بناء الشخصية عند الطفل
يعتمد بناء الشخصية الإجتماعية للطفل على شقين؛ الأول: إشباع حاجاته النفسية. والثاني: إعداده لممارسة حياته المستقبلية.
أولا: إشباع الحاجات النفسية والإجتماعية:
إن هذه الحاجات قد يعيش الإنسان بدونها، ولكن لن يكون شخصا سويا أبدا إذا فقدها أو فقد بعضها، ومن هذه الحاجات:
أ- حاجته إلى الإحترام والتقدير والإستقلال:
وإشباع هذه الحاجة يعني قبوله إجتماعياً وزرع الثقة به وإكتساب ثقته، وقد حفلَتْ السنة بمظاهر إحترام الطفل: كسلام النبي _صلى الله عليه وسلم_ على الصبيان، ومناداتهم بكُنى جميلة، وإحترام حقوقهم في المجالس، فقد استأذن النبي _صلى الله عليه وسلم_ الغلام أن يعطي الأشياخ قبله، وكان هو الجالس عن يمين الرسول _صلى الله عليه وسلم_.
والإحترام لا بد أن يكون نابعاً من قلب الوالدين وليس مجرد مظاهر جوفاء، فالطفل وإن كان صغيراً فإنه يفهم النظرات الجارحة والمحتقرة ويفرق بين إبتسامة الرضا والإستهزاء، وإضافة إلى السلام عليه ومناداته بأحب الأسماء وإحترام حقوقه، إجابة أسئلته وسماع حديثه وشكره إذا أحسن والدعاء له والثناء عليه وإعطائه فرصة للدفاع عن نفسه وإبداء رأيه وسماع مشورته.
وأما في مرحلة الطفولة المتأخرة، فيجب أن يتفاعل المربي مع ولده تفاعلا عاطفيا وعمليا، إذ يصادقه ويرافقه في السفر ويشاركه في اللعب المباح والعمل والقراءة، ويسمع شكواه، وإذا اختلف المربي معه في الرأي، فبينهما الحوار الهادئ وإحترام كل للآخر إلا أن للوالدين حق الطاعة والبر.
كما على المربي أن يتقبل فكرة وقوع ولده في الخطأ، وأن يتذكر أن الخطأ ربما كان طريقا للنجاح وإستدراك الفائت، فلا يشنِّع عليه، ويتيح له فرصة الرجوع والتوبة؛ ليستعيد توازنه النفسي، وقد أشارت الدراسات إلى أن الأسوياء كان آباؤهم يتلفتون إلى محاسنهم ويمدحونهم على أعمالهم الحسنة أكثر من نقد الأخطاء، ويشاركونهم في اللعب والعمل كالأصدقاء.
وإذا فقدت هذه الصداقة وجدت الطفل في مراهقته يتعلق بزميل أو معلم أو قريب، وقد يكتسب خبرات سيئة كان الأولى أن يكتسبها من والده لو أن الصداقة عقدت بينهما.
كما أن إحتقار الطفل يشعره بالغربة بين أسرته والرغبة في العزلة، ومن جهة أخرى يقوّي صلته برفاقه الذين يعجبون به، وقد يكون هؤلاء رفقة سيئة فينساق معهم وينحرف، والواقع يشهد بمئات الأمثلة.
وقد تختلف شخصية الطفل وتفكيره عن والده، فعندها يجب أن تظل بينهما أواصر الصداقة والمحبة، إذ ليس شرطا أن يكون الولد صورة عن أبيه، ولكن المهم المحافظة على حالته النفسية.
وأما الإستقلال فيبدأ عند الطفل في سن مبكرة، إذ يحاول الإعتماد على نفسه في تناول الطعام وإرتداء الثياب، وعلى الأم أن تساعده على الإستقلال والإعتماد على النفس، وسيكون أمرا صعبا يحتاج إلى صبر، وينبغي ألا تقدم له المساعدة إلا إذا كان العمل عسيرا لا يستطيعه، ويستمر في ذلك في كل حاجاته وأعماله، مما يدعم ثقته بنفسه ويسهل تكيفه مع المجتمع.
