المحاضرة الثالثة ( مقاس الإقتصاد السياسي )
نشأة النظام الرأسمالي وخصائصه
أولاً : نشأة النظام الرأسمالي أو اقتصاد السوق :
إن معرفة الظروف التي وجد من خلالها النظام الرأسمالي، تمثل في نفس الوقت معرفة بتاريخ الفكر الاقتصادي إزاء المشكلة الاقتصادية. وفي هذا الصدد، يذهب بعض مؤرخي الفكر الاقتصادي إلى القول بأن الفترة التي سبقت منتصف القرن الثامن عشر (تاريخ اكتمال أركان النظام الرأسمالي وظهوره على السطح)، وباستثناء النظام البدائي، قد سادها نظام اقتصادي واحد، وهو النظام الإقطاعي. في حين يذهب البعض الآخر إلى القول بأن هذه الفترة شهدت نظامين اقتصاديين متميزين ومتعاقبين، وهما – على التوالي – النظام الإقطاعي والنظام الحرفي، ويقولون بأن النظام الأول ساد الفترة من القرن الخامس وحتى القرن الثالث عشر، وساد النظام الثاني الفترة من القرن الثالث عشر حتى منتصف القرن الخامس عشر أو بداية القرن السادس عشر.
ويتفق الرأيان في أمرين، أولهما : أن الفترة الممتدة من منتصف القرن الخامس عشر وحتى منتصف القرن الثامن عشر، هي الفترة التي شهدت مقدمات ميلاد النظام الرأسمالي، أو هي الفترة الانتقالية لبروز هذا الأخير، وثانيهما : أن النظام الإقطاعي (والنظام الحرفي) قد ساد الفترة الزمنية التي تسمي بالعصور الوسطي، والتي يشير إليها الرأي الأول بالفترة البينية المستمرة.
وسوف نستعرض أولاً سمات النظام الاقتصادي السابق على ظهور النظام الرأسمالي، ثم نتلو ذلك ببيان المقدمات لميلاد الرأسمالية.
1) سمات النظام الاقتصادي السابق على الرأسمالية:
ثبت أن الأفكار الاقتصادية إلى حد كبير نتاج لزمانها ومكانها، ولذلك إذا ما أردنا أن نتفهم النظام الرأسمالي، فليس بوسعنا أن نحقق ذلك إلا من خلال إطلالة على الماضي، وضرورة معرفة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكر الاقتصادي للنظم أو النظام السابق على الرأسمالية.
ويمكن القول أن الحياة الاقتصادية في العصور الوسطي لا يجمعها شبه كبير بالمجتمع الاقتصادي الحديث، أو على الأقل بالفترة الانتقالية لميلاد النظام الرأسمالي، وتبعاً لذلك لم يكن هناك الكثير الذي يحتاج إلى بيان حسبما يرى علم الاقتصاد الآن.
من جهة ثانية، وصف هذا النظام بالنظام الإقطاعي، نظراً لاقتطاع الأسياد أجزاء من أراضيهم الزراعية للرقيق في مقابل التزامات نقدية وعينية متعددة. فقد حدث، وبعد انهيار الإمبراطورية الرومانية والحروب الأهلية والخارجية وتفتت السلطة المركزية العامة، أن قوى الاتجاه نحو النظام اللامركزي، فنشأت، على أنقاض الإمبراطورية الرومانية دول صغيرة، يرأس كل منها ملك، ويحكم أهلها وينظم اقتصادها على أساس هرمي، وبمقتضاه يقتطع الملك أجزاء من أراضى الدولة لتابعيه من الأمراء في مقابل التزامات مادية وحربية، ثم يقتطع الأمراء بدورهم مساحات من أراضيهم إلى تابعيهم من النبلاء، ثم يقتطع النبلاء أو السادة أجزاء للرقيق – بعد تحريرهم – في مقابل التزامات عينية ونقدية متعددة، وهكذا يكون الملك، من الناحية النظرية هو سيد الأسياد.
ويمكن إبراز السمات الأساسية للنظام الاقتصادي الإقطاعي فيما يلي:-
1- أنه نظام اقتصادي مغلق، استمر لفترة يقوم على الاكتفاء الذاتي أو الإنتاج بغرض الاستهلاك.
