مظاهر الغزو في الأدب العربي ....
مظاهر الغزو في أدبنا الحديث
1 – موقفنا من الأخلاق:
وأول مظهر من مظاهر الغزو في أدبنا اليوم أننا فقدنا اللمسة الأخلاقية فيما نكتب، فمن سمات الفكر العربي الحق أنه فكر أخلاقي، يدعو إلى ارتفاع العقل الانساني إلى مراتب الخير والكمال. وحسبنا من ذلك أن كلمة (أدب) عند العرب كانت ترتبط بأدب النفس كل الارتباط، فالأديب هو الذي يروي من الشعر والنثر ما يرتفع بالروح ويسمو بالخلق. وقد بقي الشعر العربي، قبل اختلاط العرب بالأعاجم، صورة تنطق بالفضيلة والمروءة وكمال النفس، وقد قال أحد الخلفاء الأمويين لمعلم أولاده (علمهم الشعر يمجدوا، وينجدوا) لأن الشعر كان صورة النفس الماجدة ذات المروءة والخير. وقد ثبت هذا المعنى في عصورنا كلها. فبقي الأدب من شعر ونثر يعرض أروع الصور في السلوك والمعاملات كما يحفل بنماذج صافية من الأخلاق الجنسية. وبحسبنا أن نتذكر العشرات من دواوين الحماسة والشعر، ومجموعات الخطب والرسائل وأقاصيص النجدة والمروءة وكتب الإرشاد الأخلاقي. وقد ترك المتصوفة وحدهم تراثاً أخلاقياً عظيماً كله نبل وإنسانية. وحسبنا على سبيل المثال أن نشير إلى كتاب (الفتوحات المكية) لمحيي الدين بن عربي فقد وردت في الجزء الرابع منه مئات الصفحات في الأخلاق فيها من الخلق الكريم ما لا حدود لجماله وكماله. على أننا لا نحتاج أن نذهب بعيداً في التمثيل فإن كتابنا الكريم (القرآن) يعرض من صور الأخلاق ما يكفي للإفصاح عن روحية العرب. ومثله في الحديث النبوي وأخبار الصحابة وأدعية السجاد الإمام زين العابدين، وأمثالهم، ومؤلفات أدبية لا حصر لها في أدب النفس ومعاني الأخلاق. وقد تمثلت هذه القيم عملياً في قصصنا الشعبي عن سيف بن ذي يزن وعنترة العبسي وأبي زيد الهلالي وأمثالهم من قصص المروءة والبطولة.
ولم تفقد كلمة (أدب) مدلولها الأخلاقي إلا في عصرنا، فنحن اليوم نكاد نصدر في ما نكتب عن المفهوم الغربي للكلمة حيث تعني كلمة أدب Literature المعلومات والعلم، ولا تتصل بالأخلاق. ويرجع فصل الغربيين بين الأدب والأخلاق إلى عهود قديمة فنحن نجد في مذهب أرسطو الذي أدرجه في كتابه عن الشعر Poetics إن جمال الأدب لا يستند إلى الأخلاق، وإنما هو معنى منعزل لا شأن له بأية قيمة خارجية، ومن السائغ عند أرسطو أن يكون الأدب جميلاً كل الجمال حتى وهو غير أخلاقي، فلا دخل للمبادئ والمثل في الأدب.
