سابقيه كثيرا وقدمت المادة الثالثة منه تعريفا للصفقات العمومية بقولها: " الصفقات العمومية عقود مكتوبة حسب التشريع الساري على العقود ومبرمة وفق الشروط الواردة في هذا المرسوم قصد إنجاز الأشغال واقتناء المواد والخدمات لحساب المصلحة المتعاقدة ".
4- المرسوم الرئاسي 02-250 المتعلق بتنظيم الصفقات العمومية:
قدمت المادة الثالثة من المرسوم الرئاسي تعريفا للصفقات العمومية بقولها: " الصفقات العمومية عقود مكتوبة في مفهوم التشريع المعمول به. تبرم وفق الشروط المنصوص عليها في هذا المرسوم قصد إنجاز الأشغال واقتناء المواد والخدمات والدراسات لحساب المصلحة المتعاقد ".
ويبدو من خلال النّصوص السابقة والتي صدرت في حقب زمنية مختلفة بل و في مراحل اقتصادية وسياسية مختلفة، مدى إصرار المشرّع الجزائري على إعطاء تعريف للصفقات العمومية وإن اختلفت صياغته بين مرحلة وأخرى.
ولعلّ إصرار المشرّع على إعطاء تعريف للصفقات العمومية يعود بالأساس للأسباب التالية :
1- إنّ الصفقات العمومية تخضع لطرق إبرام خاصة ولإجراءات في غاية من التعقيد.لذا وجب إعطاء تعريف لها لتمييزها عن باقي العقود الأخرى.
2- إنّ الصفقات العمومية تخضع لأطر رقابية خاصة داخلية وخارجية.
3- إنّ الصفقات العمومية تخول جهة الإدارة مجموعة من السلطات الاستثنائية غير المألوفة في عقود أخرى وهو ما سنحلّله لاحقا.
ولما كانت الصفقات العمومية تبرم بطرق خاصة وتحكمها إجراءات معقّدة وتخضع لأنواع كثيرة من الرقابة، وأنّها تتيح لجهة الإدارة ممارسة جملة من الامتيازات أو السلطات، وجب حينئذ وبالنظر لهذه الأسباب خاصة إعطاء تعريف للصفقات العمومية، حتى يتسنّى معرفة العقود التي تبرمها جهة الإدارة والمعنية بطرق الإبرام وبإجراءاته المحددة تنظيما والمعنية بالرقابة المحدّدة في قانون الصفقات العمومية بأنواعها المختلفة. وكذلك معرفة العقود الّتي تمارس فيها الإدارة مجموعة من السلطات و الامتيازات .
و بناءا على ذلك فإنّ إعطاء تعريف للصفقات العمومية يمكّننا من النّاحية القانونية من معرفة العقود الإدارية المشمولة بقانون الصفقات العمومية.
وليس المشرّع الجزائري فقط من عرف الصفقات العمومية بل المشرّع التونسي أيضا وهذا طبقا لما جاء في الفصل الأول من الأمر عدد 3158 المؤرخ في 17-12-2002 الّذي تمّ تنقيحه بمقتضى الأمر عدد 1638 المؤرخ في 4 أوت 2003 المتعلّق بتنظيم الصفقات العمومية بأنها : " عقود مكتوبة تبرم لإنجاز أشغال أو للتزوّد بمواد أو لتقديم خدمات أو لإنجاز دراسات تحتاجها الإدارة ". كما عرّف المشرّع اللّيبي في لائحة العقود الإدارية رقم 263 بتاريخ 17-05-2000 العقد الإداري في المادة 3 من اللائحة. " يقصد بالعقد الإداري في تطبيق أحكام هذه اللائحة كل عقد تبرمه جهة من الجهات المشار إليها في المادة السابقة (جهة الإدارة) بقصد تنفيذ مشروع من المشاريع المعتمدة في الخطة والميزانية أو الإشراف على تنفيذه أو تقديم المشورة الفنية أو تطوير أو تسيير المرافق العامة لخدمة الشعب بانتظام واطراد متى كان ذلك العقد يشمل على شروط استثنائية غير مألوفة في العقود المدنية ويستهدف تحقيق المصلحة العامة".
الفرع الثاني: التعريف القضائي
رغم أن المشرّع الجزائري عرّف الصفقات العمومية في مختلف قوانين الصفقات، إلاّ أنّ القضاء الإداري الجزائري، حال فصله في بعض المنازعات قدّم تعريفا للصفقات العمومية.
ولا مانع أن تبادر الجهة القضائية المختصة في المادة الإدارية إلى إعطاء تعريف لمصطلح قانوني ما ، خاصة إن كانت هذه الجهة تتموقع في قمّة هرم القضاء الإداري، وهذا هو الدور الطبيعي لجهة القضاء.
إنّ القضاء الإداري وهو يفصل في بعض المنازعات، وإن كان ملزم بالتعريف الوارد في التشريع والمتعلّق بالصفقات العمومية وأن لا يخرج عنه، غير أنّ الوظيفة الطبيعية للقضاء تفرض عليه إعطاء تفسير وتحليل لهذا التعريف إن كان ينطوي على مصطلحات ومفاهيم غامضة ومحاولة ربطه بالوقائع محل الدعوى. ومن هنا وجب علينا تتبع اجتهادات القضاء وإضافاته.
