تطبيق القانون من حيث الاشخاص و المكان
قدمة:
المبحث الأول: تطبيق القانون من حيث الأشخاص
المطلب الأول: مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون
الفرع الأول: أساس المبدأ
الفرع الثاني: تبريرات المبدأ
الفرع الثالث: نطاق تطبيق المبدأ
المطلب الثاني: الاستثناءات الواردة على هذا المبدأ
الفرع الأول: القوة القاهرة
الفرع الثاني: الغلط في القانون
الفرع الثالث: دفع المسؤولية الجنائية بسبب الجهل بقوانين غير جنائية
الفرع الرابع: جهل الأجنبي بأحكام قانون العقوبات للدولة التي نزل به
المبحث الثاني: تطبيق القانون من حيث المكان
المطلب الأول: مبدأ إقليمية القوانين
الفرع الأول: المقصود بمبدأ إقليمية القوانين
الفرع الثاني: أساس مبدأ الإقليمية
المطلب الثاني: مبدأ شخصية القوانين
الفرع الأول: المقصود بمبدأ شخصية القوانين
الفرع الثاني: أساس مبدأ شخصية القوانين
المطلب الثالث: مبدأ العينية
المبحث الثالث: السريان الإقليمي للقانون الجزائري
المطلب الأول: الأصل في القانون الجزائري هو سريانه إقليميا
المطلب الثاني: الاستثناءات الواردة على مبدأ الإقليمية في الجزائر
الفرع الأول: في مجال الحقوق والواجبات
الفرع الثاني: مجال تطبيق قواعد الإسناد في القانون الدولي الخاص
الفرع الثالث: مجال تطبيق أحكام تقنين العقوبات
خاتمة:
مقدمة:
إن القانون هو مجموعة القواعد التي تنظم سلوك الأفراد في مجتمعهم، أي أن هذه القواعد القانونية هي سارية التطبيق على الأشخاص في مكان تواجدهم...
وفي بحثتا هذا سنتحدث عن نطاق تطبيق القاعدة القانونية بحيث سنتعرض إلى مسألتين:
الأولى: في مدى سريان القاعدة القانونية على الأشخاص المخاطبين بأحكامها، وذلك لمعرفة ما إذا كانت هذه القاعدة تسري عليهم جميعهم أم أن بعضا منهم لا يخضعون لأحكامها بدعوى الجهل بها.
الثانية: مدى سريان القاعدة القانونية من حيث المكان، وذلك للوقوف على الحالات القانونية التي يحكمها قانون الدولة بالنظر إلى نطاق تطبيق قوانين غيرها من الدول. وسنتحدث طبعا في مبحث خاص عن مدى السريان الإقليمي للقانون الجزائري.
المبحث الأول: تطبيق القانون من حيث الأشخاص
المطلب الأول: مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون
الفرع الأول: أساس المبدأ
يعتبر القانون نافذا في حق الأشخاص بعد نشره في الجريدة الرسمية، فبعد إصدار القانون ونظرا لاستحالة إحاطة جميع الناس الذين يعيشون في دولة معينة علما بصدوره، افترض علم جميع الناس بالتشريع منذ نشره في الجريدة الرسمية، فلا يجوز بعد هذا لأي شخص الاحتجاج بعدم علمه بالقانون بسبب مرضه أو غيابه، فمبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون يقوم على قرينة مفادها افتراض علم الأشخاص به من يوم نشره، وقد أثير نقاش في الفقه حول ما إذا كان افتراض العلم بالقانون يقوم على قرينة قانونية تجعل من أمر محتمل الوجود أمرا ثابتا أو هي مجرد حيلة قانونية تجعل من أمر غير صحيح صحيحا، ذلك لاستحالة علم جميع الأشخاص بالقوانين نظرا لكثرتها، فيستحيل للشخص العلم بها حتى ولو تم نشرها فيعتبر هذا المبدأ مجرد حيلة لإلزام الناس بالقانون، ويذهب البعض الآخر إلى أنها قرينة قانونية طالما يوجد احتمال ليعلم بعض الناس بالقاعدة وليس كلهم، فالقرائن القانونية تقوم على الاحتمال لا على اليقين، وهذا الاحتمال يتحقق فعلا بنشر التشريع في الجريدة الرسمية وعندما يصبح هذا الاحتمال مستحيلا، كحدوث قوة قاهرة تمنع من توزيع الجريدة الرسمية في منطقة معينة، فيستحيل تطبيق القاعدة آنذاك.