2- يمثل النشاط الزراعي النشاط الاقتصادي الهام، والذي ينظم وفقاً للعلاقات القائمة بين طبقتين وهما: والأشراف أو الأسياد أو أصحاب الأراضي، ورقيق الأرض.
3- كذلك كانت طوائف الحرفيين أو النشاط الحرفي، والذي ظهر بعد فترة من بداية النظام، بجانب النشاط الزراعي، من السمات المميزة للحياة الاقتصادية في العصور الوسطي، ومع هذا النشاط أصبح الإنتاج يتم بغرض التبادل، وإن كان على نطاق محدود.
4- تمثلت القوى الإنتاجية أو أدوات الإنتاج الأساسية، والتي تشمل أساساً الأرض والعمل ورأس المال والمهارات التنظيمية، القوى في عاملا الأرض والعمل.
5- إن السوق، بالرغم من تزايد أهميتها بمرور السنين، كانت على وجه التحديد جانباً ثانوياً من جوانب الحياة الاقتصادية في العصور الوسطي, فالجماهير الريفية كانت تزرع وتصنع ما تأكله أو تلبسه، وتسلم جزءاً منه إلى طبقة من الأمراء والسادة أحراراً أو مزارعين يقتسمون المحصول مع الملاك أو الأسياد أو مستأجرين، ويمكن أن يكون على رأسهم كأسياد الكنسية، والملك وكبار النبلاء، وطبقة عليا من المستأجرين، ولكن مهما تكن العلاقة بين السيد والعامل سواء كان الأمر التزاماً أو إكراها، فإن المنتجات والخدمات كانت تسلم ولا تباع، أو بعبارة أخرى لم تكن هناك السوق أو التجارة.
6- على أنه لا ينبغي بوجه عام تحميل عدم وجود تجارة أو سوق في العصور الوسطي أكثر مما يحتمل – فقد كانت هناك المدن، وإن كانت شديدة الصغر بالمقاييس اللاحقة ، وكانت هناك حاجات أو رغبات متنوعة للإقطاعيين الأعلى مرتبة يقوم على تحقيقها تجار من هنا وهناك أو يجرى إشباعها بالشراء من الحرفيين – ومن ثم فقد كانت هناك السوق، ولكنها ليست سوقاً من نمط العلاقات اليومية، ولم تكن تجتذب اهتماماً أو فكراً رئيسياً. وعلم الاقتصاد في جانب من جوانبه، يركز على السوق، ولكن في عالم كان السوق فيه نتاجا ثانويا من جوانب الحياة الاقتصادية في العصور الوسطي بل جانبا لا يهم إلا الخاصة، وبالنظر إلى أن علم الاقتصاد كما يعرف الآن لم يكن قد وجد بعد.
7- وعلى الرغم من الأهمية المحدودة للسوق وللتبادل، وعلى الرغم من أن علم الاقتصاد لم يكن قد عرف بعد في العصور الوسطي، إلا أن العمليات المحدودة للبيع والشراء، وعلى النحو الذي كانت تتم به، كانت قد اجتذبت فكر بعض الفلاسفة، والذين كان لهم فكر معين في بعض المسائل الاقتصادية كمسألة مشروعية السعر أو عدالته أو ما يسمي بمفهوم السعر العادل، والفائدة، والتجارة.
فإذا كنا قد ذكرنا أن الأسواق في العصور الوسطي لم تكن إلا جزءا صغيراً من الحياة الاقتصادية اليومية، إلا أنها رغم ذلك كانت لها سماتها الخاصة، منها أن مبيعات كثيرة من الخيول أو الماشية مثلاً، كانت تتم من شخص لآخر أو من تاجر أو من حفنة من التجار إلى الآخرين، أو كانت تخضع العملية للضوابط التي تقررها طوائف الحرفيين، والتي وجدت لأغراض كثيرة منها ضبط الأسعار وأجور العمال. وكان سعر السوق الذي يتحدد بطريقة تنافسية أو غير شخصية أمراً استثنائيا وليس هو المعتاد طوال العصور الوسطي. وفي كل الحالات، عدا أندرها، كانت هناك شواهد على قدر متفاوت من القوة الاحتكارية التي تزيد أو تنقص حسب الأحوال. في هذا الصدد يقول القديس الفرنسي توما الاكوينى (1225 – 1274) عن مشروعية السعر أو عدالته (أنه لأثم عظيم أن يمارس الاحتيال من أجل بيع شيئ لأكثر من سعره العادل …" فبيع شيئ بسعر أعلي مما يستحق، أو شراؤه بسعر أرخص مما يستحق يعد في حد ذاته سلوكاً غير عادل وغير قانوني". ومفهوم السعر العادل مازال على قيد الحياة.