ب- حاجته إلى الحب والحنان:
وهي من أهم الحاجات النفسية، ولذا حَفِلَت السنة بكثير من مظاهر هذا الحب، وتختلف وسائل إشباع هذه الحاجة من مرحلة لمرحلة، ففي مرحلة الطفولة المبكرة يلذ للمربي ملاعبة الطفل وترقيصه ومداعبته بأرق العبارات وتقبيله وضمه، وبعد أن يبلغ خمس سنوات يحب الطفل أن يجلس قريبا من الوالدين أو يضع رأسه على فخذ أحدهما أو يقبلهما أو غير ذلك، بل إنه تشتد حاجته عند رجوعه من المدرسة أو من مكان لم يصحب فيه والديه أو عند وجود مشكلة خارج البيت أو داخله.
وفي مرحلة المراهقة يظل محتاجا إلى الحنان والحب من والديه، وذلك أنه قد يخجل من إظهار هذه العاطفة، وبخاصة إذا كان والداه ينتقدان حاجته للحب أو ينكران أن يقبّلهما أو يسند رأسه إليهما أو يحسان بالإنزعاج والتضايق عندما يعبِّر عن حبه لهما.
وعدم إشباع هذه الحاجة يؤدي إلى إنعدام الأمن وعدم الثقة بالنفس، فيصعب على الطفل التكيف مع الآخرين ويصاب بالقلق والإنطواء والتوتر، بل يعد الحرمان من الحب أهم أسباب الإصابة بمرض الإكتئاب في المستقبل.
ومن الناحية الإجتماعية تحدث فجوة بين المربي والطفل عندما لا تشبَع حاجته إلى الحنان فيحس الطفل بالإنقباض إتجاه والديه ويستقل بمشكلاته، أو يفضي بها للآخرين دون والديه، ويصبح عنده جوعة عاطفية، تجعله مستعدا للتعلق بالآخرين، والتعلق يتخذ صورا عدة كالإعجاب والحب المفرط المؤدي إلى العشق المحرم والشذوذ الجنسي.
وفي مقابل ذلك فإن الإفراط في الحب وفي التعبير عنه، يمنع المربي من الحزم في تربية الطفل ويعرض الطفل للأمراض النفسية، فقد يكون التدليل وتلبية الرغبات وتوفير أكثر الحاجات الضرورية والكمالية سببا في إفساد الطفل؛ لأنه يتعود على الترف، ويعجز في مستقبله عن مواجهة الواقع، ولن يستطيع تحمل المسؤوليات؛ لأن حب الوالدين له زاد عن حده وجعلهما يمنعانه من الإستقلال وتحمل المسؤولية والقيام بالأعمال.
ج- حاجته إلى اللعب:
يحقق اللعب للطفل فوائد نفسية وبدنية وتربوية وإجتماعية، ومنها:
1- إستنفاد الجهد الفائض، والتنفيس عن التوتر الذي يتعرض له الطفل فيضرب اللعبة متخيلا أنه يضرب شخصا أساء إليه أو شخصا وهميا عرفه في خياله، وفيما يُحكى له من الحكايات.
2- تعلم الخطأ والصواب وبعض الأخلاق كالصدق والعدل والأمانة وضبط النفس عن طريق اللعب الجماعي، وبناء العلاقات الإجتماعية، إذ يتعلم التعاون والأخذ والعطاء وإحترام حقوق الآخرين، كما يتعلم دوره المستقبلي، إذ تمثل الفتاة دور الأم ويمثل الصبي دور الأب، وقد يمثلان مهنة من المهن.
3- يدل اللعب بكثرة على توقد الذكاء والفطنة، ويساعد على نمو العضلات وتجديد النشاط، وتنمية المهارات المختلفة.