وقد سيطر هذا المذهب على الفكر الأوربي فبقي يتحدر من صفحة إلى صفحة عبر تاريخ الأدب والنقد، وممن اسنده وأضاف إليه الناقد الألماني (ليسنغ) في كتابه المعروف Laocoon ولسنا ننكر أن طائفة صغيرة من مفكري الغرب قد رفضوا هذا المذهب ودعوا إلى ما يقرب من المفهوم العربي، ومن هؤلاء الشاعر الروماني هوراس، والناقد الانكليزي (فيليب سيدني)، والشاعر الألماني (فريدريك شيلر) إلا أن هذه الأصوات تاهت في خضم الفكر المادي فلم تؤثر تأثيراً محسوساً، وبقيت الصورة الثابتة لآداب الغرب منفصلة عن الأخلاق حتى قال الفيلسوف المعاصر (بنديتو كروتشه) نصاً: (لا شأن للأخلاق في الأدب) وهذا الحكم يعبر أفصح تعبير عن تيار التبذل والتحلل في أدب أوربا اليوم. وتمتد جذور هذا التيار إلى القرن التاسع عشر، وقد بالغ في الدعوة إليه أنصار المذهب الطبيعي، الذين جعلوا واجب الأديب أن يصف كل ما يقع للإنسان دونما اعتبار لقيم الأخلاق ومصلحة المجتمع. وحسبنا للتمثيل أن نشير إلى قصة (أميل زولا) المعنونة (غرمينا) فقد هبط إلى أدنى مستويات الروح والخلق، فوصف عالماً موبوءاً تلعب به الغرائز الحيوانية على شكل يلغي الحضارة ويرد الإنسانية إلى عهود الوحشية والبربرية. وما من شيء يبدو لنا أشد إيلاماً من هذا، فإن (زولا) يرتفع في القصة نفسها إلى آفاق عالية من الفن والإبداع، فكأنه يضع فنه وإنسانيته في خدمة التفسخ، ويساهم في قتل الحضارة.
ولقد اقتبس أدباؤنا العرب هذه النظرة إلى الأدب في اتجاهيها.. السلوكي والجنسي حتى أصبح أدبنا يضم أشنع النماذج في الإنسانية والخلق. فالقصاصون المحدثون يصورون في قصصهم أشخاصاً يعاملون آباءهم في قسوة وخشونة واحتقار، ويرسمون أبطالاً يتطاولون على أساتذتهم. وكم في القصائد والقصص من بذاءة وتبذل في اللغة، وقد أصبح نموذج البطل أن يجعله المؤلف كثير السب واللعن، ضيق الصدر، ضعيف الخلق، لا يترفع عن شيء. وشاعت صورة البطل المثقف الذي يبصق في الطريق ولا يعترف بأية قيمة للأشياء والأشخاص. وكل هذا مناقش لأدب النفس العربية الذي عرفه تراثنا. وإنما هو موقف منقول من الغرب، فذلك ما نجد في القصص الحديثة هناك وفي المذكرات والرسائل، فكان من علامات الثقافة الجديدة هناك أن يكون الإنسان متبذلاً قاسياً مغروراً لا يتورع عن شيء.
أما النظرة الجنسية في أدبنا الحديث فنلمسها في ذلك الركام الهائل مما كان قبل يسمى بالأدب المكشوف فأصبح اليوم لا يسمى حتى بذلك، لأن أدب الجنس أصبح يعتبر مظهراً من مظاهر الواقعية والتحرر الفكري والثقافة الحديثة. فما يكاد الناشئ يكتب حتى يصطنع الغرق في الرذائل والاستهتار بالقيم. ولا نهاية اليوم للكتب والمجلات التي تقذف بها المطابع ويصور فيها الإنسان العربي وكأنه قد تحول إلى حيوان أعجم لا يرتفع إلى أعلى الجسد والحواس. وقد قرأنا في دواوين الشعر التي صدرت هذه الأعوام عجباً عجاباً من الاسفاف والجموح، حتى أصبحت هذه ظاهرة أكيدة تطبع الإنتاج الجديد. ومن عجب أن الحكومات العربية ما زالت غافلة عن هذه الظاهرة، فلا نراها تتخذ إجراءاً بإزائها، لا في حقل النشر ولا في حقل التعليم والتوجيه. والواقع أن وراء هذه الظاهرة ثلاثة معان كلها خطير ينذر بالشر: أ – المعنى الأول أن هذا الأدب المتحلل الذي يهدم الأخلاق والمجتمع، يتعارض مع الدعوة القومية التي يعيش لها المجتمع العربي اليوم. فالقومية بناء وحياة، بينما أدب الجنس هدم وانتحار. تهدف القومية إلى بعث الأمة العربية بقدراتها الأصيلة وماضيها الحضاري الوهاج، بينما يهدف أدب الجنس إلى هدم الأخلاق والعقائد والقيم ومن ثم إلى هدم المجتمع. قال ابن خلدون في مقدمته: "إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل، وسلوك طرقها، فتفقد الفضائل منهم جملة ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم".