كذلك وافق القديس توما الاكويني، بل أكد بقوة، الحظر على أخذ الفائدة، وربط ذلك بمراعاة صواب التجارة بوجه عام. ولم تكن إدانته للتجارة شاملة، حيث فرق بين نوعين من التبادل : الأول : يسمي التبادل الطبيعي والضروري، وعن طريقه تتم مبادلة شيئ بآخر أو مبادلة شيئ مقابل نقود بغرض تلبيه احتياجات الحياة، وهذا النوع من التبادل أو التجارة جدير بالثناء. أما النوع الثاني من التبادل أو التجارة : هو مبادلة نقود مقابل نقود أو أشياء مقابل نقود، لا لتلبية احتياجات الحياة، ولكن لتحقيق كسب، هذا النوع الثاني من التجارة مدان ومرفوض. وهكذا انضم التجار المحترفون – السماسرة والمضاربون والوسطاء – إلى مقرضي النقود في الإدانة الأخلاقية.
لكن، وبعد مرور أعوام طويلة على رأى وفكر القديس توما الاكويني، حدث تغير هائل في المواقف على يد الفرنسي نيكول أوريسم (1320- 1382). فالتجارة التي كانت هامشية وموضوع ريبة في فكر القديس توما الاكوينى، صارت محورية في فكر نيكول أوريسم. وبات ينبغي أن تقوم السياسة التي يتبعها الأمير أو الدولة أو المجتمع على تشجيع التجارة وتهيئة الظروف التي يتطلبها هذا التشيجع. كما تتبع أوريسم تاريخ النقود و إليه تعود نظرية المذهب النقدى Monetarism ، أو نظرية كمية النقود، ومفادها أن مقدار النقود المتداولة في الاقتصاد يؤثر في مستوى الأسعار، ومن ثم يمكن التحكم في التضخم عن طريق ضبط عرض النقود.
خلاصة الأمر، أنه وجد في هذه الفترة الطويلة ما هو أكثر من كلمات القديس توما الاكوينى ونيكول أوريسم، ولكن ليس أكثر كثيراً. ويرجع ذلك إلى أن علم الاقتصاد أو الفكر الاقتصادي لا يوجد بمعزل عن الحياة الاقتصادية ذات الصلة. فثبات وركود المجتمع الإقطاعي كان يهيمن على توزيع البضائع والخدمات، لا استجابة لسعر وإنما للقانون والعرف والخوف من العقوبات البالغة القسوة، كما كانت السوق استثناءا عل فئة قليلة، ومن أجل ذلك لم تولي اهتماما كبير. أما أوريسم فكان يستجيب أو يتنبأ بعالم جديد آخذ في الاتساع تواصل فيه الأسواق وكذلك النقود الظهور بقوة.
2) مقدمات ميلاد الرأسمالية :
تجمعت عوامل كثيرة، خلال فترة زمنية، أدت بدورها إلى تداعى وانهيار النظام الإقطاعي، وفي نفس الوقت مهدت لظهور نظام جديد. ويحدد مؤرخو تاريخ الفكر الاقتصادي هذه الفترة، بتلك الممتدة من منتصف القرن الخامس عشر وحتى منتصف القرن الثامن عشر، تلك الفترة التي شهدت بوضوح ببداية الثورة الصناعية ووقوع الثورة الأمريكية وصدور المؤلف العظيم " ثروة الأمم Wealth of Nations " لآدم سميث. ويشار إلى هذه المرحلة، أحيانا، والتي امتدت نحو ثلاثون قرون، الرأسمالية التجارية، وأحيانا لمذهب التجاريين أو المركنتيلية Mercantilism. وعموما فهذه الفترة تقدم لنظام جديد قادم. فهما هي إذن هذه العوامل؟ وما هي أهم الأفكار الاقتصادية التي سادت خلال هذه الحقبة؟ وأهم من قام بتحديد معالم هذه الحقبة؟
أ) أما عن إجابة التساؤل الأول، فيمكن إبراز أهم العوامل فيما يلي :
1- انتشار الأسواق والصعود الاجتماعي لطبقة التجار.
