المحاضرة الأولى في النقد القديم** سنة ثانية
مقدّمة :
إنّ مادّةَ النّقد العربيّ القديم تُقسم إلى قسمين : قسمٌ نظريٌّ تقوم الدكتور (جهاد رضا ) بتدريسه , وهو يتحدّث عن تاريخ النّقد الأدبيّ عند العرب .
أمّا الدّكتور ( كبابة ) فسيتناول نصوصاً من النّقد العربيّ القديم , والغرض من ذلك أن نتعرّفَ على النّقد القديم من نصوصه التي كُتبَت , والتي تتمثّل بالنّقد العربيّ القديم , والنصوص النقديّة التي اختارها الدّكتور تعود إلى ما بعد القرن الثّاني , ومع بدايات القرن الثّالث الهجري , ولقد كان النّقد قبل هذه الفترة نقداً شفهيّاً , وهو عبارة عن نقدٍ جزئيٍّ تناثر في الكتب والمؤلّفات بمعنى أنّنا لسنا أمامَ عملٍ نقديٍّ متكامل .
ومن النّقاد الذين سنقوم بدراسة نصوصهم : ابن سلاّم الجمحي , الجاحظ , ابن حيّان التوحيديّ , عبد القاهر الجرجانيّ , علي بن عبد العزيز الجرجانيّ ( صاحب الوساطة ) .
بداية ً ونحن نتحدّث عن التحليل النّقدي لابدّ أن نشيرَ إلى أنّه يختلف عن التّحليل الأدبيّ , ونحن حتّى الآن لم نتناول نصّاً نقديّاً , فهذا أمرٌ جديد علينا , فكلّ ما درسناه في السّنوات السّابقة كان نصوصاً من الشّعر والأدب , أي في مجال التّحليل الأدبيّ .
إنّ النّقد يختلف عن الأدب , وكذلك النصّ النّقدي يختلف عن النّص الأدبيّ .
سؤال : ما هو النّص الأدبيّ ؟ وما هو النصّ النّقديّ ؟
النصّ الأدبيّ هو فعاليّة إبداعيّة يقوم بتشكيله الخيال من خلال تجربة الفعاليّة , إذاً فالنّص الأدبيّ ينطلق من الخيال والتجربة الانفعاليّة .
أمّا النّص النقديّ فهو يقدّم معرفةً , ويقوم على التّفسير والتّعليل والتّحليل لهذا التّشكيل من الأدب .
ولابدّ من الإشارة إلى أنّنا عندما نتناول نصّاً نقديّاً يجب أن ننطلق من النصّ نفسه , نفسّره ونحلّله ونعيد صياغته من جديد .
فالتّحليل النّقديّ أوّلاً وأخيراً يقوم على معايشة النصّ ذاته وإحيائه .
وفي أيّ نصٍّ نقديّ حتّى نتّبع طريقةً سليمةً في التّحليل يجب علينا أن نجيبَ على الأسئلة التّالية :
من ؟ متى وأين ؟ ماذا ؟ لماذا ؟ كيف ؟ هل ؟ من قال هذا النصّ ؟ من هو المبدع ؟ متى قيل هذا النصّ وأين ؟ لأنّ مناسبةَ قول النصّ تساعد على الدّخول في عالم النصّ .
ماذا قال المبدع ؟ أيضاً يدخل في عالم النصّ , لماذا قال ما قاله ؟ وما الذي دعاه لذلك ؟ كيف عبّر عن هذا الأمر ( التشكيل اللغوي والبيان والأسلوب ) ؟ وأخيراً هل نجح الكاتب فيما كتب ؟ هل نجح النّاقد فيما نقد ؟
إذاً هذه الأسئلة يجب أن نطرحها على أنفسنا عند تناول النصّ حتّى نكونَ أمامَ تحليلٍ نموذجيٍّ مفيدٍ .