وتنص المادة 04 من القانون المدني الجزائري على ما يلي: " تطبق القوانين في تراب الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية ابتداءا من يوم نشرها في الجريدة الرسمية " وتكون نافذة في الجزائر العاصمة بعد مضي يوم من تاريخ نشرها، وفي النواحي الأخرى بعد مضي يوم من تاريخ وصول الجريدة الرسمية لمقر الدائرة، ويشهد على ذلك ختم الدائرة الموضوع في الجريدة.
الفرع الثاني: تبريرات المبدأ
هناك من يبرر المبدأ على أساس أنه بتحديد تاريخ واحد يصبح القانون فيه نافذا في مواجهة الجميع تتحقق فيه المساواة بين الناس، فلا يستطيع الشخص مهما كانت مكانته استبعاد تطبيق القانون. لكن يرى البعض أن فكرة المساواة لا تتحقق بتطبيق مبدأ عدم جواز الاعتذار بالجهل للقانون، ذلك أنه إذا كان الجهل من رجل متخصص فلا جزاء عليه، مثال ذلك جهل القضاة للقانون أحيانا والدليل على دلك أنه كثيرا ما تعلن المحكمة العليا سوء تطبيق القانون من طرف المحاكم الدنيا، ولا يمكن تبرير ذلك على اعتبار الطعن بالنقض جزاءا على مخالفة القضاة للقانون لأنه قد ييأس الأشخاص ولا يطعنون بالنقض فيصبح الحكم الصادر عن جهل القاضي للقانون نهائيا، وبالتالي لا يوجد جزاء حقيقي لسوء تطبيق القاضي للقانون.
لكن يظل المبدأ أساسي تبرره الحاجة الاجتماعية، فما فائدة القوانين إذا أمكن للأشخاص استبعادها، فالمبدأ مرتبط بالفائدة من وجود القانون. فاستقرار المجتمع يستدعي وضع تاريخ معين يعتبر فيه القانون ساري المفعول، إذ من المستحيل تعليم الأفراد بالقانون واحدا بواحد. كما أن تطبيق القانون يتأجل لو تركنا المجال لكل شخص لإثبات جهله به.
الفرع الثالث: نطاق تطبيق المبدأ
يسري هذا المبدأ في نطاق القانون الخاص والعام كما يسري أيضا على جميع القوانين مهما كان مصدرها سواء التشريع أو العرف أو الشريعة الإسلامية. فلا يستطيع الشخص الاعتذار بجهل قواعد الشريعة الإسلامية لاستبعاد تطبيقها عليه، وكذلك القواعد العرفية متى صارت ملزمة. فلا يمكن استبعاد تطبيقها إلا باتفاق بين المتعاقدين على عدم تطبيقها إلا أنه لا يمكن الدفع بالجهل بها عند تطبيق القاضي لها في حالة عدم الاتفاق على استبعادها.
ويطبق المبدأ أيضا بالنسبة للقواعد الآمرة والمكملة. وهناك من يرى جواز الاحتجاج بالجهل بالقواعد المكملة وهذا الرأي مؤيد للرأي القائل بعدم إلزامية القواعد المكملة، وهذا القول يؤدي إلى فقد القاعدة المكملة لأهميتها، إذ ما الفائدة من وجود قواعد مكملة إذا أمكن للأفراد استبعادها سواء بعد الاتفاق أو قبله؟ ولكن الحقيقة هي أنه يجوز للمتعاقدين الاتفاق على خلاف القاعدة المكملة، ولكن هذا الخلاف يتم وقت التعاقد وليس بعده.
فإذا قام نزاع بين المتعاقدين قبل اتفاقهما على المسألة المتعاقد من أجلها ترك لهم المشرع الخيار في الاتفاق بصددها كمكان أو زمان تسليم البضاعة. فتكون المفاضلة للشخص الذي يتمسك بتطبيق القاعدة المكملة عن غيره و إلا فما الداعي لوجود هذه القاعدة أصلا.
ففي حالة عدم اتفاق المتعاقدين على ما هو مخالف للقاعدة المكملة طبقت هذه القاعدة إلزاميا ولا يجوز بعد ذلك لأحد منهما الادعاء بجهلها.
أما بالنسبة للقواعد الآمرة فلا يجوز لأحد أن يخل بها بدعوى أنه يجهلها لأن أحكامها معروفة من طرف الجميع و إلا لما أمكن تطبيقها تطبيقا منتجا لو أفسحنا جانب العذر في ذلك.