وحتى نربط اجتهادات القضاء الإداري الجزائري بالقضاء المقارن تعيّن الاستدلال بقرارات قضائية لأنظمة مقارنة. وهو ما سنفصّله فيما يلي :
تعريف القضاء الإداري الجزائري:
ذهب مجلس الدولة الجزائري في تعريفه للصفقات العمومية في قرار له غير منشور مؤرخ في 17 ديسمبر 2002 قضية رئيس المجلس الشعبي لبلدية ليوة ببسكرة ضد (ق.أ) تحت رقم 6215 فهرس 873 إلى القول :' ...وحيث أنه تعرف الصفقة العمومية بأنها عقد يربط الدولة بالخواص حول مقاولة أو إنجاز مشروع أو أداء خدمات..."
يبدو من خلال هذا المقطع من تعريف الصفقات العمومية أنّ مجلس الدولة حصر مفهوم الصفقة العمومية على أنّها رباط عقدي يجمع الدولة بأحد الخواص. في حين أن العقد الإداري أو الصفقة العمومية يمكن أن تجمع طرفا آخر غير الدولة ممثلا في الولاية أو البلدية أو المؤسسة الإدارية خاصة وأنّ القوانين الجاري بها العمل تعترف لهذه الهيئات بحق التقاضي وعلى رأسها القانون المدني في نص مواده 49و50. وقانون البلدية لسنة 90 في نص مادته الأولى وكذلك المادة 60 منه. وقانون الولاية لسنة 90 في نص مادته الأولى وكذلك المادة 87 منه وتنظيمات أخرى كثيرة.
كما أنّ التعريف أعلاه حصر الصفقة العمومية على أنّها عقد يجمع بين الدولة وأحد الخواص في حين أنّ الصفقة العمومية قد تجمع بين هيئة عمومية وهيئة عمومية أخرى. ومع ذلك تظل تحتفظ بطابعها المميّز كونها صفقة عمومية.
ولم يصرف التعريف القضائي أيّ أهمية لعنصر الشكل بأن أشار مثلا أنّ الصفقة العمومية تتمّ وفقا لأشكال وإجراءات محدّدة قانونا رغم تأكيد التشريع على هذا الجانب.
ولا تفوتنا الإشارة أنّ التعريف أيضا استعمل مصطلح مقاولة بقوله:" حول مقاولة أو إنجاز مشروع..." وكان حري بمجلس الدولة أن لا يستعمل هذا المصطلح ذو المفهوم المدني.[1] ويستعمل عوضا عنه عقد الأشغال العامة تماشيا مع تنظيم الصفقات العمومية.وأن يقتصر على ذكر عبارة إنجاز أو تنفيذ أشغال لينصرف المفهوم لعقد الأشغال العامة وهو عقد إداري. ولا ينصرف لعقد المقاولة وهو عقد مدني لما للعقدين من اختلاف كبير وجوهري إن على مستوى طرق الإبرام وإجراءاته أو على مستوى سلطات الإدارة وامتيازاتها أو على مستوى رقابة تنفيذ العقد وطرق إنهاءه. وهي في مجملها تشكّل نظرية العقد الإداري والتي تتميّز بأحكام خاصة تجعلها تستقل عن نظرية العقد المدني .
تعريف العقد الإداري في القضاء العربي:
جرى القضاء الإداري في مصر على تعريف العقد الإداري بأنّه: " العقد الّذي يبرمه شخص معنوي من أشخاص القانون العام بقصد إدارة مرفق عام أو بمناسبة تسييره وأن تظهر نيته في الأخذ بأسلوب القانون العام . وذلك بتضمين العقد شرطا أو شروطا استثنائية غير مألوفة في عقود القانون الخاص".[2]
ولتفصيل هذا التعريف ذهبت محكمة القضاء الإداري في مصر في حكم لها بتاريخ 02-12-1952 إلى القول :" إنّ العقود الإدارية تختلف عن العقود المدنية في أنّها تكون بين شخص معنوي من أشخاص القانون العام وبين شخص أو شركاء أو جماعة وفي أنّها تستهدف مصلحة عامة لسير العمل في مرفق عام، وأنّ كفّتي المتعاقدين فيها غير متكافئة إذ يجب أن يراعي فيها دائما وقبل كل شيء تغليب الصالح العام على مصلحة الأفراد...".[3]
ثم ذهبت ذات المحكمة إلى الاعتراف لجهة الإدارة، وفي العقد الإداري بممارسة جملة من السلطات أبرزها حق الإدارة في مراقبة تنفيذ العقد وحقها في تعديل شروطه وحقها في إنهاء الرابطة العقدية. وهكذا جاء تعريف محكمة القضاء الإداري[4] في مصر شاملا لمجموعة عناصر العقد الإداري كونه العقد الذي :
1- يكون أحد أطرافه شخص من أشخاص القانون العام، كالدولة والولاية والبلدية والمؤسسة الإدارية.
