محاضرات في القانون الدولي
د/سلوان رشيد السنجاري
م الاولى
مقدمة : تعريف القانون الدولي
ان القانون الدولي هو مجموعة القواعد التي تنظم العلاقات بين الدول (1) التي تدعي لنفسها السيادة ولاتعترف بأي سلطة أعلى منها . ان هذا الادعاء يضفي على القواعد الحقوقية التي تهيمن على هذه العلاقات ، صفة مبتكرة تميزها عن القواعد المتعلقة بالقانون الداخلي . فالاشخاص التابعون لهذا القانون يخضعون الى سلطة تضع القانون وتفرض احترامه ، في حين أن الدول وهي اشخاص القانون الدولي ، تصدر معا" بعد الاتفاق فيما بينها ، الانظمة التي تعبر عن مصلحتها المشتركة ، وتبقى كل واحدة منها حرة في تقدير مدى الالتزام الذي يترتب عليها وشروط تنفيذه . فالقانون الداخلي قانون طاعة وامتثال ، يهيمن على الاشخاص الذي يمكن ارغامهم على احترام القانون ،بطريق القوة اذا اقتضى الامر ، وبواسطة الاجهزة الادارية المختصة . اما القانون الدولي ، فأنه ، على النقيض من ذلك يعد قانون تنسيق يكتفي بتجنيد التعاون بين الدول . ولما كانت هذه الدول لاتخضع الى أي سلطة تعلو عليها ، فأن اتصالها فيما بينها يتم وفقا" لادارتها ، وتبقى كل واحدة منه صاحبة السيادة في تقدير مدى حقوقها .ومؤدى ذلك ان جميع الدول لاتتصور معنى القاعدة الحقوقية بشكل واحد ، وبما انها تتجه نحو تجزئة مصالحها الرئيسية الى قيم مقدسة ، فأن السلم يصبح امرا" غير مضمون .ولذلك فان جميع انصار السلم قد هاجموا عن طريق القانون فكرة السيادة وهي العقبة الرئيسية لتفوق القانون الدولي على الاشخاص التابعيين له ، وهم الدول .ان هذا الاستدلال يستند الى منطق لايقبل الجدل ، ولكن السيادة مع الاسففكرة تاريخية ، ومن العسير تغيير التاريخ بمجموعة من الحجج المنطقية . ويجب ان تندمج هذه الحجج بالاحداث بقوة تجعل من الامر الذي كان طبيعيا" في الامس ، يبدو في اليوم التالي امرا" تافها" . وقد بدأ هذا التطور اثر الحربين العالميتين اللتين أثبتتا مدى الدمار الذي تؤدي اليه السيادات المنطلقة من عقالها . وعقب النزاع الاول ظهرت بعض المنظمات الدولية ، وفي مقدمتها عصبة الامم ومازال عددها يزداد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.ورغم انه لم يتسن من الناحية العملية ، ادراك مدى اهمية هذا الحادث فورا" فقد كان مرماه عظيما" من حيث المبادىء.فاذا انتقلنا من المرحلة الدولية الصرفة المبنية على تنسيق ارادي للسياسات الحكومية ، الى مجتمع منظم فاننا نتوصل الى نظام مستمد من مفهوم مختلف ، يستطيع ايجاد خصائص القانون الداخلي واعطاء صورة لمجموعة مؤلفة من اجهزة تملك حق التشريع والمحاكمة والتنفيذ .ويجب ان نستبدل ممارسة المهام الاجتماعية بشكل مبعثر بنوع من تركيز السلطات تختلف حدته تبعا" لدرجة التضامن الذي تشعر به الدول المتحالفة.
وبذلك لايتم التوحيد الذي عبثا" حاول الغزاة فرضة فحسب وانما تتم ايضا" الوحدة المبنية على موافقة الدول المشتركة لانشاء سلطة تعلو على سلطتها.
