غرور الإنسان وحقيقة الدنيا
إنَّ في معرفة حقيقة الدنيا كفيلاً بإدراك الهدَف والغاية التي يَنبغي أن يسعى إليها المرء، وهذا أمرٌ لا يجادل فيه مَن له عقل رشيد، ومَن لا عقل له، فقدْ أغنانا عن التعليق.
والقرآن والسُّنة فيهما الحقُّ وكل الحق؛ قال تعالى: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ
ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا
أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24].
وقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كُنْ في الدنيا كأنَّك غريب، أو عابر سبيل))؛ البخاري.
وقال أيضًا: ((فواللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخْشَى عليكم أن تُبسَط عليكم الدنيا كما بُسطت على مَن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم))؛ البخاري في "الرقاق".
هذا كلام الله تعالى، وكلام مَن لا ينطق عن الهوى، ويمكن منهما استخلاصُ الحقائق الثلاثة التالية عن الدُّنيا:
الحقيقة الأولى:
أنَّ الدنيا لعبٌ ولهو، وحياة غير دائمة، وعلى الإنسان الرِّضا والقناعة، فكلُّ نعيمها زائف حتمًا.
يقول صاحبُ الظلال في تفسير قوله تعالى: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُه
ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20]
ما مختصره: "والحياة الدنيا حين تُقاس بمقاييسها هي، وتُوزن بموازيننا، تبدو في العين وفي الحسِّ أمرًا عظيمًا هائلاً
، ولكنها حين تُقاس بمقاييس الوجود، وتُوزن بميزان الآخِرة تبدو شيئًا زهيدًا تافهًا، وهي هنا في هذا التصوير تبدو لعبةَ أطفال
بالقياس إلى ما في الآخرة مِن حدٍّ تنتهي إليه مصايرُ أهلها بعدَ لعبة الحياة.
لعب، ولهو، وزينة، وتفاخر، وتكاثر، هذه هي الحقيقةُ وراءَ كل ما يبدو فيها مِن جد حافِل واهتمام شاغل" اهـ.
فلِماذا إذًا نتقاتَل عليها، ويأكل بعضنا لحمَ بعض؟! هل حبُّها أعمى بصيرتنا عن سببِ وجودنا فيها؟!
يقول البصري: ما عجبتُ مِن شيء كعجبي من رجل لا يحسب حبَّ الدنيا مِن الكبائر، وايم اللهِ، إنَّ حبها من أكبر الكبائر، وهل تتشعَّب الكبائر إلا مِن أجلها؟ وهل عُبدت الأصنام وعُصي الرحمن إلا مِن حب الدنيا وإيثارها. اهـ.
مِن ثَمَّ تتبيَّن لنا الحقيقة الأولى جلية واضِحة، وهي فناء الدنيا ونهاية العالَم.
الحقيقة الثانية:
اليقين بأنَّه لا بقاءَ لنا فيها مهما طال بنا العمر، وهذا أمرٌ بدهي لا يحتاج منا لإقناعِ أحدٍ، فلا يَمُرُّ يوم إلا ولنا ميِّت نُشيِّعه، فالموت نهايةُ كلِّ شيء ولا مفرَّ منه؛
قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجمعة: 8]، وقال تعالى: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26 - 27].
وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أكْثِروا مِن ذِكر هازم اللذَّات))؛ الترمذي، وإسناده صحيح.
وصَدَق مَن قال:
يَا نَفْسُ تُوبِي فَإِنَّ المَوْتَ قَدْ حَانَا
وَاعْصِي الهَوَى فَالْهَوَى مَا زَالَ فَتَّانَا
أَمَا تَرَيْنَ المَنَايَا كَيْفَ تَلْقُطُنَا
لَقْطًا وَتُلْحِقُ أُخْرَانَا بِأُولاَنَا
فِي كُلِّ يَوْمٍ لَنَا مَيْتٌ نُشَيِّعُهُ
نَنْسَى بِمَصْرَعِهِ آَثَارَ مَوْتَانَا
يَا نَفْسُ كَمْ غَفْلَةٍ مِنْ يَوْمِ مَبْعَثِنَا
نَنْسَى بِغَفْلَتِنَا مَا لَيْسَ يَنْسَانَا
يَا نَفْسُ تُوبِي مِنَ المَعَاصِي وَازْدَجِرِي
وَاخْشَيْ غلنا سِرًّا وَإِعْلاَنَا
واعْلموا معشرَ المسلمين أنَّنا في دُنيانا بين أجلين:
أجل قدْ مضَى لا يُدرى ما الله صانعٌ فيه، وأجَل قد بقِي لا يُدرى ما الله قاضٍ فيه.
- وقال عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "إذا أدركتِ الدنيا الهاربَ منها جرحَتْه، وإذا أدركتِ الطالب لها قتلَتْه".
والكثيرُ مِن السلف تركوا كثيرًا من الحلال؛ مخافةَ أن يكون حرامًا، وبعدًا عن الشُّبهات، وكانوا زاهدين فيها راغبين عنها، لا يتنطَّعون ولا يسرفون
، ولا يأخذون مِن طيبتها إلا ما يعينهم على طاعةِ الله، وهكذا يجب أن نكون، وتلك هي الحقيقةُ الثانية المكمِّلة للأولى؛ حتمية الموت والفناء، ومِن الغفلة إذًا الاعتقاد بأنَّ بالموت يَنتهي كلُّ شيء، ولا فارق بين العاصِي لله والطائع له.