المطلب الثاني: الاستثناءات الواردة على المبدأ
هناك من يرى في جواز تمسك الشخص بالغلط في القانون وبالجهل بقوانين غير جنائية، بقاعدة لغلط الشائع يولد الحق، استثناءا من مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون. وسنتعرض لهذه المسائل مبينين أهم الاستثناءات، وهل تؤدي فعلا على استبعاد تطبيق القانون على الأشخاص؟
الفرع الأول: القوة القاهرة
إذا استحال علم الشخص بالقانون بسبب قوة قاهرة حالت دون وصول الجريدة الرسمية إلى منطقة أو مناطق معينة من إقليم الدولة، فإنه لا يمكن الأخذ بمبدأ عدم الاعتذار بجهل القانون بل أن هذا المبدأ يستبعد. ويمكن بذلك الاحتجاج بجهل التشريع الجديد، وذلك حين زوال السبب الذي جعل العلم بهذا التشريع مستحيلا و وصول الجريدة الرسمية المتضمنة للتشريع إلى الأشخاص المعنيين بحكمه، ومثال القوة القاهرة: احتلال العدو لأحدى مناطق الدولة، الزلزال، وغيرها من الظروف التي يستحيل معها علم الأفراد بالتشريع في الجريدة الرسمية. ففي جميع الحالات يجوز للفرد الاحتجاج بجهل القانون لأن تطبيقه حينئذ يصبح مخالفا للعدل. ومن المواد التي صرحت بهذا الاستثناء المادة 37/1 من تقنين العقوبات العراقي: (( ليس لأحد أن يحتج بجهله بأحكام هذا القانون أو أي قانون عقابي آخر ما لم يكن قد تعذر علمه بالقانون الذي يعاقب على الجريمة بسبب قوة قاهرة))، كما اتخذت محكمة النقض المصرية بهذا الاستثناء في أحد أحكامها، فقضت بأنه: (( لا يقبل من أحد الاعتذار بجهله أو إثبات أن ظروفه الخاصة قد حالت دون علمه الفعلي... وإنما يقبل فقط العذر بالجهل بالقانون إذا حالت قوة قاهرة دون وصول الجريدة الرسمية بتاتا إلى منطقة من مناطق الجمهورية)).
مناقشة هذا الاستثناء: يلاحظ على هذا الاستثناء ما يلي:
1/- أن مجاله ينصرف فقط إلى القواعد التشريعية دون غيرها من قواعد الدين والعرف، ذلك أن التشريع وحده هو الذي ينشر في الجريدة الرسمية وهو الذي يفترض العلم بهذا النشر.
2/- أنه نادر التحقيق اليوم، نظرا لتقدم وسائل المواصلات وخاصة الجوية منها.
3/- أن الأمثلة التي صاغها الفقهاء للتدليل على القوة القاهرة لا تعتبر في الحقيقة استثناءا من قاعدة لا عذر بجهل القانون بل هي تطبيق لها. إذ أن عدم علم المواطنين مثلا في إقليم احتله العدو بالتشريعات التي تصدر أثناء الاحتلال، إنما يرجع إلى عدم استطاعة الاحتجاج قبلهم بنشرها، ذلك النشر الذي به وحده تنهض قرينة على افتراض علمهم بتلك التشريعات وليس إلى استحالة العلم بها استحالة مطلقة.
الفرع الثاني: الغلط في القانون
لقد نص المشرع في المادة 83 مدني على أنه يجوز للمتعاقد الذي وقع في غلط في القانون أن يبطل إبطال العقد متى كان هذا الغلط هو الدافع الرئيسي إلى التعاقد، فالعيب في الإرادة يتحقق سواء كان الغلط في واقعة من الوقائع، كمن يشتري تحفة ظنا أن لها قيمة أثرية ثم يتضح له خلاف ذلك. وقد يكون الغلط في القانون أي غلط ينص على جهل المتعاقد لحكم القانون في مسألة معينة فيتعاقد وفقا لذلك، كأن يبيع الزوج نصيبه في الإرث ظنا أنه يرث النصف، ثم يتضح له أن نصيبه الربع لعدم وجود فرع وارث للزوجة. فالمتعاقد تعاقد نتيجة غلط في القانون ويكون له الحق في طلب إبطال العقد. فهل يعتبر تمسك الشخص بإبطال التصرف لأنه وقع في غلط في القانون اعتذارا بجهله به؟ والحقيقة هي أن أعمال عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون لا يتنافى إطلاقا مع أعمال الغلط في القانون إذ حكمه يطبق دائما. لن أساس الاعتذار بالجهل بالقانون هو الإيتاح للشخص التخلص من حكم القانون، فعندما يطالب الشخص بإبطال العقد لوقوعه في غلط فهو يطالب بتطبيق القانون.