والمنظمات الدولية لاتعكس هذا المخطط النظري الا من بعيد لانها تستمد وجودها من الدول نفسها . وهذه الدول حريصة على الاحتفاظ باكبر قسط ممكن من السيادة ولاتتنازل الا عن اجزاء يسيرة منها الى المنظمة التي احدثت بدافع من الظروف .
ومهما بدت مساهمة المنظمات الدولية متواضعة من حيث تحقيق وحدة العالم فانها بلغت في الاحداث اهمية بالغة.
ومنذ اولى المدنيات التي ظهرت في حوض البحر الابيض المتوسط ، فاننا نشاهد ذلك النداء المتناقض بين السادة والتحالف . ان تاريخ العلاقات الدولية هو تاريخ ذلك التناوب بين المجتمعات المتجهة نحو التنظيم ، وبين الدول التي تتجابه في حروب مستمرة ، دون ان تعرف أي نظام سوى الذي تفرضه الدولة الغازية.
2-تاريخ العلاقات الدولية
لقد ظلت اليونان ، حقبة طويلة من الزمن ، تمزقها الصراعات التي كانت تبدو بمثابة حروب اهلية تتخللها مع ذلك محاولات تهدف الى الاتحاد خاصة بين المجالس التمثيلية . وفيما بعد فرض عليها فيليب الاتحاد بالقوة، وتبعه في ذلك اسكندر ، وذلك قبل ان تندمج شبه الجزيرة اليونانية في دولة اوسع بكثير وهي الامبراطورية الرومانية . وتعد هذه الامبراطورية اكمل نجاح لمحاولة استيعاب شعوب مختلفة في كيان عالمي .
وفي عام 212 ، صدر قانون ( كارا كالا) الذي اعتبر جميع سكان الامبراطورية الرومانية ، مواطنيين رومانيين . وقد ساعد انسجام الامبراطورية على انتشار الدين المسيحي الذي الف في القرون الوسطى نظاما" مختلفا" جدا" . فالدولة المسيحية كانت تتبع فلسفة مبتكرة ، اذ لم تكن المساواة بين الناس نتيجة استيعاب حقوقي طويل المدى وغير كامل ، كما كان في مفهوم الامبراطورية الرومانية بل كانت الحادث الاول بمعنى انهم متساوون جميعا" لانهم مخلوقون على صورة المسيح . فقد كان القديس بولس يقول (( لايونانيين ولابرابرة ، ولايهود ، ولاوثنيون )) .ومنذ ان اتخذ المجتمع المسيحي الانسان مرجعا" له، فقد شرع يتجه نحو الانتشار العالمي . ولم يكن بوسع مدينة الامير ان تبقى مغلقة على نفسها ، لانها كانت جزءا"من المدينة المسيحية ، التي كانت بداية المدينة الاهلية ، وهذا يفسر كيف عرفت القرون الوسطى في مجال الانظمة ، وحدة الحكومة الالهية وفي مجال العقيدة ، عالمية القانون الكنسي .
آ- ) كانت المدينة المسيحية تبدو كأنها هرم السلطات المتسلسلة : فالاسياد ، والبارونات ، والدروقات ، والملوك كانوا تابعين مبدئيا" للامبراطور الذي يخضع بدوره لسلطة البابا . وكان المجتمع مكونا" من امارات ليست متقابلة ، وانما متراصة بعضها فوق البعض الاخر . ولم يكن هذا النظام يحول ، في الواقع ، دون حدوث المنازعات . فكان الامبراطور ، في القمة ، يطالب بالسلطة الزمنية التي كان يدعى استلامها مباشرة من الله تعالى ، في حين ان البابا كان يدعي انه تسلم السلطتين الزمنية والروحية ،وعهد بالاولى الى الامبراطور الذي يظل مرتبطا" به بنشأنها .ونشب صراع طويل تميز بخضوع الملك هنري الرابع في كانوسا .وقد نشبت حروب كثيرة بين الامراء ، لكن السلطة البابوية كانت كافية لفرض الحد الادنى من النظام في العلاقات الدولية لاسيما عن طريق وضع حد اللجوء الى القوة ، اذ كانت الحرب محرمة في بعض الاماكن وفي بعض الازمنة . وفيما يتعلق بالاستعمار فان البابا كان يزود الامراء بالسلطة اللازمة للسيادة على الاراضي المغزوة في سبيل نشر الايمان . فالمنشور البابوي ( الكسندرين ) عام 1493 رسم الحد الفاصل بين الاراضي التي سيستعمرها الاسبانيون والبرتغاليون .