بل مِن الغَباء الظنُّ أنَّ الله خلقَنا عبثًا بلا غاية أو هدف، وذلك لا يقوله إلاَّ مَن فقدَ رشده واتَّبع هواه وتردَّى، ومِن ثم ندرك منطقيًّا أنَّ هناك حقيقةً ثالثة لا بدَّ منها ومن ترقبها؛ ففيها فصلُ الخطاب،
وهي البعث والحساب والوقوف بين يدي الله تعالى، فمَن وجد خيرًا فللهِ الحمد، ومَن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه.
الحقيقة الثالثة - البعث والحساب:
قال تعالى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون: 115 - 116]
، قال ابن كثير في تفسيره ما مختصره: يقول - تعالى منبِّهًا لهم على ما أضاعوه في عمرِهم القصير في الدنيا مِن طاعةِ الله تعالى وعبادته وحْدَه، ولو صَبَروا في مدَّة الدنيا القصيرة لفازوا كما فاز أولياؤُه المتَّقون؛ "
﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ﴾ [المؤمنون: 112]؛ أي: كم كانتْ إقامتكم في الدُّنيا ﴿ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ﴾ [المؤمنون: 113]؛ أي: الحاسبين، ﴿ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [المؤمنون: 114]؛ ألفزتم كما فازوا.
وقوله تعالى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ﴾ [المؤمنون: 115]؛ أي: أفظننتُم أنَّكم مخلوقون عبثًا بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حِكمة لنا،
وقيل: للعبث؛ أي: لتلعبوا وتعبثوا كما خُلقتِ البهائم لا ثوابَ لها ولا عقاب، وإنما خلقْناكم للعبادة وإقامةِ أوامر الله - عزَّ وجلَّ - ﴿ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]؛
أي: لا تَعودون في الدار الآخِرة، كما قال - تعالى -: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [القيامة: 36]؛ يعني: هملاً،
وقوله: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ﴾ [المؤمنون: 116]؛ أي: تقدَّس أن يخلُق شيئًا عبثًا، فإنَّه الملك الحق المنزَّه عن ذلك، ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون: 116]،
فذَكَر العرش؛ لأنَّه سقف جميع المخلوقات، ووصفه بأنَّه كريم؛ أي: حسن المنظر بهي الشَّكْل، وقد ذكَر ابنُ كثير خُطبة خطبَها عمر بن عبدالعزيز في سياق حديثه في شرْح الآية، وهذا نصها نذكُرها للعبرة:
بعد أن حمِد الله وأثْنى عليه، قال: أما بعدُ:
أيها الناس، إنَّكم لم تُخلقوا عبثًا، ولن تُتركوا سدًى، وإن لكم معادًا ينزل الله فيه للحُكم بينكم، والفصل بينكم، فخاب وخسِر وشقِي عبدٌ أخرَجه الله من رحمته،
وحُرِم جنة عرْضها السموات والأرض، ألَم تعلموا أنَّه لا يأمن عذابَ الله غدًا إلا مَن حذر هذا اليوم وخافَه، وباع نافدًا بباقٍ، وقليلاً بكثير، وخوفًا بأمان؟! ألا ترون أنَّكم مِن أصلاب الهالِكين، وسيكون من بعدكم الباقين، حتى تُردُّوا إلى خيرِ الوارثين؟
ثم إنَّكم في كلِّ يوم تُشيِّعون غاديًا ورائحًا إلى الله - عزَّ وجلَّ - قد قضَى نحبه وانقضى أجله، حتى تُغيِّبوه في صدع من الأرض، في بطن صدع غير ممهَّد ولا موسَّد،
قد فارق الأحباب، وباشَر التراب، وواجَه الحِساب، مرتهن بعمله، غني عمَّا ترَك، فقير إلى ما قدَّم، فاتَّقوا الله قبلَ انقضاء مواثيقه، ونزول الموت بِكم، ثم جعَل طرَف رِدائه على وجهه فبَكى وأبْكى مَن حوله. اهـ.
نعمْ معشرَ المسلمين، لا ينسى هذه الحقائقَ الثلاثةَ ولا يغفل عنها إلاَّ مَن مات قلبُه، وذهب عقله، واتَّبع هواه وشيطانَه،
فإيَّاكم وطولَ الأمَل؛ فهو يصدُّ عن الحق، وإيَّاكم وأكْلَ الحرام؛ فهو ضياعٌ للدارين، واعلموا أنَّ الستر والقناعة ولزوم الطاعة هما مِن وسائل النجاة لنا في هذه الحياة الدنيا،
ألَمْ يقلِ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -:(مَن أصبح آمنًا في سِربه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنَّما حيزتْ له الدُّنيا بحذافيرها))؛ أخرجه الترمذي، وإسناده صحيح.
واللهُ مِن وراء القصد، وهو يهدي السبيل.
.