تزايدت، وبمعدلات كبيرة، حركة التجارة محليا ودوليا، وأصبحت تشمل الأراضي الأوروبية فيما بينها وكذلك بين الأخيرة وبلدان شرقي البحر المتوسط. كذلك ظهرت البنوك، أولاً في إيطاليا ثم تبع ذلك انتشارها في أوروبا الشمالية. كما أن بورصات النقود، حيث مكان وزن عملات البلدان المختلفة ومبادلتها، أصبحت من سمات هذه الفترة الزمنية.
وإذا كان التاجر متواريا في الفترة السابقة، وعمله منبوذا، صار شخصية مقبولة وذات مكانة اجتماعية. وفي نفس الوقت بدأ يتوارى، اجتماعيا، أصحاب الأراضي أو ورثة البارونات الإقطاعيين. ولم يكن كبار التجار مجرد ذوى نفوذ في الحكومة وإنما كانوا هم الحكومة، وكان نفوذهم يتزايد في الدولة القومية الجديدة، والتي يملون عليها ما يحقق أهدافهم من السياسات العامة والعمل العام بدوره، انعكاسا لآرائهم.
2- ظهور وتدعيم سلطة الدولة الحديثة:
فمع صعود القومية جاءت المصالح المتبادلة والعلاقة الحميمة بين سلطة الدولة ومصلحة التجار. وقد طرح البعض التساؤل التالي وهو : هل كانت الدولة القومية هي الأداة الضرورية لسلطة التجار؟ أم سعت الدولة نحو التجار في خدمة سلطاتها الأعلى؟
3- الاكتشافات الجغرافية الجديدة :
مثل رحلات كشف أمريكا والشرق الأقصى للملاحيين كولومبس وفاسكو دى جاما، ورحلات أخرى قامت بها دول البرتغال وأسبانيا وإنجلترا وفرنسا وهولندا. وكان من نتيجة هذه الرحلات اتساع الأسواق، وتدافع منتجات جديدة وغير مألوفة إلى أوروبا من الشرق، والأكثر أهمية كان سيل الفضة والذهب من مناجم العالم الجديد.
4- الحركة الصعودية الكبيرة في الأسعار :
كان من أثر تدفق المعادن الثمينة إلى أوروبا من الأراضي الجديدة حدوث ارتفاع عام في الأسعار وظهور مبكر لنظرية كمية النقود "Quantity Theory of Money "، مؤداها أنه إذا كان حجم التجارة ثابتا ، تتغير الأسعار في تناسب مباشر مع عرض النقود. وقد تبين في ذلك الوقت أن وجود عملة معدنية مستقرة – قاعدة الذهب والفضة – يتفق مع تضخم الأسعار. وقد دخلت العلاقة بين عرض النقود والأسعار مجال التعليق الاقتصادي في تلك الأيام. من هؤلاء الاقتصادي الفرنسي جان بودان (1530- 1596) الذي هذب إلى القول بأن الأسعار المرتفعة يقف وراءها أسباب كثرة منها وفرة الذهب والفضة، وكذلك الاحتكار.
5- تطور التنظيم الصناعي :
فمن التنظيم الطائفي إلى الصناعات المنزلية، ثم الصناعة اليدوية، أو بتغيير آخر تطورت العملية الإنتاجية أو الفن الإنتاجي.
ب) أما عن أهم الأفكار الاقتصادية التي سادت خلال هذه الحقبة الزمنية، فقد كانت السياسة العامة والعمل العام انعكاسا لآراء وما يحقق مصالح كبار التجار. فقد تصور التجاريون أن المعادن النفسية من ذهب وفضة مصدر الثروة وأهم أشكالها، وأن قوة الدولة ومعيار ثرائها هو ما لديها من ذهب وفضة. لذلك يرون أن على الدولة أن تعمل على الحصول على أكبر كمية من المعادن النفسية، وذلك عن طريق الصادرات وفرض الضرائب على الواردات. وعادة ما كان يقول التجار " إن بيع البضائع للآخرين يكون دائما أفضل من شراء البضائع من الآخرين "، لأن البيع يحقق مزية مؤكدة والشراء يجلب ضرراً لا يمكن اجتنابه. وهنا يعتقدون ويؤمنون بالدور القوى للدولة وبتدخلها في الاقتصاد. وقد ترتب على ذلك أن كانت المراسيم والتشريعات المركنتيلية، وفي واقعها العملي، تتضمن فرض الرسوم الجمركية والقيود الأخرى المختلفة على الواردات.