فقد كان بوسع الحبر الاعظم ان يفرض على الامراء عقوبات على جانب الاهمية ، اذ كان يتمكن بواسطة الحرمان ، ان يحرر رعايا الامير من واجب الطاعة . وهكذا نلاحظ توافر سلطة عليا ذات طابع كنسي ، تستطيع ، رغم ضعفها ، من فرص مذهب ذي اتجاه عالمي .
ب) لقد اشار علماء اللاهوت الى صفة الكنيسة العالمية ، يدفعهم الى ذلك بحكم الطبيعة دراسة قضايا العلاقات بين الامراء من ناحية ارتكاب الخطيئة . فقد كانوا ينشرون ان السلطة السياسية تخضع لمبدأ سام الا وهو الحق الطبيعي المستمد من الله تعالى .لذلك لم يكن الامراء اصحاب السيادة المطلقة ، وكان الجهد مبذولا" لتصوير سلطتهم كمهمة عهد بها اليهم الاله في سبيل تأمين الخير العام .
وخلال القرن الاسباني الذهبي اضفى علماء اللاهوت قوة فائقة على هذا المذهب الذي يتوخى تنظيم السلطة بقواعد سامية .
وقد بحث ( فرانسيس دو فيتوريا ) ( 1480-1546) بشكل خاص عن مبررات للاستعمار الذي ابرزت اهمية الاكتشافات الكبرى .وقد نبذ الاسباب المستمدة من همجية الشعوب المحتلة ، او من حق الاحتلال الاول ، واسنده الى حق الاتصال بين الامم ، مؤكدا" بذلك مفهومه العالمي للمجتمع الدولي اذ ان القانون الدولي نفسه مبني على الادراك العام . وكان يساور ( فرانسيسكو سواريز ) ( 1548-1617) نفس الرغبة في الوحدة ، اذ كان يرى ان الجنس البشري يفوق مختلف الامم . فالتوفيق بين استقلال كل منها ، وتشابك مصالحها الالزامي ينشأ عن وجود نوعين من القواعد : قواعد الحق الاداري وقواعد الحق الطبيعي . فالحق الاداري يستند الى اتفاقات يجب ان تأخذ بعين الاعتبار القواعد العليا التي فرضها الله تعالى على مجموع البشر.فكان يترتب على كل امير ان يعمل لصالح بلاده وان يفرض على غيره من الامراء احترام الحق الطبيعي . وبذلك تتضاعف مهتمه وتحمله ، في العلاقات الدولية ، على متابعة الخير المشترك العالمي .
ولكن صدف ، عندما كتب ( سواريز ) ماتقدم ، ان فقد العالم المسيحي وحدته المتداعية ، وتعرض العاهلان لزوال سلطتهما ،اذ رفضت ( حركة الاصلاح الديني) سلطة البابا ، كما ان تأليف دول دول قوية ، بفضل دعم الذهب الامريكي ، قد قضى على سلطان الامبراطور . وبذلك انهار كيان القرون الوسطى ، وانتشرت الدول المستقلة ، بعد ان تحررت من أي سلطة عليا.