2- أن يتعلق العقد بتسيير مرفق عام، ومن الطبيعي القول أن المرفق العام يستهدف في نشاطاته تحقيق المصلحة العامة.
3- أن تظهر فيه نية الإدارة للأخذ بقواعد القانون العام بما يعني أنّها ضمّنت العقد شروطا استثنائية غير مألوفة على صعيد القانون الخاص.
غير أنّه وأخذا بعين الاعتبار تشريع الصفقات الجزائري فإنّ هذا التعريف لم يشر على الإطلاق لعنصر الشكل والإجراءات وهو عنصر على غاية من الأهمية في النّظام القانوني للصفقات العمومية في الجزائر. فالعقد الإداري تحكمه أشكال وإجراءات خاصة لا نجدها في غيره من العقود الأخرى وهو ما سنوضّحه عند التطرّق لإجراءات إبرام الصفقات العمومية.
ولنفس الاتجاه ذهبت المحكمة الإدارية في تونس في قرار لها صدر بتاريخ 30 جانفي 1989 القضيـــة ع 573 (غيــر منشــور)[5] بالقول :"...وحيث أنّ العقد المبرم بين شخص معنوي عمومي وأحد الأفراد لا يكفي بذاته لاعتباره من صنف العقود الإدارية بل لابدّ أن يستهدف تشريك المتعاقد في تسيير مرفق عام بغية خدمة أغراضه وتحقيق احتياجاته وأن تتضمّن بنوده شرطا من الشروط الاستثنائية غير مألوفة في القانون الخاص والتي تنبّئ عن نية الإدارة في انتهاج أسلوب القانون العام".
وهو ذات المسلك الذي كرّسته المحكمة العليا في ليبيا في كثير من قراراتها من ذلك القرار الصادر في 20-06-1976 والّذي ذهبت فيه إلى القول:" وحيث أنّه تبيّن من الإطّلاع على العقدين موضع التدّاعي أنّهما يتّصلان بمرفق عام هو مرفق الحجّ ويهدفان إلى تحقيق مصلحة عامة هي تمكين الحجاج الليبيين الرّاغبين في أداء هذه الفريضة المقدّسة على أكمل وجه... وأنّهما قد تضمّنا شروطا غير مألوفة في العقود الخاصة المماثلة...ومن حيث أنّه على مقتضى ما تقدم يكون العقدان المذكوران قد اتسما بالطابع المميّز للعقود الإدارية من حيث اتصالهما بمرفق عام وأخذهما بأسلوب القانون العام فيما يتضمّن من شروط استثنائية ومن ثمّ يكونان عقدين إداريين.[6]
الفرع الثالث: التعريف الفقهي
لقد أجمع فقه القانون الإداري أنّ نظرية العقد الإداري هي نظرية من منشأ قضائي أرسى مبادئها وأحكامها القضاء الإداري الفرنسي ممثلا في مجلس الدولة عبر اجتهاداته من خلال القضايا والمنازعات المعروضة عليه.[7]
ورغم الطابع القضائي لنظرية العقد الإداري ومع محاولة المشرّعين في غالبية النّظم تقنين جوانب في النّشاط التعاقدي للإدارة، إلا أنّ دور الفقه في تحليل الأجزاء المختلفة لهذه النّظرية يظل بارزا في كل الدول. وإذا كان العقد الإداري يلتقي مع العقد المدني بالنظر أنّ كل منهما يعبّر عن توافق إرادتين بقصد إحداث الأثر القانوني المترتّب على العقد، إلا أنّ تميّز العقد الإداري عن العقد المدني يظلّ واضحا في كثير من الجوانب والأجزاء. وهو ما تولّى الفقه الإداري توضيحه وتحليله.
ولقد عرّف الفقه العقد الإداري على أنه: " العقد الذي يبرمه شخص من أشخاص القانون العام بقصد إدارة مرفق عام أو بمناسبة تسييره وتظهر نيته في الأخذ بأسلوب القانون العام وذلك بتضمين العقد شرطا أو شروطا غير مألوفة في عقود القانون الخاص."[8]
المطلب الثاني:
المعايير التشريعية للصفقات العمومية
وموقف القضاء منها
إذا كانت الصفقات العمومية عقودا إدارية محدّدة بموجب التشريع فلا شك أن المشرع بتقنينه للعمل والنشاط التعاقدي للإدارة يكون قد حدّد معالم وعناصر تتميّز بها الصفقة العمومية. وهو ما أكد عليه المشرّع في مختلف قوانين الصفقات العمومية.
غير أنّ وضع معايير للصفقات العمومية من جانب المشرّع لم يمنع القضاء وكذلك الفقه من تقديم التفصيل حول هذه المعايير. بل إنّ كثيرا من هذه المعايير ذات منشأ قضائي ولعب الفقه دورا كبيرا في تحليلها وتأصيلها سواء في فرنسا أو مصر أو في الجزائر.
وعليه قدّرنا تقسيم هذا المطلب إلى ثلاثة فروع خصّصنا الفرع الأول للمعايير التشريعية للصفقات العمومية، والفرع الثاني للتطبيقات القضائية لهذه المعايير، والفرع الثالث للمعايير الفقهية للصفقات العمومية.