ولابدّ من الإشارة إلى أنّ هناك عناصر للنصّ النقديّ يجب الانطلاق منها عند التحليل , أمّا ما هي هذه العناصر ؟
1. القضيّة .
2. المنهج .
3. اللغة النّاقدة .
القضيّة : القضيّة التي يدور حولهـا النصّ , وهي قضيّـة عامّة على سبيل المثال قضيّة ( السرقات الشعريّة ) , ثمّ ننتقل بعد ذلك إلى الأفكار الجزئيّة التي عرضها النصّ النقديّ , وكيف بنى هذه الأفكار ؟ وما طبيعة هذه المعالجة ؟
فلا بدّ من مناقشة هذه الأمور وإعادة صياغتها من جديد كوني ناقداً .
المنهج : ما هو المنهج الذي اتّبعه ؟ هل اعتمد على المنهج الوصفيّ أو التّفسيريّ أو التّأثيري ؟ هل قام على التّحليل والتّعليل والموازنة والمقارنة والتّنظير .
اللغة النّقديّة ( النّاقدة ) : ففي بعض الأحيان يعتمد النّاقد على لغة الحوار , أي يثير حواراً بينه وبين آخر , وهو أحد الأساليب التي يتّبعها النّقد لشدّ القارئ .
ما هي اللغة التي اعتمدها ؟ وما هي طبيعة هذه المصطلحات ؟ هل فسّر المصطلحات ؟ ما مصادر هذه المصطلحات ؟
أيضاً الشّاهد النّقدي : عندما يستشهد النّاقد على كلامه , لابدّ أن يشيرَ إلى الشّواهد التي استقاها , ما مصادر هذه الشّواهد ؟
في الإبداع الأدبيّ وفي كثيرٍ من الأحيان يقول الشّاعر قصيدةً مؤلّفةً من عشرات الأبيات ليقولَ كلمة واحدة , أي كلّ قصيدة قيلت لتبلّغنا عبارة , هذه العبارة هي المفتاح , وهنا يكمنُ دور النّاقد في ملاحظة هذه العبارة لتكونَ مفتاحه في تحليل النصّ وكشف جماليّاته .
وهناك أمور وأحكام يجب اتّباعها :
1. حضور المتلقّي : فالكلام موجّه , هل المتلقّي كان حاضراً أم غائباً أم وهميّاً ؟ وما دوره في توجيه النّقد ؟
هذا النّقد ابن بيئة يحمل طابع العصر , وما هي الأبعاد الفكريّة والدلاليّة لهذا العصر الذي عاشه النّاقد ؟ هل كان ناقد عصره وذاته أم كان صدًى للقدماء ؟
هل جاء بجديد ؟ وهل كانت آراؤه تحملُ نزعاتٍ تجديديّة ؟ كلّ هذه الأمور يجب أن نتناولها في النصّ النّقدي .
2. الذاتيّة والموضوعيّة : هل كانت أحكامه ذاتيّة أم قامت على أسسٍ موضوعيّة تعتمد التّعليل والتّحليل والتّفسير ؟ وهل كان النّاقد أصيلاً أم صدًى للآخرين القدماء ؟ وهل نجحت هذه العناصر في إسباغ الصّفة الأدبيّة على النصّ ؟
3. شخصيّة الكاتب أو الدّارس وطريقته في اعتماد هذا النصّ وحضور النصّ , فللنصّ حضوره في هذا المجال .
بعد هذه المقدّمة , النّاقد الأوّل الذي سنقف عنده اليوم هو ( ابن سلاّم الجُمَحيّ ) .
سؤال : من هو ابن سلاّم الجمحي ؟ ( 139 – 231 هـ )
1. هو أبو عبد الله محمّد بن سلاّم بن عبيد الله بن سالم الجمحي , وُلِدَ في البصرة سنة تسعٍ وثلاثينَ ومائة , وتوفي في بغداد سنة إحدى وثلاثين ومئتين أو اثنتين وثلاثين ومئتين .