الدول ذات السيادة:- كان المجتمع الدولي يتألف ، منذ القرن السادس عشر ، من بعض الدول كفرنسا ، وانكلترا ، واسبانيا والبرتغال . وظلت المانيا وايطاليا منقسمين الى جمهوريات او امارات ، وانما اخذت بعض المناطق فيها تحاول السيطرة على غيرها .وكانت جميع هذه الدول تعد نفسها ذات سيادة . وفي هذه الحقبة وضع المشرعون المبدأ القائل (( ان الملك الامبراطور في مملكته )). وكان يرافق هذه الادعاءات القانونية والسياسية اعتقاد اقتصادي ، مؤداه ان خروج النقد من البلاد يسبب فقرها، ومنه نشأت فكرة الاكتفاء الذاتي . وكانت مجموعة ردود الفعل هذه تسجل تراجعا" للمفهوم الدولي ، كما ان التطور المذهبي يفسر هذا الانتقال من نظام منسجم الى حالة من الفوضى الدولية .
آ) يعد ( هوغو دو كروت ) الملقب ( بغروشيوس ) ( 1583-1646 ) مؤسس القانون الدولي الحديث . فقد كان يتبع خطة العالم الذي يدرس الحقيقة الواقعية ، كما ان نظرته للقانون الدولي من زاوية علمانية قد اقصته عن اسلافه من علماء اللاهوت . غير انه ظل متمسكا" بالاعتبارات الاخلاقية ، ولاسيما فكرة مساواة البشر في الارض ، كما ان مباشرته البحث الدولي بالدفاع عن مبدأ حرية البحار ، لايخلو من مغزى ، اذ ان هذه القاعدة المبنية على حرية المواصلات والتجارة ، تتعارض مع ادعاءات الدول بشمول سيادتها المياه البحرية ، وجعل منها طريقا" مفتوحا" امام العلاقات القائمة بين الشعوب والتي لاتتمكن من ان تكفي نفسها بنفسها . ففي كتابة ( قانون الحرب والسلم ) يميز ( غروشيوس ) بين الحق الطبيعي والحق الارادي : فالاول يضع قواعد سامية يترتب على الدول احترامها ، بحيث ان رعاياها يستطيعون ان يستمدوا من النظام غير العادل ،حق مقاومة الاضطهاد .والحق الارادي يؤلف القانون الوضعي
المنبثق عن الاعراف والمعاهدات . ويرى ( غروشيوس ) ان الدولة مستقلة فعلا"، ولكنها لاتستطيع ان تبقى منعزلة ، اذ تحول دون ذلك طبيعة الانسان الاجتماعية التي تحاول تأكيد وحدة عالم يسوده وينسق شؤونه الحق الطبيعي . غير ان كتاب ( فاتل )
( Fattel ) (1714-1767) في القانون الدولي خال من هذا الحرص ، ويؤيد السيادة للكاملة للدولة كما انه يشير دون ابداء أي اسف الى الفوضى التي تسود الحياة الدولية.
ب) ومرد هذه الفوضى السائدة بين الدول الى ادعاء كل منه التمتع بالسيادة المطلقة . فالدولة مصدر القانون الدولي ، بقدر ماهي خاضعة له ، ولكنها قلما تعترف بالقواعد التي لاتنفق مع مصالحها ، وهذا يثبت ان خضوعها للقاعدة الحقوقية ليس امرا" حتميا" ، فضلا" عن ان الحكومات تفسر القاعدة المذكورة بشكل مختلفة ، ولاتلجأ بالتالي الى التسوية السلمية والتحكيم الا لحل النزاعات الضيئلة الشأن . ولذلك فان الحرب هي الحل الطبيعي للمنازعات ، وبدلا" عن وصمها بالاجرام ، فقد نظمت احكامها واساليبها وظلت مرعية الجانب حتى اواخر القرن التاسع عشر . ولدى تحول دولة الامراء الى دولة كيانها الامة ، نتيجة لتوسع الانظمة السياسية الموروثة عن الثورة الفرنسية ، استبدلت النزاعات بين الاسر المالكة ، بحروب دولية نظامية يتجابه فيها جميع افراد الشعوب المستنفرون لاداء الخدمة العسكرية نتيجة لمبدأ مساواة المواطنيين والمساواة الديمقراطية .