الفرع الأول: المعايير التشريعية للصفقات العمومية "العقود الإدارية"
من التعريفات سابقة الذكر للصفقات العمومية والواردة في قوانين مختلفة يمكن حصر معايير الصفقات العمومية في:
أولا : المعيار العضوي .
ثانيا : المعيار الشكلي .
ثالثا : المعيار الموضوعي .
رابعا : المعيار المالي .
خامسا : معيار الشرط غير المألوف .
وهو ما سنفصله فيما يلي:
أولا: المعيار العضوي:
يتميّز العقد الإداري أو الصفقة العمومية من حيث الجانب العضوي أنّ الدولة أو الولاية أو البلدية أو المؤسسة الإدارية طرفا أساسيا فيه. أي أنّ أحد أطراف الصفقة شخص من أشخاص القانون العام. فالعقد الذي لا تكون أحد الجهات الإدارية المستقلة طرفا فيه أو الجهات التي حدّدها التشريع لا يمكن اعتباره صفقة عمومية.
وإذا عدنا لتعريف الصفقات العمومية في الجزائر وفي مختلف المراحل المشار إليها (مرحلة 67-82-91-2002) نسجل مدى التذبذب الكبير الذي وقع فيه المشرّع بين مرحلة تشريعية وأخرى فيما يخص مجال تطبيق قانون الصفقات العمومية والهيئات المعنية به. فأحيانا يضيّق من مجال التطبيق فيخص هيئات ويبعد أخرى، وأحيانا أخرى يوسّع من مجال تطبيق قانون الصفقات العمومية ثم يعود فيضيّق ويرجع تفسير ذلك قطعا لطبيعة كل مرحلة التي سنّ فيها قانون أو تنظيم الصفقات العمومية وهو ما سنفصله فيما يلي:
موقف المشرّع الجزائري من المعيار العضوي:
المرحلة السابقة على صدور تنظيم الصفقات العمومية الحالي(ما قبل 2002):
إنّ هذه المرحلة الطويلة نسبيا عرفت صدور ثلاثة قوانين للصفقات العمومية. أمر 67-90 مرسوم 82-145- والمرسوم التنفيذي 91-434 فهذا أمر67 نصّ صراحة على الهيئات المعنية بالصفقة وهي الدولة الولاية (العمالة) البلدية المؤسسة والمكاتب العمومية مستبعدا بذلك المؤسسات الصناعية والتجارية وواعدا بإصدار مرسوم يبيّن كيفيات تطبيق هذا القانون على الشركات الوطنية والمؤسسات والمكاتب العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري، وهذا ما نصّت عليه المادة الأولى الفقرة 2 من الأمر 67-90، وعلى ذلك اعتبرت المؤسسات الصناعية والتجارية في أول الأمر غير معنية بالخضوع لقانون الصفقات العمومية الأول لسنة 67.
أمّا المرسوم 82-145 المتعلّق بالمتعامل العمومي فقد قدمت المادة 5 منه مفهوما واسعا للهيئات المعنية بمجال تطبيقه فجاء فيها عبارة:
- جميع الإدارات العمومية .
- جميع المؤسسات والهيئات العمومية.
- جميع المؤسسات الاشتراكية.
- أي وحدة تابعة لمؤسسة اشتراكية يتلقى مديرها تفويضا لعقد الصفقات .
ولم يكتفي المرسوم المذكور بشمول أحكامه لأشخاص القانون الإداري كالدولة والولاية والبلدية والمؤسسة الإدارية بل مدّها أيضا لجميع المؤسسات الاشتراكية سواء كان نشاطها تجاريا أو صناعيا وحقّق بذلك ما لم يحققه أمر 67-90، ووسع المرسوم من نطاق الهيئات المعنية بأحكامه حتى شملت وبمنطوق المادة 20 الإستغلالات الفلاحية المنظّمة والمسيّرة في إطار التسيير الذّاتي والتعاوني.[9] وبعبارة (جميع وكل) الواردة في المادة 5 من المرسوم 82-145 أراد المشرع لتنظيم الصفقات العمومية الثاني شمولية أكثر ومجالا أوسع فخص به جميع القطاعات الإدارية والتجارية والصناعية والفلاحية، وهذا ما يؤكد الطابع الأيدلوجي لمرسوم 82 ومدى تأثّره بالفكر الاشتراكي وهو أمر كان يتماشى وهذه المرحلة .
غير أنّ هذه المرحلة لم تدم طويلا إذ صدر القانون 88-01 المؤرخ في 12 جانفي 1988 المتعلّق بالقانون التوجيهي للمؤسسات العمومية الاقتصادية وتكريسا له صدر المرسوم رقم 88-72 المؤرّخ في 29 مارس 1988 والذي نصّت مادته الأولى على أن: " تطبق أحكام هذا المرسوم على الصفقات العمومية التي تبرمها الإدارات العمومية والمؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري فقط والمسماة أدناه المتعامل العمومي."
وهكذا أخرج المشرّع عقود المؤسسات الاقتصادية بعد أن كان قد أدمجها في ظلّ الصفقات العمومية بموجب المرسوم 82-145 المذكور.