واستشهد بالآية الكريمة: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرها" والحق أن من يتأمل هذا الأدب الجديد تأملاً نزيهاً ينتهي إلى الشعور بأننا نعمل للقومية العربية بينما نترك أدبنا يعمل ضدها..
ب – المعنى الثاني: أن هذا الأدب لا يعبر تعبيراً سليماً عن البيئة العربية المعاصرة، وذلك لأن الفرد العربي المتوسط ما زال يعد قضية الشرف فوق كل القضايا. والمثل الأعلى في حياتنا الشعبية وفي حياة الأسرة العربية، هو مثل العفة والاحتشام وأدب اللسان. وإذن فإن هؤلاء الأدباء الناشئين قد انبتوا عن بيئتنا وباتت مراياهم تعكس أشباحاً وظلالاً من خارج الوطن العربي..
ج – والمعنى الثالث: أن هذا الأدب ليس أدباً صحياً سليماً. لأن تضخيم أثر الجنس في الحياة ينم عن إنحراف في الطبيعة الإنسانية، والإنسان السليم مزيج متوازن من العقل والروح والعاطفة والغريزة، لا يطغى فيه جانب على جانب. ومن كمال المجتمع أن تكون أغلبية أفراده من المتزنين الذين يعطون كل جانب من طبيعتهم حقه ولا نظنه يخفى أن الاستغراق في حماة الحواس ينتهي إلى زوال الكرامة وضعف الإرادة واختلاط الذهن. ومن ثم فإن طغيان المعاني الحسية على أدبنا ليس أقل من مظهر يدل على عدم التوازن وينذر بتصدع خطير في حياتنا العامة.
2 – موقفنا من الدين:
كان لإقبالنا الشديد على قراءة آداب الغرب ونقلها إلى لغتنا أثر سيء في حياتنا العقلية الحديثة، ما لبث أن أصابها بالانحراف، فلقد أخذنا عنهم فيما أخذنا موقفهم من الدين، والتقطنا نظرتهم المادية إلى الحياة، وموقفهم من الدين يختلف إختلافاً جسيماً عن موقفنا نحن – فإن الدين الإسلامي يرتبط كل الارتباط بالفكر، وقد قامت حول القرآن أركان اللغة والأدب والفقه والمنطق والتصوف والفلسفة جميعاً بحيث تعد هذه العلوم كلها تفريعات لعلم القرآن ترتكز إليه وتدور حوله. لا بل أن طلب العلم ونشره قد بقي هو نفسه واجباً دينياً مفروضاً يؤديه الطالب والعالم قربى إلى الله. ومن ذلك أن النحوي العلامة ابن مالك كان يخرج ويقف على باب مدرسته ويقول (هل من راغب في علم الحديث أو التفسير؟ قد أخلصتها من ذمتي)، فإن لم يجد راغباً أو طالباً قال (خرجت من آفة الكتمان) وتفسير ذلك أن العربي كان يعتقد أن الله حقاً (فيما استودع العلماء من فهم وعلم وأنه أخذ عليهم البيان) ((صورة معدلة من عبارة لعبدالعزيز بن يحيى الكناني (الحيدة) تحقيق جميل صليبا)) فلا يصح لهم السكوت عن نشر العلم وإظهار الحق وتعرية الباطل.
