الخلاصة في النحو *** دروس السنة الثانية ***
المبتدأ والخبر - شرح ألفية ابن مالك
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا شرح لباب من أبواب ألفية ابن مالك، التي نظمها في النحو، وكان هناك الكثير ممن شرحها؛ كأمثال ابن عقيل وابن هشام، والباب الذي سنتناوله اليوم هو باب المبتدأ والخبر، وندع المقدمات الطويلة إلى ما فيه الفائدة.
يقول ابن مالك -رحمه الله- في ألفيته:
مبتدأ زيدُ، وعاذرٌ خبرْ ....... أن قلت "زيدٌ عاذرٌ من اعتذرْ"
وأولٌ مبتدأ والثاني ............ فاعلٌ اغنى في "أسارٍ ذانِ"
وقس، وكاستفهامٍ النفي، وقدْ ... يجوز نحو "فائزٌ أولو الرشدْ"
1. المبتدأ: حقيقته وعامله:
المبتدأ على قسمين: مبتدأ له خبر، ومبتدأ له فاعل سدّ مسدّ الخبر.
فما له خبر كقولك: "زيدٌ عاذر من اعتذر"، وما له فاعل سدّ مسدّ الخبر كقولك:" أسارٍ ذانِ"، رأيت هنا أن أبدأ بأمثلة المؤلف، وإن لم تكن أكثر الأمثلة وضوحا.
لا شك أننا عندما نتحدث عن المبتدأ والخبر، فإن أول ما يخطر في بالنا "الولدُ طويلٌ" و " البنتُ نشيطةٌ" كما تعلمنا في الابتدائية، فيقول البعض: "أين ما تعلمنا من أمثلة الناظم؟"، فأقول أن هناك بعض الملاحظات التي سأذكرها هنا تجمع لنا بين ما نعلم وما نريد أن نتعلم.
وأول ملاحظاتي هي أن الاسم في اللغة قد يكون عاملا في غيره أو لا يكون عاملا، وأقرب مثال على ذلك اسم الفاعل، فهو مما يعمل في غيره، فنقول في الجملة المعتادة: "إني سأفعلُ الشيءَ غداً"، وليس هناك بأس من أن تقول: " إني فاعلٌ الشيءَ غداً"، تقول: "ما الفرق بين الجملتين؟"، فأقول: " إن الأولى فيها فعل عَمِلَ في فاعله ومفعوله، أما الثانية، فإن فيها اسما (اسم فاعل وهو فاعلٌ) وقد عمل أيضا في فاعله ومفعوله". الخلاصة أن هناك أسماء تعمل عمل الفعل ومنها اسم الفاعل.
الآن نطبق الملاحظة أعلاه على المبتدأ والخبر، فنقول أن المبتدأ إما أن يكون اسما عاملا أو غير عامل، وكذلك الخبر يكون اسما عاملا أو غير عامل، فإذا كان الخبر عاملا، كقولك: " الرجلُ رافعٌ رأسَهُ"، فإن (الرجل) مبتدأ، و(رافعٌ) خبره.
أما إذا كان المبتدأ عاملا كقولك: " أراجعٌ أنت؟"، فإن (راجع) تكون المبتدأ، و(أنت) تكون فاعلا لاسم الفاعل (راجع)، وتكون قد سدّت مسدّ الخبر، هل اتضح الامر؟
نعود إلى مثال ابن مالك رحمه الله فنرى أن النوع الاول الذي هو مبتدأ له خبر فقال: " زيدٌ عاذرٌ من اعتذر" وهو شبيه بمثالنا (الرجل رافع رأسه)، ونجد أن ابن مالك ترك المثال البديهي وهو أن يكون المبتدأ والخبر غير عاملين، كقولك: " البيتُ كبيرٌ"، وذلك لأنه ذكر المثال الخاص –الذي فيه الخبر عامل- وهذا يجزئ عن المثال العام.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله المثال الثاني؛ وهو أن يكون الخبر عاملا، فقال: "أسارٍ ذانِ؟"، فالهمزة للاستفهام كالتي في قولنا: "أراجعٌ أنت؟"، ثم (سارٍ) هي اسم الفاعل من سرى، وهي عاملة فيما بعدها، وذان اسم إشارة للمثنى، حذفت منه هاء التنبيه وأصلها (هذان)، فهل تبين الآن أن (أسارٍ ذان؟) هي نفسها (أراجعٌ أنت؟).