وبخصوص المرسوم التنفيذي 91-434-فقد ضيّق المشرّع من مجال تطبيقه وهذا ما يتضّح من خلال مادته الثّانية الّتي عددت على سبيل الحصر الهيئات المعنية فذكرت الإدارات العمومية والهيئات الوطنية المستقلّة والولايات والبلديات والمؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري. وهكذا عاد المشرع واستبعد المؤسسات ذات الطابع الصناعي والتجاري فلم يشملها بالنص. وهذا إصلاح يلائم طبيعة المرحلة الجديدة بعد إقرار دستور جديد للبلاد لسنة 1989.
مرحلة تنظيم الصفقات العمومية الحالي (المرسوم الرئاسي 02-250)المعدل والمتمم.
نصت المادة الثّانية من المرسوم الرئاسي أعلاه على ما يلي:" لا تطبّق أحكام هذا المرسوم إلاّ على الصفقات محل مصاريف الإدارات العمومية والهيئات الوطنية المستقلة والولايات والبلديات والمؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري بالإضافة إلى مراكز البحث والتنمية والمؤسسات العمومية الخصومة ذات الطابع العلمي والتكنولوجي، والمؤسسات العمومية ذات الطابع العلمي والثقافي والمهني والمؤسسات العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري عندما تكلّف هذه الأخيرة بإنجاز مشاريع استثمارية عمومية بمساهمة نهائية لميزانية الدولة وتدعى في صلب النص المصلحة المتعاقدة."
واضح من المادة أعلاه أنّ المشرّع وخلافا لنصوص سابقة فصل بشأن الهيئات الخاضعة لتنظيم الصفقات العمومية فذكر هيئات ومؤسسات قديمة ذكرت في نصوص سابقة. وذكر هيئات جديدة وردت لأول مرة نوضح ذلك فيما يلي :
1- الإدارات العمومية:
إنّ هذا الوصف يتسم بشيء من الشمولية والإطلاق. فتدخل تحت طائلته الدولة باعتبارها تتمتع بالشخصية القانونية والمعنوية طبقا للمادة 49 و50 من القانون المدني الجزائري. ويدخل تحت هذا الوصف الكبير الأشخاص المركزية الأخرى كرئاسة الجمهورية والوزارة الأولى أو رئاسة الحكومة والوزارات المختلفة والمصالح الخارجية للوزارات المتمثّلة في المديريات التنفيذية على مستوى الولايات.وهذا أمر طبيعي طالما تمتعت كل هذه الهيئات بالطابع الإداري.
ويجدر التنبيه أن تعديل تنظيم الصفقات العمومية لسنة 2008 لم يخضع الصفقات المبرمة بين إدارتين عموميتين لأحكام المرسوم المنظم للصفقات العمومية. وهذا ما نصت عليه الفقرة الأخيرة من المادة الثانية من المرسوم الرئاسي 08/338. ولعل القصد من وراء هذا الاستثناء يكمن في تشجيع التعامل بين الإدارات العمومية.
2- الهيئات الوطنية المستقلّة:
لم يشر قانون الصفقات العمومية الأول لسنة 1967 لهذه الهيئات بصريح النّص واقتصرت المادة الأولى كما رأينا على ذكر الدولة والعمالات والبلديات والمؤسسات والمكاتب العمومية. ثم جاء المرسوم 82-145 وذكرت المادة 5 منه عبارة جميع المؤسسات والهيئات العمومية، وتلي بالمرسوم التنفيذي 91-434 والذي أوردت المادة 2 عبارة الهيئات الوطنية المستقلة وهو ذات الوصف المشار إليه في المادة 2 من المرسوم الرئاسي 02-250.
ويقصد بالهيئات الوطنية المستقلة موضوع المادة 2 من المرسوم الرئاسي 02-250 السلطات غير التنفيذية المستقلة كالبرلمان بغرفتيه ( المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة) والمجلس الدستوري والمحكمة العليا ومجلس الدولة ومجلس المحاسبة والهيئات الاستشارية الوطنية كالمجلس الإقتصادي والاجتماعي. إذ قد تضطّر هذه الهيئات جميعا إلى الدخول في علاقة عقدية بعنوان صفقة عمومية من أجل قيامها بنشاطها.
وما يميّز الهيئات الوطنية المستقلّة عن الهيئات المحلية أنّ نشاط الأولى ( الهيئات الوطنية) يمسّ ويشمل كامل إقليم الدولة كما هو الحال بالنسبة للهيئات المذكورة. فلا يتصور مثلا أنّ هيئة وطنية كالبرلمان يقتصر نشاطها على جزء من إقليم الدولة دون الجزء الآخر ومثل ذلك بالنسبة لباقي الهيئات.
3- الولايـــــــة:
تعتبر الولاية مجموعة إقليمية تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي وهي وحدة إدارية منفصلة عن الدولة من جهة انفصالا عضويا وقانونيا، ومنفصلة أيضا عن البلدية. ونظرا لأهميتها ذكرت الولاية كتنظيم إداري في كل الدساتير الجزائرية دستور 1963 في المادة 9 منه و دستور 1976 في المادة 36 و دستور 1989 في المادة 15 و دستور 1996 في المادة 15 منه.