أما في أوروبا فإن الدين يتصف بشيء من الانعزال عن الحياة فلا يرتبط بالأدب والفكر إلا من بعيد، فالغربي يعد الدين لله، والأدب للحياة، وكأن الحياة نفسها ليست لله، كما يعتقد العربي. ولذلك الموقف سببان إثنان:
(الأول):
أن المسيحية بتقريرها لقيام الخطيئة الأولى وبدعوتها إلى التكفير بالرهبنة والامتناع عن الزواج، قد احتفظت بنظرية مثالية لها جمالها غير أنها عسيرة التطبيق. ولذلك بعد الدين عن الحياة بعداً طبيعياً وهو أمر لم يعرفه المجتمع المسلم حيث الدين يجعل الزواج سنة مفروضة.
(الثاني):
أن المسيحية التي نزلت في بلاد العرب قد فشلت في تحويل الغربي تحويلاً كاملاً عن وثنية آبائه، فبقي ثنائي المعتقد، يصلي لله ويؤمن رغماً عنه بآلهة الإغريق، حتى أنه يقسم في حياته اليومية بجو بتير كبير آلهة الإغريق، وهو يذهب يوم الأحد إلى الكنيسة للصلاة، ولا يلبث أن يرجع إلى منزله ليقرأ الفلسفات اليونانية ويكتب أدباً طابعه وثني تتردد فيه أسماء الآلهة الشريرة التي كان يعبدها اليونان والرومان. وإنما نصف هذه الآلهة بأنها شريرة لأنها كما قرر سقراط نفسه لا تتورع عن ارتكاب الشر والجريمة والصغائر. فهي كالبشر وإنما تتفوق في القدرة على الإيذاء والظلم. وبسبب هذه الوثنية الغربية بقي المسيحيون العرب أوثق صلة بالمسيحية الحقة من مسيحيي الغرب.
ولقد دعا الغزاة وأعوانهم عبر السنين الماضية إلى أن نحتضن الثقافة الغربية بكل ما فيها دونما تدبر أو مناقشة، فكان مما أخذناه عنهم هذا الفصل العجيب بين الدين والحياة. وقد كان لذلك تأثير سيء في حياتنا وفكرنا، لأن الدين الإسلامي يكاد يكون هو الحياة نفسها، فلا نستطيع انتزاع أحدهما إلا بإنتزاع الآخر، فقد كان الإسلام ديناً إلهياً، وثورة سياسية وفكرية واجتماعية معاً. ولذلك اهتزت له الأرض العربية اهتزازاً خصباً، وأحدث انقلاباً عميقاً في مناحي الحياة معاً.
ولم يترك الإسلام في حياة العربي شاردة ولا واردة إلا ضبطها وأحصاها، وقد كان القرآن كتاباً شاملاً فيه اللغة والأدب والشريعة والأخلاق جميعاً، فبني عليه تراثنا كله. فإذا فصلنا الدين عن الحياة لم يكن معنى ذلك إلا أن نفصل العروبة عن تراثها وحضارتها. ونحب أن نضيف إلى هذا، أن القرآن – باعتباره كتاب الدين الإسلامي والثقافة معاً – سيبقى أبداً كتاب كل عربي مهما كان دينه. فالمسيحي العربي الحضارة، لا يستطيع أن ينزع من نفسه وذهنه آثار القرآن، لأن التراث الإسلامي قد كان وما زال الثقافة الكبرى للعربي. وها نحن نرى إخواننا المسيحيين يحققون غير قليل من كتب التراث الإسلامي في إخلاص يثبت ما نقول أجمل إثبات.