ويرى البعض أن الغلط في القانون يهدف إلى المساس بمبدأ القوة الملزمة للعقد و بالتالي يعتبر استثناء من مبدأ عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون، إذ أن إبطال العقد يؤدي إلى التخلص من حكم القانون الذي يجعل العقد ملزما. ويمكن الرد على هذا القول أن القوة الملزمة لا يمكن تطبيقها عندما يكون أحد المتعاقدين قد تعاقد وهو جاهل لحكم القانون، وبالتالي الغلط في القانون لا يترتب عليه عدم تطبيق القانون وبهذا لا يعتبر استثناء من مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون، والدليل على ذلك أنه حينما يكون إبطال العقد للغلط في القانون يؤدي إلى استبعاد تطبيق القانون، كمطالبة مؤجر بإلغاء عقد إيجار حددت فيه الأجرة بما هو زائد عن الحد الأقصى المحدد قانونيا فلا يبطل العقد بل يخضع المؤجر لحكم القانون وتخفض الأجرة إلى الحد الأقصى وهذا ما تنص عليه المادة 454 مدني التي تقضي ببطلان العقد.
مناقشة هذا الاستثناء:
يرى بعض الفقهاء عدم التسليم بهذا الاستثناء لأن إبطال العقد بغلط في القانون ليس فيه خروج على مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون بل هو وسيلة لتدعيمه. فمن يطلب إبطال العقد لوقوعه في غلط في القانون لا يقصد التهرب من أحكام القانون التي وقع الغلط فيها، بل إنه في الحقيقة يطالب بتطبيق هذه الأحكام، فالوارث الذي يجهل قواعد الميراث ويقع في غلط بقدر الحصة التي تفرضها له، ثم يطلب بإبطال عقد البيع الذي أبرمه تحت تأثير هذا الغلط، لا يمنع الحكم له بإبطال البيع من خضوعه لقواعد الميراث التي كان يجهلها بل تظل سارية في حقه، فيحصل على نصف التركة لا ربعها، ولولا انطباق هذه الأحكام لما جاز لهذا الوارث طلب إبطال العقد.
الفرع الثالث: دفع المسؤولية الجنائية بسبب الجهل بقوانين غير جنائية
إذا كان بأحكام تقنين العقوبات لا يؤدي إلى إعفاء مرتكب الجريمة من مسؤوليته الكاملة عند ارتكابها. فأن الجهل بأحكام أخرى للتقنين المدني يأخذ حكم الجهل بالواقع ويؤدي إلى نفي القصر الجنائي ورفع المسؤولية عن الفاعل الذي كان يعتقد أنه يأتي فعلا مشروعا. وهذا معناه أن مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون لا يمتد تطبيقه إلى الجهل بالتشريعات غير الجنائية. إذ أن الجهل بهذه التشريعات الأخيرة يصلح عذرا يمنع من العقاب لانتفاء القصد. وقد نصت المادة 223 من تقنين العقوبات اللبناني صراحة على هذا الاستثناء بما يلي: (( لا يمكن أحد أن يحتج بجهله الشريعة الجزائية أو تأويله إياها تأويلا مغلوطا فيه، غير أنه يعد مانعا للعقاب، الجهل أو الغلط الواقع على شريعة مدنية أو إدارية يتوقف عليها فرض العقوبة)).
ويلاحظ أن القضاء الجنائي الفرنسي اتجه إلى أن جهل المتهم بقاعدة تشريعية غير جنائية تؤسس عليها العقوبة يصلح عذرا له، فيرفع عنه المسؤولية الجنائية. فقضى ببراءة عامل من تهمة السرقة لانتفاء القصد الجنائي لديه، وكان قد استولى على الكنز الذي عثر عليه في أرض مملوكة للغير بأكمله جاهلا قواعد التقنين المدني التي تجعل النصف له وتجعل النصف الآخر لمالك العقار.