واذا نظرنا الى الفترة الطويلة الممتدة بين القرن التاسع عشر حتى عام 1914 ، نلاحظ ان العلاقات الدولية تستمد وجودها من قانون ناشىء عن الاواصر القائمة بين الاطراف المعنية ، الى ان نمت فكرة عقد المعاهدات الايلة الى اقصاء المنازعات المسلحةاو وضع حد لها ، عن طريق دعم التمثيل الدبلوماسي . ولكن هذه الوسائل لم تكن كافية لاستتباب السلم ، اذ ان الحاجة الى النظام الذي يعد من مقتضيات كل مجتمع ، استدعى اللجوء الى اساليب مختلفة منها مايحمل الطابع السياسي ، ومنها ماهو مستمد من المحالفات التي تتصرف كالحكومات وتمارس طيلة استمرارها نوعا" من الضغط على باقي الدول بغية المحافظة على الوضع الراهن الدولي .
1) وقد ظهر من ثم مبد آن مستمدان من التجارب لا من المذاهب يتوخيان تأمين نوع من الاستقرار في اوربا ، وهما مبدأ التوازن الذي يهدف الى تجنب النتائج الخطيرة لتعديل ميزان القوى الذي قد ينشأ عن توسع دولة على حسلب الدول الاخرى ، اذ تسعى هذه الفئة الى الحصول على مايعوض هذا الخلل في التوازن . ويؤيد ذلك ان معاهدات ( وستفاليا ) كانت عام 1648 تحابي فرنسا على حساب النمسا ، في حين ان معاهدة ( اوترخت ) المعقودة عام 1713 قد نهجت سياسة معاكسة ولاتستطيع أي دولة بموجب المبدأ الثاني ، أي مبدأ عدم التدخل ، ان تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى .
وهذه القاعدة مستمدة من مبدأ سيادة الدولة ، ولكنها تتعرض لتفسيرات شتى تعطيها الحكومات المعنية . وعندما اعلنت بلجيكا ، عام 1830 ، استقلالها وانفصالها عن هولندا فقد اعترضت فرنسا على تدخل بروسيا .وفي العام نفسه قضت الحكومة الروسية على الثورة البولونية ، ورفضت الحكومة الفرنسية تلبية نداء الثوار والتدخل في قضية اعتبرتها داخلية صرفة . وفي الحقيقة اذا وجدت احدى الدول العظمى ان وضعا" ما يتنافى مع مصلحتها ، فانها تتدخل باسم مبدأ توازن القوى . اما اذا بدا لها ان هذا الوضع يحقق مصالحها ، فانها تعترض على مبادرات الحكومات الاخرى عملا" بمبدأ عدم التدخل .
وبذلك فان كلا" من هذين المبدأين يتيح للدول العظمى امكانات سياسية متعددة مع محاولة التظاهر بالتمسك بالاخلاق الدولية في كل ما تقدم عليه من تصرفات . وللنجاح في هذه المحاولات فقد لجأت الدول الى التحالف وحاولت ان تفرض على اوروبا نوعا" من النظام ، بفضل اهميتها وقوتها.
2) لقد بذلت في القرن التاسع عشر جهود كثيرة لتنظيم اوروبا تنظيما" امبرياليا" . وعقب الانقلابات التي انبثقت عن الثورة وحروب نابليون ، تألفت احلاف لاتهدف الى اثارة الحروب وانما الى تجنبها واتاحة الفرصة لانماء التجارة بين الامم . وهكذا نشأ الحلف المقدس ثم الاتحاد الاوروبي .