ولقد اتخذ الأدب الجديد الذي ينشره اليافعون العرب موقف الغربيين من الدين، فظهرت عندنا الوثنية مصحوبة بالإلحاد في أدنى مستوياته، وهو مستوى الكفر بدافع التقليد والنقل، فلا شك في أن هذا الإلحاد أوطأ مرتبة من إلحاد مصدره شك يعتري النفس فيضللها ويحيرها. وقد واكب هذا ابتعاد الجيل اليافع عن القرآن وما فيه من أجواء روحية وكنوز أخلاقية وثروة لغوية وأدبية. وكل ذلك لا يبشر بالخير فإذا مضينا فيه قطعنا جذورها الحضارية وأضعنا الروح العربي جملة.
3 – موقفنا من اللغة العربية:
كانت وسيلة الغزاة العظمى في أضعاف لغتناء في الترجمة. والترجمة في ذاتها اغناء للغات ومد لآفاقها، فهي حق لنا وضرورة نتمسك بها. غير
أن الأشياء النافعة في الحياة الإنسانية يمكن أن تتحول بسوء النية إلى شرر وضرر. ولذلك حرصت بعض المؤسسات المشبوهة والجماعات المغرضة على أن تعهد بترجمة أمهات الكتب الغربية إلى كتاب ضعاف غير متمكنين من العربية، فصاغوا تلك الكتب العظيمة صياغة حرفية ركيكة، كان لها أثران سيئان في حياتنا الفكرية: (الأول) أن كثرة قراءة هذه الترجمات قد نجحت في تحويل الركاكة إلى مذهب في التعبير، فأدى
ذلك إلى أضعاف المستوى العام للغة و(الثاني) أن هذه الترجمة الركيكة حرمتنا فرصة تكتسب فيها لغتنا تعبيرات عربية جديدة لها الفصاحة
والجدة معاً. لأن الكتاب المترجم إذا صيغ بعربية سليمة لها خصائص لغتنا أفاد اللغة وأغناها، أما إذا ترجم حرفياً فإنه يخسرنا كما نخسره.
والمثل الذي نختاره للترجمة الركيكة وما تصنع هو ترجمة الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد فقد ترجم هذا الكتاب (الجليل) الذي يقدسه المسلم
والمسيحي معاً!! ترجمة ركيكة لا يقبلها الذوق السليم فأثرت في إضعاف الذوق الأدبي العام وأشاعت فينا العجمة، وإخواننا المسيحيون العرب ذوو حظ كبير من البلاغة العربية وقد نبغ منهم كتاب كبار وباحثون وشعراء اغنوا مكتبتنا فلا يصح لهم السكوت على مثل هذه الترجمة التي تشوه كتابهم ولغتهم معاً وتحرمنا قراءة سيرة السيد المسيح والتمتع بما لها من روحية وجمال.
وقد انحطت لغة الترجمات واقتربت من الحرفية عاماً بعد عام، حتى درجت اليوم منها لغة ركيكة قواعدها وأساليبها غير عربية. وسوف ندرج فيما يلي مظاهر العجمة العامة في هذه اللغة.
1 - كثرة الاصطلاحات الأجنبية التي يصر المترجمون على ابقاء صيغتها الغربية مثل قولهم (فولكور وايديولوجية واكاديمية وكلاسيك، ومتافيزيكية وبيروقراطية وتكتيك، وليبرالية، وامبريالية وأمثال ذلك كثير).
2 - استعمال قواعد النحو اللاتيني مع أنها في مقاييسنا النحوية تعد غلطاً، مثل تعدد المضافات إلى مضاف إليه واحد وهو ما يسمى عندنا بلغة
(قطع الله يد ورجل من قالها): ومثل الفصل بين المضاف والمضاف إليه بكلمات أجنبية، وهو ركيك مستحيل في لغتنا، لأن المتضايفين ينزلان
منزلة الإسم الواحد. ومن هذه الأساليب السقيمة تقديم الحال على عامله كقولهم (محملا يعود سيدي) ومنها تتابع الإضافات كقولهم (تقرير رئيس لجنة مكافحة أمراض المنطقة الحارة) وكل هذه الأساليب الغربية تصدم السمع العربي صدماً أكيداً.