2. من شيوخه : الأصمعيّ , وبشّار بن برد , والمفضّل الضبيّ , ومن روى عنه ثعلب والرياشيّ والمازنيّ .
3. كتابـه : طبقات فحول الشّعراء , في هذا الكتاب جمع أخبار فحول الشّعر في الجاهليّة والإسلام , مفهوم الفحولة أوّل من جاء به ابن سلاّم , ويعني بذلك تقديم شاعرٍ على آخر , وتقديم الشّاعر على غيره , يقوم على أسس هذا الكلام , وسندرسه بالتّفصيل مع الدّكتورة ( جهاد رضا ) .
4. تعدّ مقدّمة كتابه من أوّل ما دوِّنَ من نظرات نقديّة عند العرب , فهو خلاصة ما قيل في شعر الجاهليين والإسلاميّين حتّى عهده , جمع فيه الآراء المبعثرة التي قيلت في الشّعر والشّعراء , ولهذا كان أوّل من نظم البحث في النّقد .
5. كانت فكرة الفحولة مدار حديثٍ بين الأصمعيّ والسجستانيّ فطوّرها ابن سلاّم .
6. أهمّ الموضوعات التي تحدّث عنها في مقدّمته هي :
- تحرّي صحّة الشّعر المنقول , أي توثيق الشّعر ( فالشّعر فيه الكثير من الشّعر المنحول والموضوع ) , وتحقيق نصوصه .
- أسباب نحل الشّعر أو ضياعه .
- بواكير الشّعر العربيّ .
- علاقة الشّعر بالأخلاق .
- الشروط التي ينبغي توافرها في النّاقد وهي : الذّوق والدُرّبة والمِراس والمعرفة بصناعة الشّعر وثقافة اللسان .
ماذا يعني كلٌّ منها ؟
الذّوق : أي يمتلك النّاقد ذائقة نقديّة تقوم أساساً على قراءة الشّعر .
الدرّبة : أن يتدرّب على النّقد .
المِراس : أن يكون متمرّساً بصناعة الشّعر وعارفاً بالشّعر وأقوال الشّعراء .
فعلى النّاقد أن يُلِمَّ بكلّ هذه الأمور قبل أن يتصدّى لدراسة النّقد أو الشّعر .
7. من أهمّ مقاييس المفاضلة بين الشّعراء :
لماذا قدّم شاعراً على آخر ؟ وما هي المقاييس التي اعتمدها؟ للإجابة نقول : لقد اعتمد على ثلاثة مقاييسٍ وهي :
- كثرة شعر الشّاعر .
- تعدّد فنونه الشّعريّة .
- الجودة والإتقان في صنعته .
غير أنّه غلّب الكثرة على الجودة , وفضّل الإجادة في الأغراض الشّعريّة المختلفة على الإجادة في غرضٍ واحد .
وسنقوم بدراسة بعض النّصوص النّقديّة منها :
النصّ الأوّل :
(( وفي الشّعرِ المسموعِ مفتعلٌ موضوعٌ كثيرٌ لا خيرَ فيه , ولا حجةً في عربيّته , ولا أدبٌ يُستَفَادُ , ولا معنًى يُستَخرجُ , ولا مثلٌ يُضْرَبُ , ولا مديحٌ رائعٌ , ولا هجاءٌ مقذعٌ , ولا فخرٌ معجبٌ , ولا نسيبٌ مُستَطرَفٌ .
وقد تداولَه قومٌ من كتابٍ إلى كتابٍ , لم يأخذوه عن أهل البادية , ولم يعرضوه على العلماء .
وليس لأحدٍ – إذا جمعَ أهلُ العلم والرواية الصّحيحة على إبطال شيءٍ منه – أن يقبلَ صحيفةً ولا يروي عن صحفيّ , وقد اختلف العلماء في بعض الشّعر , كما اختلفت في بعض الأشياء , أمّا ما اتّفقوا عليه فليس لأحدٍ أن يخرجَ منه )) .