فالولاية تشكل كيانا ذاتيا ولها وجود مستقل كرّسه القانون المدني في المادة 49 و50، وكرّسه أيضا قانون الولاية الأول لسنة 69 في مادته الأولى والثانية وكذلك قانون الولاية لسنة 90 في مادته الأولى.
ولمّا كانت الولاية تتمتع بأهلية التعاقد الثابتة والمؤكدة في هذه النصوص، فإن وظيفتها داخل التنظيم الإداري للدولة وأعبائها المختلفة تفرض عليها الدخول في علاقات عقدية لتنفيذ مشاريع تنموية وخدمة الجمهور. لذا كان يجب الاعتراف لها من جهة بأهلية التعاقد، ومن جهة أخرى اعتبار عقودها كأصل عام من قبيل العقود الإدارية إذا توفرت فيها العناصر والشروط المذكورة في قانون الصفقات العمومية.
ومن أجل ذلك خصّ المشرّع الولاية بالذكر في كل قوانين الصفقات العمومية، فقد ورد ذكرها في المادة الأولى من الأمر 67-90 باسم العمالة (الولاية). وذكرت وصفا في المادة 4 من المرسوم 82-145 بعبارة جميع الإدارات. ثم عاد المشرّع وذكرها بالتحديد في المادة 2 من المرسوم التنفيذي 91-434 بعبارة (الولايات) وهي ذات العبارة الواردة في المادة الثانية من المرسوم الرئاسي 02-250 .
ولقد أكد المشرع على خضوع الولاية لتنظيم الصفقات العمومية في المادة 113 من قانون الولاية، لسنة 1990 والتي جاء فيها:" تبرم الصفقات الخاصة بالأشغال أو الخدمات أو التوريد للولاية ومؤسساتها العمومية ذات الطابع الإداري وفقا للتشريع المعمول به". ومنه تتضح الإحالة الصريحة والمعلنة من قانون الولاية لقانون الصفقات العمومية وهذا مسلك من جانب المشرّع نباركه.
4- البلديـــة:
تعتبر البلدية البنية القاعدية في التنظيم الإداري الجزائري وتتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي. وهي وحدة إدارية منفصلة انفصالا عضويا وقانونيا عن كل من الدولة والولاية.
وقد تمّ ذكرها هي الأخرى في كل دساتير الدولة، دستور 1963 في المادة 9 ودستور 1976 في المادة 36، دستور 1989 في المادة 15، دستور 1996 في المادة 15.
فالبلدية تشكل كيانا مستقلا وذاتيا ثبّته القانون المدني في المادة 49 و50 وكرّسه أيضا قانون البلدية لسنة 1990 في المادة الأولى منه.
ولمّا كانت البلدية تتمتع بالشخصية المعنوية وبأهلية التعاقد فإنّ وظيفتها ضمن إطار التنظيم الإداري للدولة ومهامها المختلفة والمتنوعة تفرض عليها هي الأخرى الدخول في علاقات عقدية من القانون العام بهدف النهوض بأعباء التنمية المحلية وخدمة الجمهور.
ولا شك أنّ البلدية حين استعمالها لوسيلة القانون العام فإنها تخضع حينئذ لتنظيم الصفقات العمومية سواء عند إبرامها لعقود الأشغال أو الخدمات أو التوريد أو عقود الدراسات.
ولهذا السبب ورد ذكر البلدية في كل قوانين الصفقات العمومية وتمّت الإشارة إليها بالوصف الدقيق وبعنوان البلديات في المادة الأولى من أمر 67-90. وورد ذكرها بالوصف المطلق في المادة 5 من المرسوم 82-145 بعبارة جميع الإدارات. ثمّ ذكرت بالتحديد في المادة 2 من المرسوم التنفيذي 91-434. وذات الأمر في المادة 2 من المرسوم الرئاسي 02-250.
وإلى جانب قواعد قانون الصفقات العمومية، أفرد المشرّع في قانون البلدية لسنة 1990 أحكاما خاصة بصفقات البلدية ورد ذكرها في المواد من 117 إلى 120. وقد جاءت هذه المواد لا سيّما المادة 117 بالتحديد مؤكدة على خضوع صفقات البلدية المتعلّقة بالأشغال والخدمات والتوريد لقانون الصفقات العمومية. بل حتى المؤسسات البلدية التي تحدثها البلدية والتي تتمتع بالطابع الإداري تخضع لقانون الصفقات العمومية.
5- المؤسسات العمومية:
لقد جاءت المادة الثانية من المرسوم الرئاسي 02-250 مفصّلة بشأن أنواع المؤسسات العمومية المعنية بالخضوع لقانون الصفقات العمومية. فذكرت المؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري، وهذه الأخيرة شملتها بالذكر والوصف مختلف قوانين الصفقات العمومية سواء أمر 67-90في المادة الأولى. مرسوم 82-145 في المادة 5. المرسوم التنفيذي 91-434 بمنطوق المادة 2 منه .