3 - استعمال أساليب بناء العبارة اللاتينية وهي تخالف أساليبنا مخالفة مرجعها إلى الفروق بين
طبيعة اللغات. ومن ذلك تأخير الفعل في الجملة فلا يرد إلا بعد أن يتقدم عليه سطران كاملان من الظروف والمجرورات والمعطوفات كقولهم
(بعناية شديدة واهتمام، ومن دون أن يتحدثوا في ذلك الموضوع مباشرة، أو يثيروه على نطاق عام، وبعد أن فرغوا من دراسة التقرير، اشتغلوا في توزيع الملابس على سكان الحي). وهذا مخالف لما تعرف لغتنا، حيث يتقدم الفعل على معمولاته، لأنه أشرف ما في العبارة، ولا يتقدم المعمول إلا في حدود الفصاحة في مجالات بلاغية محدودة.
4 - استعمال وسائل البلاغة اللاتينية بدلاً من العربية كقولهم (انسحب بانتظام، والسوق السوداء، والحرب الباردة، ومؤتمر القمة) حتى نكاد ننسى أن لنا تلك الكنوز من وسائل البلاغة ولسنا بهذا نحاول أن نغلق لغتنا بإزاء استعارة جميلة قد تنفعنا ترجمتها، وإنما نريد التنبيه إلى موقفنا العام من ذلك فنحن اليوم نكاد نقف عن التفكير باللغة العربية فنترجم كل صيغهم دونما تدبر.
5 - تقليد العبارة الغربية الحديثة في تعقيدها وغموضها كما في كتب (هنري جميس) و(وولتر بيتر)،
وذلك بالإكثار من الجمل الاعتراضية، والفصل بين المبتدأ والخبر بكلمات كثيرة تربك القارئ. ومنه أيضاً استعمال العبارات الطويلة طولاً فادحاً.
وكل ذلك مما لا تسيغه بلاغتنا.
ولابد لنا بعد هذا الاستعراض أن نذكر بأن انكارنا للأساليب اللاتينية لا يعني أننا ننتقصها في لغاتها الأصلية، وإنما نعد تلك الأساليب بليغة في
اللاتينية ركيكة في العربية، لأن لكل لغة قواعدها وقيمها البلاغية. وما قواعد اللغات إلا مزيج من نفسية الأمم وتاريخها وحضارتها، وفكر الأمة
يرتبط بقواعد لغتها وأساليب بلاغتها كل الارتباط بحيث لا نملك أن نترجم لغات الغرب ترجمة حرفية إلا إذا قضينا أولاً على الفكر العربي. ومن الحق أن نشير كذلك إلى أن الترجمات الضعيفة في أسواقنا لا تصدر كلها عن سوء النية وإنما ضعف بعضها نتيجة الجهل باللغة والتراث.
وقد ابتليت العربية في هذا القرن بكثير من الدعوات المشبوهة التي نادى بها مغرضون يضمرون السوء للعروبة ولغتها، فرددها من العرب
طائفتان: طائفة الشعوبيين الذين يقصدون إضعاف العربية، وطائفة البسطاء الذين تخدعهم ألفاظ الحرية والتجديد، فيسيئون دونما قصد. فمن هذه
الدعوات، الدعوة إلى نبذ الحرف العربي واتخاذ اللاتيني في مكانه والدعوة إلى استعمال اللهجات العامية في الإذاعة وفي أدب القصة
والمسرح.. وقد تصدى لهذه الدعوات كثير من كتابنا الأفاضل فناقشوها وردوها إلى أصلها المشبوه المريب. وما من جهة تستفيد من إثارة هذه
القضايا مثل الغزاة، فهم يعلمون أنه إذا وقع الفصل بيننا وبين تراثنا انتهى الأمر بنا إلى أخطر تصدع عرفته الأمة.
يتبع /....