إذاً نحن أمام نصٍّ نقديٍّ يتناولُ قضيّةً معيّنة , وفيه منهجٌ ولغةٌ وأفكار .
وقبل البدء بتحليله علينا أن نوردَ بعضَ الأسئلة المهمّة لتكون مفتاحاً للنصّ :
السؤال الأوّل : ما القضيّة التي يتناولها ابن سلاّم في هذا النصّ ؟
قضيّة الشّعر الموضوع .
السّؤال الثاني : ما هي الأفكار التي تضمّنها النصّ ؟
الشّعر المسموع فيه كثير من الوضع , والشّعر في عصر ( ابن سلاّم ) كان مشافهةً لذلك كثُرَ الموضوع فيه , وتداخل الرّوايات بين الرواة , واجتماع أهل العلم على رفض المنحول , والنّقاد هم أهل العلم , وتفضيل الشّعر المسموع على المكتوب , لأنّ المكتوب يكثر فيه التّصحيف , والشّعر المرفوضُ لا خيرَ فيه , ولا حجة في عربيّته .
وبعد أن تعرّفنا على القضيّة التي تناولها النصّ والأفكار المهمّة التي تضمّنها نعود لتحليل النصّ .
تحليل النصّ :
يدورُ النصّ حول قضيّة توثيق الشّعر ونقده , فلتوثيق الشّعر أهميّة بالغة قبل الانطلاق إلى إطلاق الأحكام سلباً أو إيجاباً على الكلام المنقود أو العمل المدروس .
وهكذا يكونُ التّوثيق جزءاً رئيسيّاً من عمل النّاقد , ويبدو من خلال هذا النصّ أنّ الشّعر في عصر ( ابن سلاّم ) كان مسموعاً متداولاً بالرواية أكثر منه مقروءاً , لهذا كثُرَ الموضوع والمفتعلُ فيه , ومثل هذا الشّعر فاسدٌ لا يُعتدُّ به .
فإذا ما سألنا النّقادَ عن الأسباب والمعايير التي انطلق منها في رفض ذلك الشّعر , وجدناه يحدّد هذه الأسباب في خمسةٍ :
الأوّل : أنّه لا حجةَ في عربيّته أي أنّ لغته ضعيفة .
الثّاني : أنّ معانيه مبتذلة , فلا أدب يُستفاد منه ولا معنًى يُستخرج ولا مثلٌ يُضرب .
والثّالث : يعود إلى عدم بلوغ الهدف في الغرض , فالهجاءُ غير مقذعٍ , والفخرُ غير معجبٍ , والنّسيب غير متطرِّفٍ .
والرّابع : يعود إلى كونه منقولاً عن كتابٍ لا بالرواية , إذ تكثر في المكتوب التّصحيفات والأخطاء , فلا يُعتدُّ به .
الخامس : أنّ هذا الشّعر غير معروضٍ على العلماء , من نقّاد الشّعر والسّالكين في مضايقه .
أمّا معايير قبول الشّعر بالنسبة إلى ما تقدّم , فلم يذكرها ( ابن سلاّم ) , وإنّما نستنبطها ممّا عرضه في أسباب الرّفض .
فمعايير القبول هي ما خالفَ ما ذُكر من أسباب , وخلاصتها أن يكون الكلام فصيحاً , يُستفاد منه معنًى وأدباً , بلغ الهدف في غرضه , منقولاً بالرواية , معروضاً على العلماء , مُعترفاً بتقدّمه من النقّاد .
إنّ في موقف ( ابن سلاّم ) تجليّاً واضحاً للصراع بين البادية والحاضرة , بين المنقول بالرواية وبين المنقول عن صحيفة , بين المطبوع والمصنوع .
وهو صراعٌ حكمَ الأدب والنّقد وترك أثره واضحاً في بنية العقليّة العربيّة ....
النهاية