غير أنّ الجديد الذي حمله المرسوم الرئاسي لسنة 2002 أنّه فصّل في ذكر المؤسسات العمومية فإلى جانب المؤسسات العمومية الإدارية ذكر مراكز البحث والتنمية والمؤسسات العمومية ذات الطابع العلمي.[10] والمؤسسات العمومية ذات الطابع الثقافي والمؤسسات العمومية ذات الطابع المهني. بل إنّ مجال تطبيق قانون الصفقات العمومية امتد ليشمل المؤسسات العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري عندما تكلّف بإنجاز مشاريع استثمارية بمساهمة كاملة من ميزانية الدولة .
ومن الواضح أنّ المشّرع أدمج بمناسبة هذا التعديل الذي أعلنت عنه المادة 2 من المرسوم الرئاسي 02-250 أشخاصا قانونية اختلفت من حيث طبيعتها ومن حيث مهامها ومن حيث القانون الذي تخضع له. وهو ما استقر عليه المرسوم الرئاسي 08/338 المذكور.
فالدولة والولاية والبلدية والمؤسسة العمومية ذات الإداري كلّها تمثّل أشخاص القانون. العام فقرارات هذه الهيئات قرارات إدارية.ومن يعمل فيها يكتسب صفة الموظف العام طبقا للقواعد المقررة في القانون الأساسي للوظيفة العامة.
بينما المؤسسات العمومية ذات الطابع التجاري والصناعي لا يمكن اعتبار قراراتها بمثابة قرارات إدارية. ولا العاملين فيها بالموظفين العموميين الخاضعين لقانون الوظيفة العامة. ولا يمكن اعتبار منازعاتها من قبيل المنازعات الإدارية تطبيقا للمفهوم العضوي للمنازعة الإدارية والمكرّس بمنطوق المادة 7 من قانون الإجراءات المدنية الأول لسنة 1966 والثابت والمؤكد بمقتضى المادة 800 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية لسنة 2008.
إنّ هذه الشمولية لمجال تطبيق قانون الصفقات المكرّسة بموجب المادة 2 من المرسوم الرئاسي 02-250 ستحدث إشكالات عملية على المستوى القضائي في غاية من التعقيد إذا كانت المؤسسة العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري طرفا في الصفقة وكان يتعلّق باستثمار مموّل من قبل ميزانية الدولة. فطبقا للمادة 2 من المرسوم 02-250 فإن هذا العقد يخضع لتنظيم الصفقات العمومية سواء من حيث طرق الإبرام أو الإجراءات أو الرقابة أو التنفيذ أو ممارسة السلطات (سلطات المصلحة المتعاقدة) .
فإذا حدث نزاع بخصوص هذه الصفقة طرحت إشكالية الاختصاص القضائي فهل تعود المنازعة لاختصاص القاضي العادي أم اختصاص القاضي الإداري؟
إنّ الإجابة على هذا السؤال ليست على قدر من السهولة بالنظر لأثارها من الناحية القانونية. فلو سلّمنا أنّ الاختصاص سيعقد للقاضي العادي اعتبارا من أنّ المنازعة لا نجد أحد أطرافها شخص من الأشخاص المحددين حصرا في المادة السابعة من قانون الإجراءات المدنية القديم. وهي الدولة والولاية والبلدية والمؤسسة العامة ذات الطابع الإداري بل إنّ أحد أطرافها مؤسسة ذات الطابع تجاري أو صناعي. ومن ثم نقر الاختصاص للقاضي العادي.
غير أنّ هذا الحل وإن كان يكرّس المعيار العضوي المعمول به في ظل قانون الإجراءات المدنية الأول ، فإنّه يطرح إشكالية أنّ الصفقات العمومية تنطوي على أحكام على الغالب نجدها مقننة وثابتة في تنظيم خاص وهي في مجموعها قواعد تنطوي على الطابع الإداري المحض بما يجعلها تختلف اختلافا كبيرا عن العقود المدنية والتجارية. وما قد يضعف من درجة اعترافنا باختصاص القاضي العادي بالفصل في منازعة تتعلق بصفقة عمومية.أن هذا الفصل قد ينجم عنه تأثر القاضي العادي بروح القانون الخاص وهو يحكم في النزاع المعروض عليه رغم ما للصفقة العمومية من صلة وثيقة بمجال القانون العام لا الخاص.
ويثور الإشكال أيضا إذا ما نحن أسندنا الاختصاص للقاضي الإداري اعتبارا من أن المنازعة تدور حول صفقة عمومية وهذه الأخيرة عقد إداري فوجب أن ينظر فيها القاضي الإداري.غير أن مثل هذا الحل من شأنه أن يهز المعيار العضوي المعتمد عليه في توزيع قواعد الاختصاص بين جهات القضاء العادي وجهات القضاء الإداري وهي من النّظام العام. فنكون أمام اختصاص للقاضي الإداري رغم أنّ أحد أطراف المنازعة مؤسسة ذات طابع صناعي وتجاري. لذلك ذهب أستاذنا الدكتور محمد الصغير بعلي إلى الحكم على هذا التعدّد المفرط للمؤسسات المشمول بالمادة 2 من المرسوم الرئاسي 02-250 بعدم الجدوى.[11]
ونحن نؤيّده فيما ذهب إليه وما سجله من ملاحظة. وندعو المشرّع إلى إخراج المؤسسات العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري من مجال تطبيق قانون الصفقات العمومية. ذلك أنّه إن كانت الوحدة القانونية فيما يتعلّق بالعقود أو الصفقات مقبولة في مرحلة الاشتراكية أين وجدنا مرسوم 82-145 يطلقالوصف "جميع" "وكل" فإن هذه الوحدة تصبح عديمة الجدوى والفائدة في مرحلة تكرّست فيها الازدواجية القانونية والازدواجية القضائية.