مناقشة هذا الاستثناء:
يرى جانب من الفقه أن ارتفاع المسؤولية الجنائية في هذه الحالة استثناء في الظاهر فقط ولا يمثل خروجا على مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون وذلك لاعتبارين:
1/- إن الحكم ببراءة المتهم وارتفاع المسؤولية الجنائية عنه ليس من شأنه أن يمنع تطبيق القاعدة الواردة في التقنين المدني التي ثبت جهل المتهم بها، بل تظل سارية بحقه ومطبقة عليه بحيث لا ينفرد مكتشف الكنز المشار إليه في الحكم السابق بملكية الكنز، بل إن الملكية تكون مناصفة مع مالك الأرض.
2/- إن إعفاء الشخص من المسؤولية الجنائية ليس أساسه الجهل بالقاعدة المدنية، وإنما هو نتيجة لانتفاء القصد الجنائي عنده. ذلك أن القصد الجنائي لا يتحقق في هذه الحالة إلا بالعلم بقاعدة قانونية غير جنائية، وما دام المتهم هنا يجهل حكم هذه القاعدة فقد انتفى القصد الجنائي عنده وهو أحد أركان قيام الجريمة، فترتفع عنه المسؤولية الجنائية تبعا لذلك.
الفرع الرابع: جهل الأجنبي بأحكام قانون العقوبات للدولة التي نزل بها
نص تقنين العقوبات في عض الدول على هذا الاستثناء. فقد جاء في المادة 37/2 من تقنين العقوبات العراقي ما يلي: (( للمحكمة أن تعفو من العقاب الأجنبي التي يرتكب جريمة خلال سبعة أيام على الأكثر تمضي من تاريخ قدومه إلى العراق إذا ثبت جهله بالقانون وكان قانون محل إقامته لا يعاقب عليها)). كما جاء في المادة 223 من تقنين العقوبات اللبناني ما يلي: (( لا يمكن لأحد أن يحتج بجهله الشريعة الجزائية أو تأويله إياها تأويلا مغلوطا فيه، غير أنه يعد مانعا من العقاب جهل الأجنبي الذي قدم للبنان منذ ثلاثة أيام على الأكثر بوجود جريمة مخالفة لقوانين الوضعية، لا تعاقبه عليها شرائع بلاده أو شرائع البلاد التي كان مقيما فيها)). فيتضح من هذين النصين أن هذا الاستثناء يتعلق بحالة الأجنبي الذي لم يمض على قدومه لدولة غير دولته إلا أياما محدودة، ويرتكب خلال هذه الفترة فعلا يجهل أنه جريمة وفقا لتشريع هذه الدولة، فيصلح هذا الجهل عذرا ترفع منه العقوبة وذلك بتحقق شرطين:
1/- أن يكون الفعل الذي ارتكبه غير معاقب عليه وفقا لتقنين العقوبات في بلده، فإذا كان يعاقب عليه بعين حين أنه يعلم تجريمه في الدولة الأجنبية، فلا تعطى له بالتالي فرصة التعلل بجهل القانون.
2/- أن يكون الفعل المكون للجريمة قد تم خلال المدة التي حددها النص، فإذا انقضت هذه المدة فلا يقبل احتجاجه بجهله للقانون ونرى أن هذا الاستثناء هو المنطقي والعملي والوحيد الذي يعتبر عذرا يبيح للشخص أن يتعلل بجهله بالقانون.
المبحث الثاني: تطبيق القانون من حيث المكان
المطلب الأول: مبدأ إقليمية القوانين
الفرع الأول: المقصود بمبدأ الإقليمية
يقصد بهذا سريان القاعدة القانونية على كل ما يقع داخل إقليم الدولة وعلى كل الأشخاص الموجودين فيه فيخضع لحكم هذه القاعدة كل من المواطن والأجنبي، ويقابل هذا المبدأ عدم سريان القاعدة في خارج حدود الدولة، فإذا قلنا أن القانون الجزائري إقليمي التطبيق، فإنه يترتب على ذلك ما يلي:
1/- أنه دون سواه يسري على كل ما يقع في الإقليم الجزائري، وعلى كل الأشخاص الموجودين مهما كانت جنسيتهم.
2/- أنه لا يمتد خارج الإقليم الجزائري، حتى ولو تعلق الأمر بجزائريين فإنهم يخضعون لقانون الدولة التي يقيمون فيها.