ثانيا:إعداده لممارسة حياته المستقبلية:
ولن يكون هذا الإعداد إلا بزرع الثقة في نفس الطفل وتعويده الإعتماد على النفس وتقوية إرادته وعزيمته وتنمية مواهبه، وهناك وسائل تساعد على ذلك، منها:
• إحترام الطفل:
وهذا الإحترام يحمل على إكرام الطفل وعدم السخرية منه ولو أخفق في عمل ما، بل إن إحترامه يقتضي الثناء عليه عند نجاحه، وإستشارته في بعض الأمور، وإستحسان رأيه الصائب، وإرشاده برفق إلى خطأ رأيه، وإذا كان أحد الوالدين أو بعض الأقارب يستهزئ بالطفل أو يواجهه بالنقد الجارح كإنتقاد الشكل أو العقل، فعلى الأطراف الأخرى أن تدعم الطفل وتنمي ثقته بنفسه وتمدحه وتمنع الأطراف الأخرى من الإنتقاص من الطفل؛ لأن ذلك يضعف ثقته بنفسه في المستقبل، ويهز شخصيته، ويجعله مستعداً للتخلي عن أفكاره بسرعة إذا انتقده الآخرون ولو كانت تلك الأفكار صائبة؛ لأنه لم يتعود على الثقة بالنفس وإحترامها منذ الطفولة.
• تكليفه ببعض الأعمال:
وأول خطوة في ذلك: إستغلال رغبته في الإستقلال وتأكيد الذات، فقد أثبتت الدراسات الحديثة أن الطفل يسعى إلى الإستقلال في سن مبكرة، فيحاول الأكل وحده وغسل يديه وتمشيط شعره وإرتداء ملابسه، ويحب مساعدة الآخرين، وعلى الأم خاصة أن تُرضي هذه الحاجة فتعطي أطفالها حريتهم في الإستقلال، وتساعدهم دون سخرية ولا تدللهم بدافع المحبة الزائدة.
• وتأتي الخطوة الثانية في تعويد الطفل على ترتيب غرفته وقضاء حوائجه الخاصة، وإذا كان في البيت خدم، فينبغي أن يعلم أن الخدم للبيت عامة، وعلى كل فرد القيام بعمله وحوائجه.
• الخطوة الثالثة: تتمثل في أشياء كثيرة، منها: إستئمانه على الودائع وتكليفه بالبيع والشراء، وأعمال أخرى بحسب قدرة الطفل وقوته.
• إختلاطه بالناس:
لأن الحياة مدرسة لن يتعلم الطفل إلا من ممارستها، فيعوَّد الطفل على حضور المجالس ومصاحبة والده في زياراته وحضور الولائم والأعراس بشروطه وضوابطه؛ لأن هناك جوانب لن تتضح إلا إذا خرج الطفل من البيت والتقى بالغرباء، وقد يأتي بعادات سيئة أو كلمات بذيئة ليس لها علاج إلا التصحيح السريع، وأما منعه من ذلك فخطأ جسيم يمنعه من تعلم أشياء كثيرة، ومن ثم يصعب عليه التكيف مع الآخرين.
ويجب أن يعلِّم المربي ولده آداب المجالس والحديث ويتركه يعتمد على نفسه فلا يلقنه الإجابة إذا سُئل، ويحذره من الثرثرة، ويطلب منه المشاركة في الحديث.
• تقوية إرادته عن طريق تعويده الصبر وإبعاده عن الترف:
ويتعلم الطفل الصبر وضبط السلوك في الشهور الأولى من حياته إذا تريثت الأم قليلا في إجابة ندائه وتحقيق طلباته من طعام أو شراب أو غير ذلك، وهذا التريّث قليل لا يصل إلى حد الإضرار به، وكذلك: عدم إجابة طلباته وحرمانه من بعض الكماليات حتى لا يفسد بالترف.
• تعويده الخضوع للسّلطة المُرشِدة التي تضبط سلوكه وتحد من رغباته المتهورة: وعلى يدها يتعلم السلوك الصحيح، ويتوافق مع المجتمع الذي يعيش فيه بخضوعه للقيم الإجتماعية المتعارف عليها، ويستحسن أن يقنع المربي ولده بالعادات الإجتماعية.