وق ضم الاول رؤساء دول روسيا وبروسيا والنمسا ثم فرنسا وانكلترا .ورغم انشغاله بقضايا اقليمية ، كضمان مخطط الحدود المرسوم في مؤتمر فيينا عام 1815 فقد كان له هدف عقائدي مؤداه الحفاظ في العالم على النظام الملكي وشرعيته ضد أي فكرة هجومية منبثقة من عقلية عام 1789 . ولذلك فقد كثرت تدخلاتها في مختلف البلاد الاوربية . غير ان الولايات المتحدة حالت دون رغبته في المساهمة في ردع مستعمرات امريكا الجنوبية التي كانت تناضل في سبيل استقلالها بعد ان اقامت تلك الدولة نفسها بطلة عزلة القارة الامريكية ازاء المشروعات الاوربية ، عملا" بمبدأ ( مونرو) الذي تبنته حكومة واشنطن . غير ان الحلف المقدس اخذ بالتدهور لانه كان ينادي بعقيدة متداعية واصبح يمثل الاقلية . وقد تحقق اخفاقة بعد انسحاب بريطانيا العظمى التي لم يكن نظامها التمثيلي ليمتزج مع الحلف ولاسيما بعد الثورة التي نشبت في فرنسا عام 1830 . وقد شجع حلول الطبقة البرجوازية اثر النهضة الصناعية انتشار الافكار المتحررة التي لم تكتف بأن يتولى المواطنون انتخاب الحكام وتسميتهم ، بل كانت تتوخى تحرير الشعوب الاوربية الواقعة تحت سيطرة دولة اجنبية . وهكذا انتشرت حركة القوميات التي اخذت تطالب بانشاء دولة حيثما يتواجد سكان تتوافر لديهم خصائص الامة . وقد تساءل ( رونان ) في دراسته الشهيرة ( ماهي الامة ) انها تستند الى رغبة في العيش معا" تؤازرها ، وحدة في الدين والعرق ،والتاريخ والمصالح الاقتصادية. انها مجموعة اسس روحية ومادية بدأ الشعور بها في اوروبا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، واثارت في ايطاليا واتحاد النمسا والمجر ، قضايا عويصة اقضت مضجع الدول الكبرى ، وحملتها على تأليف الاتحاد الاوروبي . وقد كان هدف هذا الاتحاد مزدوجا: المحافظة على متابعة الاتصالات بين الدول الاعضاء ودعم السلم الذي تقتضيه المبادلات التجارية التي اخذت تنمو بسرعة في تلك الجمهورية التجارية الواسعة التي كانت تكون اوروبا الرأسمالية.
وتبعا" لذلك ، فقد انشأ الاتحاد الاوروباولى الاتحادات الادارية ، وهي منظمات دولية متخصصة في تسوية القضايا التي يتطلب حلها تجاوز المجال القومي ، وحدد نظام نه ( الدانوب ) الدولي كما حدد نظام المناطق الواقعة فيما وراء البحار ( مؤتمر برلين المعقودان عامي 1896و1889) .
وقد تم التوسع الاستعماري في الوقت الذي اخذت تنتشر في اوروبا الحركة القائلة بحق الشعوب في تقرير مصيرها مما اثار من جديد موضوع التوازن الراهن . ومن جهة اخرى فقد كان الهدف الثاني للاتحاد المحافظة على النظام وفرضه عند الاقتضاء على الدول الصغيرة والمتوسطة رغم ان بعض اعضائه كانوا يشجعون هنا وهناك حركة القوميات لدى الشعوب الموالية لهم.
غير ان هذه الحكومة الدولية في الواقع والتي تستمد سلطتها من تحالف القوى لم تكن لتخلو من التصدع .وقد بدا تشابك متزايد بين البلاد الاوروبية رغم التناقضات التي كانت قائمة بينهم على مدى الازمان والعصور . فهذا التضامن القائم موضوعيا" على شبكة من المواصلات لم يكن مقرونا" بتضامن شخصي اذ ظلت المعتقدات متعلقة بفكرة القومية كما ان الحكومات كان يساورها الاغراء بالعودة الى نظام الحماية وكان لابد من نشوب الحرب كي يلاحظوا بعد فترة طويلة ان الوحدة الفعلية للعالم الغربي كانت تحول دون المنازعات بين دولتين او عدد ضئيل من الدول وانما كانت تؤدي الى امتداد الحرب الى العالم باجمعه .