المناعة الفطرية و المناعة المكتسبةيتعرض جسم الإنسان منذ بدء تكوينه كغيره من الكائنات الحية للاستهداف و الغزو من قبل عوامل عضوية ممرضة دقيقة مختلفة تسمى الميكروبات كالجراثيم و الفيروسات و الفطريات و الطفيليات و التي تحاول أن تتخذ من جسم الإنسان بيئة مناسبة لتعيش و تتكاثر فيها , و بالمقابل يملك جسم الإنسان منظومة دفاعية ذكية ضد تلك العوامل تسمى اصطلاحا ً / المناعة Immunity / و جزء من هذه المناعة يُخلق مع الإنسان و يدعى المناعة الفطرية أو جهاز المناعة الفطري Innate Immune System و تدخل في تشكيله عوامل جينية و وراثية , بينما يكتسب الإنسان خلال حياته الجزء الآخر المكمل للمناعة و الذي يدعى المناعة المكتسبة Acquired Immunity و التي يلعب كل من نمط الحياة و البيئة و التغذية الدور الأساسي في تشكيلها , بالإضافة إلى ما يدخل جسم الإنسان من عوامل ممرضة و مواد كيميائية غريبة خارجية بما فيها مصادر التلوث و كذلك العقاقير الطبية و كل هذه العوامل يمكن أن تترك أثرا ً إيجابيا ً أو سلبيا ً على تشكيل المناعة المكتسبة و مستوى قوتها و نشاطها
و يساعد الإنسان في تشكيل المناعة و تقويتها بشقيها الفطري و المكتسب مبدآن هامان في علم الأحياء ( البيولوجيا Biology ) و هذان المبدآن موجودان لدى جميع الكائنات الحية و هما التكيف Adaptation و التطور Evolution و يتكفل ذكاء الإنسان و جسمه في الوعي و اللاوعي بتحقيق هذين المبدأين و لولا هذه القدرة الفريدة لانقرضت البشرية من كثرة الأمراض و العوامل الممرضة التي تعرضت لها , و كمثال على ذلك تاريخيا ً عند أول ظهور الزكام العادي ( الذي نراه بسيطا ً في أيامنا هذه ) كان أغلب من يصابون به يموتون , و بالتدريج تعرف جهاز المناعة لدى الإنسان على الزكام و قام بتدريب نفسه فتعلم كيف يتغلب عليه و أصبح ذلك سهلا ً , و كذلك الأمر بالنسبة للعديد من الأمراض , و بالتالي بكل ثقة لا خوف على البشرية من ظهور أجيال جديدة من الفيروسات مهما بلغت من الشراسة و التطور , و إن كانت للأسف ستحصد الكثير من الضحايا قبل استيعاب جهاز المناعة البشري لها
و من مهام جهاز المناعة أيضا ً كشف الخلايا التي تتحول بشكل خبيث أو سرطاني في الجسم بسبب حدوث طفرة Mutation فيها فيعمل على قتلها و التخلص منها و كذلك التخلص من الخلايا التي تموت في الجسم , و يتولى أيضا ً رصد تشكل مواد سامة في الجسم منها ما ينشأ من عمليات الاستقلاب الطبيعية و منها ما يأتي من مصادر خارجية , فيقوم جهاز المناعة إلى جانب أجهزة الإطراح بتخليص الجسم من تلك السموم أيضا ً
و يمكن تشبيه جهاز المناعة بالجيش الذي يتولى التصدي للاعتداءات , فإذا تعرض هذا الجيش لتجارب و اكتسب منها خبرات سيصبح قادرا ً على مواجهة تلك الأخطار الداخلية و الخارجية فعندما يكون جهاز المناعة ضعيفا ً نصبح معرضين لكل أشكال العدوى , فحتى الطعام العادي و الهواء العادي قد يسبب لنا الأذى و العدوى ..