كما أن من ضمن الفكر المركنتيلي الموقف السلبي تجاه المنافسة، وعدم الترحيب بها والموافقة والتشجيع على الاحتكار أو على التحكم الاحتكاري في الأسعار والمنتجات، وبذلك تراجع مفهوم السعر العادل أمام المركنتيلية، ومن هنا كانت منح وبراءات الاحتكار تعطى بحرية كبيرة في إنجلترا في عصر الملكة اليزابيث. وكانت هذه المنح هبة سخية إلى أن قيدها البرلمان الإنجليزي خلال حكم جيمس الأول بموجب قانون الاحتكارات في العامين (1623 و 1624).
من جهة أخرى، ولما كان الثراء والسعي إليه قد أصبح موضع احترام صار أخذ الفائدة على رأس المال إذا لم يتجاوز حد الاعتدال، أمراً مقبولا، وأصبح تمويل العمليات التجارية بأموال مقترضة عملا مشروعاً، ولم يعد في ذلك ما يحرم التجار من دخول الجنة, وقد كان ذلك تغيرا في المواقف وفي الفكر عما كان يجرى في الفترة السابقة، فقد كان هناك التمييز، كما سبق وأن بينا، بين نوعى الفائدة، فالفائدة تدان بشدة إذا كانت ابتزازا من جانب المحظوظين للمعوزين.
ولكن الأمر يختلف عندما يحقق المقترض مالا من القرض الذي يحصل عليه، فعند ذلك يكون من قبيل العدالة المجردة أن يقتسم ما يكسبه من المقرض الذي جعل القرض ممكنا، و أن يعوضه أيضاً عن خطر فقدان هذا القرض.
ج) وأخيراً، نصل إلى الإشارة إلى أهم الكتاب الذين قاموا بتحديد معالم الفترة الانتقالية السباقة على ظهور الرأسمالية : فنذكر بأن المرحلة الانتقالية التي نحن بصددها لم يظهر فيها نظاما فكريا محددا من قبل علماء اقتصاد أو فلاسفة، وإنما كانت في المقام الأول نتاج عقوق رجال الدولة وكبار الموظفين ورجال المال والأعمال. لكن ظهر في هذه الفترة بعض من الرجال الذي أوضحوا المبادئ العامة، والسابق عرضها، من أبرزهم أنطوان دي مونكريتيان (1576 – 1621) في فرنسا، وانطونيو سيرا، وفيليب وفون هورنيك (1638 – 1712) في النمسا، وجوهان يواقيم بيشر (1635 – 1682) في ألمانيا ، وتوماس من (1517 – 1641) في إنجلترا.
3) خصائص النظام الرأسمالي أو اقتصاد السوق
يعتبر الفرد غاية هذا النظام وأداته في تحقيق أهدافه. فالفرد هو الوحدة الأساسية التي يقوم عليها تنظيم الحياة، وتتركز حولها كل أنواع النشاط الإنساني في النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
لذلك كان الإطار العام للنظام الرأسمالي ترجمة لمكانة الفرد في هذا النظام.
وترتكز خصائص وسمات اقتصاد السوق حول نوعين من الجوانب فهناك الجوانب التنظيمية والاجتماعية (أولاً) وهناك الجوانب الفنية والاقتصادية ( ثانياً).
أولاً : الجوانب التنظيمية والاجتماعية لاقتصاد السوق.
ثانياً : الجوانب الفنية والاقتصادية لاقتصاد السوق.
أولاً : الجوانب التنظيمية والاجتماعية لاقتصاد السوق:
يقوم النظام الرأسمالي على الحرية في كافة المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية على النحو الذي ينص عليه القانون. ويركز هذا النظام على مبدأي الملكية الخاصة وحرية التعاقد، ويقتصر دور الدولة على حماية حقوق الأفراد وحراسة مكاسبهم بالتأكيد على احترام حق الملكية وحرية التعاقد.