ويجدر بالذكر أن نقول هنا – وهو ما قاله المؤلف في البيت الثالث- أن كون المبتدأ عاملا لا يصح إلا في الاستفهام –كما سبق-، وفي النفي، كقولك: "ليس قائمٌ الزيدانِ"، وقولك: " غيرُ قائمٍ الزيدان"، وذهب الاخفش والكوفيين إلى جواز ذلك في غير النفي والاستفهام، كأن تقول: "قائم الزيدان".
وقد استشهد الكوفيون بقول الشاعر:
فخيرٌ نحنُ عندَ الناسِ منكمْ
............. إذا الداعي المثوّب قال: يا لا
يقول ابن مالك -رحمه الله- في ألفيته:
والثانِ مبتداً، وذا الوصفُ خبرْ..... إن في سوى الإفراد طبقا استقرْ
الشرح:
للعامل (الوصف) مع الفاعل حالتان؛ إما أن يتطابقا في الإفراد أو التثنية أو الجمع، أو لا يتطابقا.
فإن تطابقا:
1. إفراداً؛ نحو "أراجع أنت؟"، جاز فيه وجهان؛ الأول: أن يكون العامل (الوصف) مبتدأ، وما بعده فاعل سد مسد الخبر، والثاني: أن يكون ما بعده مبتدأ مؤخرا، ويكون الوصف خبرا مقدما.
مثال ذلك قوله –تعالى-: "أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم" (سورة مريم:46) فيجوز أن يكون "أراغب" مبتدأ، و"أنت" فاعل سد مسد الخبر، ويحتمل أن يكون "أنت" مبتدأ مؤخرا، و"أراغب" خبرا مقدما، ولكن الأول أولى حيث أن قوله -تعالى-: "عن آلهتي" معمول لـ "راغب" ولا يلزم الفصل بين العامل والمعمول.
2. تثنية؛ نحو "أقائمان الزيدان؟"، أو جمعا؛ نحو "أقائمون الزيدون؟" وهذا قصد المؤلف حين قال: "إن في سوى الإفراد طبقا استقر"، وعندها يتقدم الخبر على المبتدأ.
فإن لم يتطابقا ففيه قسمان؛ ممنوع وجائز، أما الممنوع فهو نحو "أقائمان زيد؟" أو "أقائمون زيد؟"، وأما الجائز فهو نحو "أقائم الزيدان؟" و "أقائم الزيدون؟"، وعندها يكون الوصف (العامل) مبتدأ، وما بعده فاعل سد مسد الخبر.
كما قلنا سابقا فإن العامل (الوصف) لا يكون مبتدأ إلا في الاستفهام والنفي، نحو "أقائم الزيدان؟" و "غير قائم الزيدان"، وذكرنا أن ابن مالك أشار إلى الجواز في قوله: "يجوز نحو فائزٌ أولو الرشد"، وبهذا فقد نقل رأي الأخفش والكوفيين الذين استشهدوا بالبيت التالي:
خبيرٌ بنو لِهبٍ فلا تكُ ملغيا ... مقالة لهبيٍ إذا الطير مرتِ
وهنا يبدو لنا أن العامل (خبير) قد أتي خبرا، ولولا أنه كان عاملا لكان لزاما علينا أن نقول (خبيرون بنو لهب)، وهذا شاهدهم على الجواز الذي نقله ابن عقيل.
إلا أن ابن هشام أنكر هذا الشاهد بقوله أن خبير هنا ليست عاملا، ولكنها مصدر على وزن فعيل، والمصدر ليس عاملا فلا يجمع في مثل هذا الموقع.
وأتى ابن هشام بشاهد على مثل هذا؛ أي أن يكون المصدر خبرا، قوله تعالى: "والملائكة بعد ذلك ظهير"، فلو كان اسم فاعل أو ما سد مسده (أي صيغة مبالغة) لكانت (ظهير) جمعا؛ أي الملائكة ظهيرون.
وهذا ما استشهد به ابن هشام ، أما إعراب الآية فهو كالتالي؛ (الملائكة) مبتدأ، و(بعد) ظرف زمان وهو مضاف، (ذلك) مضاف إليه، والمضاف والمضاف إليه متعلقان بـ(الملائكة)، و(ظهير) خبر الملائكة.
ثم قال ابن مالك:
ورفعوا مبتدأ بالابتدا .... كذاك رفع خبرٍ بالمبتدا
الشرح:
ذكر المؤلف أن سبب رفع المبتدأ هو الابتداء، وهذا عامل معنوي.
ويرفع الخبر بالمبتدأ، فالعامل هنا لفظي.
وقيل: المبتدأ والخبر مرفوعان بالابتداء، وقيل: المبتدأ والخبر ترافعا؛ أي رفع كل منهما الآخر، والخلاف مما لا ظائل فيه.