و كلما كان جهاز المناعة لدينا مدربا ً و يتجدد و يتطور باستمرار بحيث نغذيه بالطريقة الصحيحة كلما كان قادرا ً على التعرف على العوامل الممرضة الخارجية و منها الفيروسات ثم مواجهتها و قتلها , و فوق ذلك يستطيع استباق تطوير تلك الفيروسات لنفسها و يتمكن من مواجهتها , فاليوم هناك فيروسات جديدة أو حتى جديدة قديمة بمعنى أنها تغير في جيناتها RNA و شكلها و بالتالي قد تتوفر لقاحات معينة مخصصة لفيروسات معينة لكنها تفقد فعاليتها بسبب تغيير الفيروس لشكله , إذا ً عندما نحاول تقوية جهاز المناعة لدينا بطريقة خارجية ( عن طريق اللقاح ) تكون الجدوى من ذلك محصورة في زمن محدود
و يمكننا بشكل مبسط و مختصر أن نقسم جهاز المناعة كما ذكرنا إلى قسمين : الفطري و المكتسب
جهاز المناعة الفطري Innate Immune System :
هذا الجزء يُخلق معنا و يتضمن الحواجز الطبيعية المادية مثل الجلد , و الحمض في المعدة بالنسبة للجهاز الهضمي المفتوح ابتداء ً من الفم إلى باب البدن , و كذلك الغشاء المبطن لهذا الجهاز تعيش عليه البكتيريا الجيدة الأساسية في تشكيل و توجيه جهاز المناعة إذ يتركز حوالي 70 - 88 % من خلايا جهاز المناعة في الأمعاء .. و بالنسبة للحمض في المعدة أهميته تفسر القول بأن مضادات الحموضة التي يأخذها البعض يمكن أن تسبب الفطريات في الجهاز الهضمي , فالحمض في المعدة يقتل أو يبطل مفعول الكثير من الميكروبات و المواد التي يمكن أن تؤذينا و من بينها الفطريات التي قد تأتي من الطعام
كما يتضمن جهاز المناعة الفطري الكريات البيض بأنواعها : المعتدلة Neutrophils و الحامضية Eosinophils و القاعدية Basophils و البلعمية Macrophages و وحيدات النوى Monocytes .. و هذه الخلايا هي التي تدافع عنا و تحيط بالبكتيريا الممرضة و الفيروسات فتغطيها و تعزلها , و لكن الجزء الأهم في جهاز المناعة الفطري هو الخلايا الطبيعية القاتلة Natural Killer Cells و هي أبرز الخلايا المناعية لدينا و يمكن تشبيهها بالمغاوير أو القوات الخاصة بالنسبة للجيش و هذه الخلايا هي التي تتعرف على البكتيريا الممرضة و الفيروسات و تهاجمها و تقتلها فهي شرسة و قوية جدا ً و لدرجة حتى أنها تتمكن من قتل الخلايا السرطانية , لذلك من الهام تقويتها بوسائل غذائية بشكل خاص و سنتحدث عن تلك الوسائل لاحقا ً
و هناك فيروسات و كذلك خلايا سرطانية تخدع جهاز المناعة و تستطيع الهروب منه , خصوصا ً و أن الفيروس يرتبط بخلايا من الجسم و يجبرها بواسطة شيفرته الجينية RNA على استنساخه و بالتالي يتكاثر من خلالها بطريقة تسمح له بالاختباء عن جهاز المناعة .. فكثيرا ً ما نلاحظ في تحاليل الدم أن تعداد الكريات البيض مرتفع لدى البعض لكن رغم ذلك يصابون بالعدوى الفيروسية أو غيرها لأن بعض الفيروسات يمكنها الهروب من جهاز المناعة فلا يتعرف عليها ..
بينما الخلايا الطبيعية القاتلة Natural Killer Cells تتعرف على الفيروسات و تحاربها و تقتلها و بعد ذلك تقوم بتوجيه خلايا أخرى من جهاز المناعة كي تقوم بتنظيف الأنسجة و الخلايا و الدم من بقايا تلك الفيروسات أو الميكروبات و التخلص منها خارج الجسم .. هذا كله ما يخص جهاز المناعة الفطرية التي تخلق معنا
الجزء الثاني من جهاز المناعة هو جهاز المناعة المكتسب
Acquired Immune System و يتضمن اللمفاويات أو الخلايا اللمفاوية بنوعيها البائية B Lymphocyte Cells و التائية T Lymphocyte Cells
تتشكل الخلايا التائية في نقي العظم Bone Marrow ثم تذهب لتتدرب في الغدة الصعترية Thymus Gland و منها أخذت تسميتها ( حرف T ) و منها الخلايا التائية المساعدة T Helper Lymphocytes التي تفرز مواد و أجسام ضدية Antibodies تهاجم بها الميكروبات فتقوم بتعليمها ( كمولد للضد Antigens ) أي وضع علامة عليها عندما ترصدها عن طريق تشكيل أجسام ضدية Antibodies و بتعليمها تساعد جهاز المناعة
فني كهربائي الكويت على محاصرتها و تقدمها فريسة للخلايا الطبيعية القاتلة Natural Killer Cells و بنفس الطريقة تنبه الخلايا التائية المساعدة الخلايا الطبيعية القاتلة للقضاء على الخلايا الخبيثة الشاذة أو المسرطنة