1) مبدأ الملكية الخاصة :
يعترف القانون في الدول الرأسمالية بحق الفرد في تملك الأموال ملكية خاصة، سواء كانت هذه الأموال سلعا استهلاكية أو سلعا إنتاجية. وحق الملكية على مال من الأموال يشمل مجموعة من الحقوق الفرعية تتمثل في حق الاستعمال وحق الاستغلال وحق التصرف، كما أنه يتضمن الاعتراف بحق الإرث كسبب من أسباب كسب الملكية.
ولا يعني الاعتراف للأفراد بحق الملكية أن تصبح كل الأموال الموجودة في المجتمع مملوكة للأفراد ملكية خاصة. فالدولة الرأسمالية تتملك جزءا من الثروة القومية تتمثل في المباني الحكومية، وأراضي الدولة، والمناجم ، والغابات، والهياكل الأساسية للنشاط الاقتصادي كالطرق والمصارف والجسور.
ويمكن للملكية الخاص في البلاد الرأسمالية أن تحاط ببعض القيود القانونية مراعاة لاعتبارات الصالح العام، كالقيود التي تمنع المالك من استخدام ماله على نحو يضر بمصلحة جيرانه أو رفاهية مجتمعه. ففي بعض البلاد تمنع القوانين الارتفاع بالمباني فوق حد معين، كما تحرم إنشاء المصانع الضارة بالصحة في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية.
الاعتراف بالملكية الخاصة لأموال الإنتاج جعل الرأسماليين في القرن التاسع عشر ينكبون على تكديس رؤوس الأموال في حوزتهم للاستفادة من مزايا الإنتاج الكبير، وأفقد العامل الحرفي وضعه الذي كان يتمتع به قبل ازدهار الرأسمالية، وفصل بشكل مطلق بين طبقة الرأسماليين المالكين لأدوات الإنتاج وبين طبقة العمـال التي تؤجر مجهودها لاستغلال أموال الإنتاج لصالح ملاكها، وأظهر التمايز الطبقي القائم على الانفصال الفني والاجتماعي بين العمل ورأس المال. لذلك تفرض بعض القوانين على ملاك المصانع المحافظة على بيئة العمل في حالة صحيحة، وتدبير الوسائل اللازمة لتأمين العمال من الحوادث. ثم توالت الحلول التي تضمن تحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي بين أصحاب الأعمال والعمل في إطار النظام الرأسمالي.
2) مبدأ حرية التعاقد :
إن الاقتصاد الرأسمالي اقتصاداً تبادلياً يقوم أساساً على وجود السوق التي تتم فيها مبادلة السلع والخدمات بين البائعين والمشترين دون تدخل من جانب الدولة بقصد الحد من قوى العرض والطلب أو توجيهها. فالقانون يكفل حرية التبادل وحرية التعاقد بالنسبة لكل الأموال الاقتصادية، بما فيها عوامل الإنتاج ومن بينها العمل.
ويعتبر العقد – وهو عمل قانوني يقوم على أرادتين أو أكثر – هو أسلوب الأفراد في تصريف شئونهم الاقتصادية. ويمكن بالعقد أن تقوم إلى جانب الملكية الفردية نوع آخر من الملكية يعرف بالملكية المشتركة وذلك بتأسيس الشركات.
ثانياً: الجوانب الفنية والاقتصادية لاقتصاد السوق:
يقوم النظام الرأسمالي على فن إنتاجي يرتكز على الاختراع وعلى بنيان اقتصادي يستند إلى حرية القرار.
1) الفن الإنتاجي :
قام النظام الرأسمالي في ظل الثورة الصناعية، فارتكز على التقدم التكنولوجي الذي أدت إليه هذه الثورة، وطبقت الفنون الإنتاجية المتقدمة نتيجة لمبدأ المنافسة. ففي ظل المنافسة يسعى المنتجون إلى تحسين وسائل إنتاجهم حتى يتمكنوا من تخفيض نفقات الإنتاج، وتحقيق أكبر قدر من الأرباح. فنجاح أي منتج في استخدام وسائل جديدة من شأنها تخفيض التكاليف، يدفع المنتجين الآخرين إلى تطبيق مثل هذه الوسائل الحديثة حتى يتمكنوا من البقاء في مجال الإنتاج.