الفرع الثاني: أساس مبدأ الإقليمية
يستند مبدأ السريان الإقليمي للقاعدة القانونية إلى فكرة سيادة الدولة على إقليمها، مما يعد تطبيق تشريعات دول أخرى على ما يقع في إقليمها اعتداءا على سيادتها.
لذا يعتبر تطبيق القانون الخاص بالدولة في إقليمها على جميع الأشخاص الموجودين فيه من أهم مظاهر السيادة، وعليه فإن للدولة أن تفرض النظام الذي تريده على جميع القاطنين في إقليمها، ويعتبر حق الدولة في السيادة على إقليمها نتيجة طبيعية لوجودها. فالدولة لا يكون لها وجود إلا على إقليم معين، والإقليم هو أحد أركان الدولة وهو مكان وجودها.
المطلب الثاني: مبدأ شخصية القوانين
الفرع الأول: المقصود بمبدأ شخصية القوانين
يقصد بهذا المبدأ سريان القاعدة القانونية على الأشخاص المنتمين إلى الدولة سواء كانوا موجودين على إقليمها أو مقيمين خارج الإقليم، وعدم سريان هذه القاعدة على الأشخاص المنتمين للدول الأخرى حتى ولو كانوا مقيمين في إقليمها.
فإذا قلنا مثلا أن القانون الجزائري شخصي التطبيق فمعنى ذلك ما يلي:
1/- أن القانون يطبق على الجزائريين حتى ولو وجدوا خارج الإقليم الجزائري.
2/- أنه لا يسري على الأجانب حتى ولو وجدوا داخل الإقليم الجزائري.
الفرع الثاني: أساس مبدأ شخصية القوانين
يقوم مبدأ السريان الشخصي للقاعدة القانونية على أساس سيادة الدولة على رعاياها أينما وجدوا، وذلك للعلاقة التي تربطهم بها، وهي علاقة لا تتقيد بمكان معين، بل تتسع لتشمل جميع الأمكنة التي تحوي أحدا من رعاياها، فهؤلاء الرعايا هم الذين وضعت التشريعات من أجلهم، ومن ثم يجب أن تطبق غليهم أينما وجدوا، فيعتبر حق الدولة في السيادة على رعاياها نتيجة طبيعية لكون هؤلاء الرعايا يمثلون عنصر الشعب في الدولة التي لا يمكن أن تقوم بغيره، فالدولة إذا كيان بشري إضافة إلى أنها كيان إقليمي.
المطلب الثالث: مبدأ العينية
يقضي هذا المبدأ بسريان القانون على الأشخاص أو الأفعال خارج إقليم الدولة سواء كان مرتكبوها مواطنون أو أجانب، وذلك بالنظر إلى نوع الجريمة، لهذا يسمى هذا المبدأ التطبيق العيني للقانون، إلا أنه لا يؤخذ بعين الاعتبار جنسية الأشخاص مرتكبي الجريمة، بل يؤخذ بعين الاعتبار نوع الجريمة، فإذا كانت الجرائم تخل بأمن الدولة و اقتصادها كجرائم التزوير في النقود والأوراق الرسمية. فيطبق القانون الوطني بصددها، ويعتبر هذا المبدأ استثناءا من مبدأ إقليمية القوانين لأن الجريمة ارتكبت في الخارج ويطبق عليها قانون الدولة المتضررة، ويعد أيضا استثناءا من مبدأ شخصية القوانين إذ يطبق قانون الدولة المتضررة على المجرم سواء كان وطنيا أو أجنبيا.
المبحث الثالث: مبدأ السريان الإقليمي للقانون الجزائري
المطلب الأول: الأصل في القانون الجزائري هو سريانه إقليميا
أكد تقنين العقوبات الجزائري مبدأ السريان الإقليمي للقانون في المادة 3/1 منه، والتي تقضي بأن: (يطبق قانون العقوبات على كافة الجرائم التي ترتكب في أراضي الجمهورية )، فطبقا لهده المادة فإن تقنين العقوبات الجزائري يسري على كل الجرائم المرتكبة في الجزائر بغض النظر عن جنسية مرتكبها، مع أنه لا يسري على ما يُرتكب من جرائم خارج الإقليم الجزائري.
ويجد مبدأ السريان الإقليمي لقواعد تقنين العقوبات منطقه في سببين:
أولهما نظري: وهو أن القانون الجنائي باعتباره أداة لكل دولة في فرض سيادتها على إقليمها وتأميم حقوق المجتمع وأفراده يعد أحد مظاهر سيادة الدولة على إقليمها.
