رحمة النـــّبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم بغير المسلمين
اهتز وجدان المسلمين في بقاع العالم بسبب ما أحدثه الفيلم المسيء للرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وما أثاره لحفيظة المسلمين، الّذين عُرفوا عبر التاريخ باحترامهم الشّديد لجميع أنبياء الله عليهم السّلام، حيث يعتبرون ذلك من أسس الدِّين الإسلامي، بل ركنًا ركينا لا يستقيم إيمان المسلم إلاّ به، لقول الله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} البقرة:285.
فإذا كان المرء يتعجّب من سِعة رحمة رسول الإنسانية محمّد، صلّى الله عليه وسلّم، بالمسلمين، فإنّه سينبهر برحمته بغير المسلمين! وإنّه لعجبٌ أن يرحَم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أولئك الّذين رفضوا عقيدته واعتنقوا غيرها، وأولئك الّذين لم يعترفوا بنبوته أصلاً! بل إنه لأعجب من ذلك أن تر سيّد الخلق يرحم ويَبَرُّ ويعطف ويحنو على أولئك الّذين عذبوه وعذّبوا أصحابه.
فلماذا هذا الحقد الدفين تجاه سيّد الخلق صلّى الله عليه وسلّم؟ ولماذا هذه العداوة المتأصلة في نفوس بعض الغربيين، الّذين يتلذّذون بإلهاب مشاعر المسلمين عن طريق سبّ نبيّهم، ورميه بأنواع الاتهامات الظالمة، والأوصاف القبيحة، وتشويه صورته برسومات شائنة، وأفلام مشينة؟ وهل بدأهم صلّى الله عليه وسلّم بالعداوة وناصبهم الكراهية؟!
ونبي يبغي الخير لأبناء اليهود والنّصارى، ويرغب في إعتاقهم من النّار، ويبيح زيارتهم، وتعزيتهم، وحسن جوارهم، يقابَل بهذه الإساءة المهينة؟
فإن كانت لهم قلوب يفقهون بها، وآذان يسمعون بها، وعقول يدركون بها، فليقفوا عند هذه المحطات التاريخية المشرقة، الّتي لم تكن استثناء، وإنّما كانت خُلُقًا متأصّلاً في ديننا، لا يتغيّر ولا يُبلى: ألم يعتدِ أهل الطائف (وهم كفار مشركون) على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسخّروا أطفالهم لسبّه وشتمه، ورميه بالحجارة حتّى أدموا قدميه الشّريفتين، وكان أشدّ يوم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد يوم أحد. فلمّا خيّره مَلَكُ الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين، قال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ''بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا''، متفق عليه.
ألم يمرض غلام يهودي كان يخدم النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، فعاده النبي، صلّى الله عليه وسلّم، فقعد عند رأسه، فقال له: ''أسْلِم''، فنظر الغلام إلى أبيه وهو عنده، فقال له أبوه: ''أطِع أبا القاسم''، فأسْلَم، فخرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: ''الحمد لله الّذي أنقذه من النّار''، رواه البخاري.
أمَا علموا أنّ الرّسول، صلّى الله عليه وسلّم، أمر بحُسن معاملة المعاهَدين والذميين، وجعل لهم حقوقًا تحفظ أشخاصهم، وأهلهم، وأموالهم، ونهى عن ازدرائهم واستنقاصهم، حتّى قال صلّى الله عليه وسلّم: ''أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ''، رواه أبي داود.
ومن عجيب ما خلّده لنا التاريخ، ممّا ورثته أجيال العلماء والأمراء والحكام، من أخلاق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ما رواه أبو عبيد في كتاب الأموال، أنّ الوليد بن عبد الملك لمّا أخذ كنيسة يوحنا من النّصارى قهرًا، وأدخلها في المسجد، اعتبر المسلمون ذلك من الغصب، فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، شكا إليه النصارى ذلك، فكتب إلى عامله يأمره بردّ ما زاد في المسجد عليهم. كلّ هذا حدا بعقلاء المفكرين الغربيين أن يعترفوا بعظمة هذا الدِّين، وعظمة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم. يقول المستشرق دوزي في كتابه ''نظرات في تاريخ الإسلام'': ''إنّ تسامح ومعاملة المسلمين الطيّبةَ لأهل الذمّة أديا إلى إقبالهم على الإسلام، وأنّهم رأوا فيه اليسر والبساطة ممّا لم يألفوه في دياناتهم السابقة''.
والإسلام هو الدِّين الوحيد الّذي وسعت سماحته غير المسلمين، فعاش أهل الكتاب في ظلّه سالمين آمنين. ولا نملك إلاّ أن نهتف بقول الله عزّ وجلّ: {وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين}.