ويجد تقدم الفن الإنتاجي أساسه في الاختراع الذي يعبر عن حركة التطور الصناعي. وقد يأخذ الاختراع شكل الاختراعات الميكانيكية أو شكل تغيير نسب التأليف بين عوامل الإنتاج. فالنظام الرأسمالي اعتمد في البداية على أسلوب الإنتاج الذي يستخدم العمل بنسبة أكبر من استخدام رأس المال، ثم أصبح يعتمد على طرق إنتاجية تعتمد على رأس المال أكثر من اعتمادها على العمل.
فالنظام الرأسمالي يضع تقدم فنون الإنتاج في مكانه الصحيح بعكس النظام الحرفي الذي كان يقوم على العمل اليدوي ولا يعمل إلى التجديد. وأدى استخدام الفن الإنتاجي المتقدم إلى سرعة زيادة معدلات النمو الاقتصادي. وسيطرت على فنون الإنتاج الآلية والصناعات الكبيرة، وتطورت هذه الفنون دون توقف لتواجه تكاثر الحاجات، وذلك لأن المنظم هو الذي يوجه وينشئ هذه الحاجات. فزيادة الإنتاج خلال فترات قصيرة دعمت النظام الرأسمالي وجعلته قادراً على تحقيق الازدهار.
2) حرية القرار الاقتصادي :
يتم استغلال عوامل الإنتاج نتيجة لتفاعل القرارات التي يتخذها الأفراد دون إشراف من جانب الدولة. فالجماعة تستمد احتياجاتها من المجهودات التي يبذلها المنتجون دون أن ترسم لهم أي سياسة مشتركة. وذلك يعنى أن الحياة الاقتصادية في ظل النظام الرأسمالي لا تقوم على برنامج تضعه الدولة. وإنما تتم المبادلات طبقاً لإرادة الأفراد. فالأفراد في سعيهم لتحقيق مصالحهم الخاصة يسعون في نفس الوقت إلى تحقيق مصلحة الجماعة.
وتعترف الرأسمالية للأفراد بحرية الاستهلاك. فهم أحرار في توزيع دخولهم بين الاستهلاك والادخار، كما أنهم أحرار في تحديد هيكل استهلاكهم، وفي استثمار ما ادخروه من أموال في المجال الذي يرونه مناسبا لهم. لذلك قيل أن المستهلكين هم الذين يوجهون الإنتاج في النظام الرأسمالي ويحددون هيكله حسب رغباتهم التي تظهر من كيفية إنفاقهم لأموالهم. فتهافتهم على سلعة من السلع يدل على زيادة تفضيلهم لتلك السلعة فيرتفع ثمنها وتزداد الكميات المنتجة منها على حساب الكميات المنتجة من غيرها من السلع التي ينقص الطلب عليها وينخفض ثمنها.
وتعترف الرأسمالية للأفراد والمشروعات بحرية العمل والإنتاج. فلكل فرد في ظل الرأسمالية أن يتصرف في قوة عمله وفي ممتلكاته بإرادة حرة لا تخضع لقيد. فهو حر في اختيار نوع العمل أو المهنة، وفي اختيار المجال الاقتصادي الذي يساهم فيه بنشاطه حسب مؤهلاته وظروفه والفرص المتاحة له. فقد يختار أن يكون زارعا أو صانعا أو تاجرا أو طبيبا تابعا أم مستقلا. وهو نظام يشجع على المخاطرة. وقد تؤدى مخاطرة المنتج إلى إنتاج سلعة جديدة تحقق له ربحا وفيرا وتحقق للمجتمع إشباعا إضافيا، فإذا فشل في ذلك فإنه يتحمل عاقبة سوء تدبيره بخسارة بعض أمواله. وقد تأخذ المخاطرة شكل التغيير في طرق الإنتاج بقصد تخفيض التكاليف وزيادة الأرباح التي تنتج عن زيادة الكميات التي يصرفها المنتجون من السلعة. ويستفيد المستهلك من انخفاض تكاليف الإنتاج.
ويكمل حرية الإنتاج، وحرية الاستهلاك، حرية انتقال السلع ورؤوس الأموال بين الدول، واتساع حجم المبادلات الدولية، وسيادة مبدأ حرية التجارة، نتيجة ازدهار النظام الرأسمالي، وتطور فنون الإنتاج، والاستفادة من مزايا الإنتاج الكبير. فحتى تتمكن الوحدات الإنتاجية الكبيرة من الاستمرار في زيادة الإنتاج كان من اللازم لها أن تضمن أسواقا متسعة ومصادر وفيرة للمواد الخام.