وثانيهما عملي: هو أن مكان وقوع الجريمة هو الأنسب لمحاكمة المتهم بسبب توفر أدلة إثبات الجريمة فيه، كما أن اعتبارات تحقيق الردع العام تدعو إلى صدور الحكم مكان الجريمة.
كما أن مبدأ التطبيق الإقليمي للقانون يستفاد من نص المادة 4/1 من التقنين المدني الجزائري التي تنص على أن: (( تطبيق القوانين في تراب الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية ابتداء من يوم نشرها في الجريدة الرسمية ))، أضف إلى ذلك أن التقنين المدني هذا جاء بتطبيقات لمبدأ السريان الإقليمي للقانون فيما يتعلق بالعلاقات المشتملة على عنصر أجنبي منها: إخضاع شكل العقد لقانون بلد إبرام العقد.
المطلب الثاني: الاستثناءات الواردة على مبدأ إقليمية القانون الجزائري
في السابق قلنا بأن الأصل في القانون الجزائري تطبيقه تطبيقا إقليميا، غير أن هذا المبدأ لا يعمل به على سبيل الإطلاق، فهناك من الاعتبارات ما يقتضي الخروج عليه في بعض الأحوال على سبيل المثال.
ومن أهم الاستثناءات الواردة على مبدأ السريان الإقليمي للقانون الجزائري:
الفرع الأول: في مجال الحقوق والواجبات العامة
من المعلوم به أن الأجانب لا يتمتعون بأهلية اكتساب الحقوق العامة أو التحمل بالواجبات السياسية بحيث ترتبط بعض هذه الحقوق والواجبات بجنسية الشخص، ومن ذلك حق الانتخاب، وحق الترشيح للهيئات النيابية ( المادة 50 من دستور 1996) وحق الترشيح لرئاسة الجمهورية( المادة 73 من دستور 1996)، فمثل هذه الحقوق والواجبات تقتصر على المواطنين الجزائريين حيثما وجدوا، أي يطبق القانون بشأنها تطبيقا شخصيا, ولا يتصور أن تطبق الأحكام القانونية المنظمة لها على الأجانب, ولو كانوا مقيمين في الإقليم الجزائري. ومعنا ذلك أن القانون الجزائري لا يسري بالنسبة إلى هذه المسائل سريانا إقليميا على كل الموجودين في الجزائر, بل إن سريانه يكون شخصيا على الجزائريين, فالعبرة حين إذ بجنسية الأشخاص لا بدول إقامتهم, فلا يحرم الجزائري من حقه في الانتخاب مثلا, كما لا يعفى من واجب أداء الخدمة الوطنية ولو كان مقيما في الخارج.
الفرع الثاني: في مجال تطبيق قواعد الإسناد في القانون الدولي الخاص
عالج التقنين المدني قواعد الإسناد في المواد من 09 إلى 24, وهي القواعد التي تتكفل ببيان القانون الواجب التطبيق على العلاقات الخاصة ذات العنصر الأجنبي التي تعرف أمام القضاء الوطني, وذلك نظرا لاعتبارات العدل التي تقضي بأن يكون القانون واجب التطبيق هو أكثر القوانين اتصالا بالنزاع ولو كان أجنبيا. وقواعد الإسناد هذه قد تعين قانونا أجنبيا لتنظيم علاقة نشأت في الجزائر, ويترتب على ذلك أن القاضي الوطني يلتزم بتطبيق قانون أجنبي على النزاع المعروض أمامه وذلك لا يعتبر انتقاص من السيادة الوطنية ويعتبر تطبيق القانون الأجنبي من طرف القاضي الجزائري خروجا عن مبدأ الإقليمية. والأخذ بمبدأ السريان الشخصي لهذا القانون الأجنبي ومثال هذا التطبيق نصت عليه المادة 11 من تقنينا المدني على إخضاع شروط صحة الزواج للقانون الوطني لكل من الزوجين. فإذا تزوج في الجزائر فرنسيان طبق على زواجهما القانون لفرنسي، رغم أن الزواج حدث في الجزائر فهذه الحالة تعتبر استثناء من السريان الإقليمي للقانون الجزائري، إذ لم يطبق هذا القانون بل طبق قانون أجنبي طبقا لمبدأ شخصية القوانين ولكن قواعد الإسناد قد تعين القانون الجزائري لتنظيم علاقة قانونية ناشئة خارج الإقليم الجزائري، ويكون هذا أيضا خروج عن مبدأ الإقليمية و اعتناق لمبدأ الشخصية ومثال ذلك نص عليه في المادة 10 من التقنين المدني بسريان القوانين المتعلقة بالحالة المدنية للأشخاص وأهليتهم على الجزائريين ولو كانوا مقيمين في بلاد أجنبية.