ولقد أحسن المشرّع التونسي صنعا حين أخضع عقود المنشآت العمومية ومن بينها المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية للقانون التجاري. وهو ما أكده الفصل الأول من قانون غرة فبراير1989 المتعلق بالمنشآت والمساهمات العمومية.وتكون نزاعاتها راجعة بالنظر إلى المحاكم العدلية طبقا لأحكام الفصل الثاني من القانون عدد 38 لسنة 1999.[12]
هل حسم قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجديد إشكالية الاختصاص
رجوعا لقانون الإجراءات المدنية والإدارية الجديد نجد المشرع اعترف للمحكمة الإدارية بالفصل في المنازعات المتعلقة بالصفقات العمومية.فهذه الفقرة 2 من المادة 804 اعترفت باختصاص المحكمة الإدارية بالنظر في الدعاوى المتعلقة بعقد الأشغال العامة وحددت اختصاص المحكمة بمكان التنفيذ.وهذه الفقرة 3 من ذات المادة أقرت الاختصاص للمحكمة الإدارية في مجال العقود الإدارية عامة مهما كانت طبيعتها وهذا بالنظر لمكان إبرام العقد أو تنفيذه.
غير أن الإشكال يظل عالقا أن المشرع في قانون الإجراءات الجديد لا زال يستعمل التصنيف القديم للمؤسسات واكتفى في المادة 800 بذكر المؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية ولم يدرج معها هيئات أخرى ذات طابع عمومي.كالتي جاءت بها المادة 2 من المرسوم الرئاسي 02/250.
وهو ما سيثير إشكالات في غاية من التعقيد في مرحلة تطبيق قانون الإجراءات المدنية والإدارية. فحين ترفع أمام المحكمة الإدارية منازعة تتعلق بصفقة عمومية أحد أطرافها مؤسسة عمومية ذات طابع علمي وثقافي ومهني كالجامعة مثلا. فهل يقر القاضي الإداري اختصاصه بالنظر في هذه المنازعة
طالما كانت المادة 800 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية هي التي حددت قواعد الاختصاص النوعي، إلا أنه بالرجوع إليها لا نجدها تشير لمؤسسات أخرى ذات طابع عام إلا المؤسسة العمومية ذات الطابع الإداري.وهنا نسجل عدم تطابق واضح بين قانون الإجراءات المدنية ة الإدارية وتنظيم الصفقات العمومية هذا الأخير الذي جاءت مادته الثانية مفصلة في أنواع المؤسسات. ومن المؤكد أن إشكالية الاختصاص ستعرف تعقيدا أكثر إن تعلقت الصفقة بمؤسسة صناعية وتجارية ممولة كليا من الدولة.فلأي قاض تخضع المنازعة.
إن الإجابة عن هذا التساؤل لا تبدو واضحة في قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجديد.ومن وجهة نظرنا ينبغي الإسراع في مراجعة المادة 800 المذكورة على نحو يضمن قدرا من الملائمة والتنسيق بين نصوص قانونية وتنظيمية.
ثانيا: المعيار الشكلي وموقف المشرع الجزائري منه:
رجوعا لتعريف الصفقات العمومية الوارد في المادة الأولى من الأمر 67-90 والمادة 4 من المرسوم 82-145 والمادة 3 من المرسوم التنفيذي 91-434. والمادة الثالثة أيضا من المرسوم الرئاسي 02-250 نجد المشرّع الجزائري ثبت على مبدأ واحد وهو أنّ الصفقات العمومية عبارة عن عقود مكتوبة. ولعلّ سر اشتراط الكتابة والتأكيد عليها في مختلف قوانين الصفقات العمومية في الجزائر يعود لسببين إثنين :
1- إنّ الصفقات العمومية أداة لتنفيذ مخططات التنمية الوطنية والمحلية وأداة لتنفيذ مختلف البرامج الاستثمارية لذا وجب وبالنظر لهذه الزاوية أن تكون مكتوبة.
2- إنّ الصفقات العمومية تتحمل أعبائها المالية الخزينة العامة، فالمبالغ الضخمة التي تصرف بعنوان الصفقات العمومية لجهاز مركزي أو محلي أو مرفقي أو هيئة وطنية مستقلة تتحمّلها الخزينة العامة.
لذا وجب أن تكون الصفقات العمومية مكتوبة إلى جانب أنها تتضمن شروطا استثنائية وغير مألوفة في العقود المدنية والتجارية كما سنفصل ذلك حقا.