الفرع الثالث: في مجال تطبيق أحكام تقنين العقوبات
إذا كان الأصل هو إقليمية القوانين تطبيق تقنين العقوبات الجزائري، طبقا لما تقتضي به المادة 3/1 منه التي تقرر أن تقنين العقوبات يطبق على كافة الجرائم التي ترتكب داخل إقليم الجمهورية، فأن المصلحة العامة للدولة قد تقتضي الخروج علة هذا الأصل. فتعطى للدولة حق إيقاع العقاب على مرتكبي بعض الجرائم خارج الإقليم الجزائري، وقد نصت على ذلك المادة 3/3من تقنين العقوبات فقررت ما يلي: (( كما يطبق قانون العقوبات على الجرائم التي ترتكب في الخارج إذا كانت تدخل في اختصاص الحاكم الجزائية طبقا لأحكام القانون لقانون الإجراءات الجزائية)).
ويؤدي هذا الاستثناء من مبدأ إقليمية تقنين العقوبات إلى تطبيق هذا التقنين تطبيقا شخصيا تارة، وعلى تطبيقه تطبيقا عينيا، وذلك كما يلي:
1/- التطبيق الشخصي لقانون العقوبات:
يقصد به سريان أحكام تقنين العقوبات على كل من يحمل جنسية الدولة التي ارتكب جريمته خارج إقليمها ويتحقق ذلك في عدة حالات.
ففي الحالة الأولى: إذا ارتكب مواطن جزائري فلا يعتبر جريمة طبقا لتقنين العقوبات للبلد الذي قام فيه بالفعل. وطبقا لتقنين العقوبات الجزائري، فإذا عاد الفاعل إلى دولته هربا من العقاب ولم يطبق عليه أحكام تقنين العقوبات منجاة له من العقاب لعدم إمكان تطبيق أحكام هذا التقنين عليه أخذا بمبدأ الإقليمية.
أما الحالة الثانية: تتعلق بالجرائم التي يرتكبها رؤساء الدول الأجنبية وأعضاء السلك الدبلوماسي الأجنبي، وذلك لما تقرره أحكام القانون الدولي العام لهؤلاء الأشخاص من حصانة قضائية تجعلهم لا يخضعون لولاية القضاء الوطني. ولا يسري عليهم بالتالي قانون الدولة التي يزاولون فيها نشاطهم بل إن قانون الدولة التي ينتمون إليها هو الذي يسري في حقهم.
2/- التطبيق العيني لتقنين العقوبات:
عن الاستثناء من مبدأ إقليمية تقنين العقوبات لا يؤدي فقط إلى تطبيقه تطبيقا شخصيا، بل يؤدي إلى تطبيقه تطبيقا عينيا. ويقصد به سريان أحكام تقنين العقوبات على كل من يرتكب في الخارج جريمة تخل بأمن الدولة أو تمس بالثقة في عملتها النقدية عن طريق تزييفها، أو تخل بالثقة في أوراقها الرسمية عن طريق تزويرها.
وهذا بغض النظر جنسية مقترف الجريمة، ففي هذه الحالة لسنا بصدد تطبيق هذا التقنين تطبيقا إقليميا لأن المجرم لم يرتكب جريمته في الإقليم الجزائري، ولسنا بصدد تطبيقه تطبيقا شخصيا لأن المجرم قد يكون أجنبيا، بل نحن بصدد التطبيق العيني له، الذي ينظر فيه إلى مساس الجريمة بكيان الدولة. ولا يهتم بجنسية مرتكبها مادام اقترف فعله في الخارج، كما أن المتهم لا يحاكم على تلك الجرائم.
خـاتـمـة:
من خلال المبدأين الذين تم دراستها والتطرق إليهما خلال بحثنا هذا (المكان – الأشخاص)، نستخلص أن تطبيق القانون يعتمد على الأثر الرجعي والأثر الفوري للانتقال من القانون القديم إلى القانون الجديد لتفادي التصادم بين الأحكام و المراكز القانونية في إطار إقليمية القوانين وشخصيتها، مع الأخذ بعين الاعتبار الأشخاص والاستثناءات عموما