و تتشكل الخلايا البائية كذلك في نقي العظم Bone Marrow و من هنا جاءت تسميتها B و هي تقوم بنفس الطريقة بتشكيل أجسام ضدية على أهداف جهاز المناعة من ميكروبات و خلايا شاذة للدلالة عليها كي يتخلص منها جهاز المناعة
و دائما ً ينتبه الأطباء إلى نسبة اللمفاويات في بيانات فحوص تعداد و صيغة الدم بحيث يجب ألا تنخفض تحت معدل معين و حسب النسب الأخرى , مثلا ً بالنسبة للذين يتم إجراء معالجة كيميائية Chemotherapy للسرطان لديهم قد يلاحظ الطبيب أن تعداد اللمفاويات ينخفض مع بداية ارتفاع المعتدلات و وحيدات النوى فيشك بعودة تشكل خلايا سرطانية أو خبيثة .. فهناك نسب محددة و يتم قسمة عدد اللمفاويات على عدد وحيدات النوى و كلما تغيرت تلك النسب يدل ذلك على خلل مناعي ما يحدث في الجسم .. و إن انخفاض نسبة اللمفاويات يفسر أيضا ً سهولة الإصابة بأشكال العدوى رغم ارتفاع التعداد العام للكريات البيض الذي قد نلاحظه عند البعض كما أشرنا سابقا ً
إذا ً يقع على عاتق الخلايا اللمفاوية التائية المساعدة T Helper Lymphocytes بشكل خاص توجيه أو قيادة جهاز المناعة ضد العوامل الممرضة , لكن هذا التوجيه مشروط بعمر تلك الخلايا , فعند بداية تشكل تلك الخلايا في نقي العظم و تدربها في الغدة الصعترية Thymus Gland تكون فتية و تسمى في هذه المرحلة الخلايا الساذجة أو الخلايا التائية المساعدة الساذجة Naïve T Helper Cells و هذا لا يعني أنها بلهاء !! بل هي بريئة و لم تتعرف بعد على عدو تهاجمه , في هذه المرحلة من عمرها تتعرف على الميكروبات و من خلال هذا التعرف تصبح خبيرة بكيفية مواجهتها و كيفية تحريض و تقوية الخلايا الطبيعية القاتلة Natural Killer Cells لإتمام مهمة التخلص من الميكروبات و الخلايا الشاذة
لكن المشكلة تكمن في تراجع إنتاج الخلايا التائية الساذجة Naïve T Cells مع تقدم العمر بسبب ضمور الغدة الصعترية وصولا ً إلى تحول تلك الغدة إلى نسيج دهني , و هنا تصبح تلك الخلايا التائية المساعدة خلايا عجوز Senescent T Cells و هذه الخلايا التائية العجوز هي خلايا عملت سابقا ً على مواجهة الفيروسات و كانت تتعرف عليها من قبل و كانت تحارب تلك الفيروسات ثم تنحّت عن العمل أو لنقل : أنهت خدمتها العسكرية , و لأنها أصبحت خلايا عجوز تفقد القدرة على الانقسام لتشكيل خلايا جديدة , بل فوق ذلك على العكس بقي الفيروس القديم الذي كانت تتعرف عليه سابقا ً في ذاكرتها و تظن أنه ما زال موجودا ً و يحاربنا فتفرز مواد بقصد محاربته لكن تلك المواد تسبب لنا التهابات فتؤذينا و تقتل خلايانا و هذه آلية مرضية جوهرية في أمراض المناعة الذاتية Autoimmune Diseases التي يهاجم فيها جهاز المناعة خلايا الجسم السليمة و التي ترتبط أيضا ً بتراجع نوع آخر من الخلايا التائية يدعى الخلايا الكابحة T Suppressor و التي تتولى كبح الالتهابات في الجسم
و عندما تكثر الخلايا التائية المساعدة العجوز Senescent T Cells نصبح أكثر قابلية لالتقاط العدوى بالفيروسات و الميكروبات المختلفة و هذا ما يفسر إصابة الأشخاص المسنين أكثر ممن هم في مقتبل العمر بالعدوى الفيروسية أو الجرثومية
و طالما استمر إنتاج الخلايا التائية الساذجة المساعدة Naïve T Helper Cells , و طالما بقيت الخلايا الطبيعية القاتلة بقوة و تعداد كافيين , يبقى جهاز المناعة نشيطا ً و فعالا ً في القضاء على الميكروبات و الخلايا الخبيثة
نعود إلى مبدأي التكيف Adaptation و التطور Evolution المذكورين في المقدمة فهذا المبدآن يتضحان على مستوى جهاز المناعة من خلال تطور جزء من خلايا المناعة الفطرية و المكتسبة و هي بالتحديد الخلايا الطبيعية القاتلة Natural Killer Cells و الخلايا اللمفاوية المساعدة T Helper Lymphocytes و يمكننا من خلال التغذية و نمط الحياة و شروطها أن نعزز هذا التطور و التكيف بينما يعمل نمط الحياة غير الصحي و سوء التغذية على إبطاء و كبح هذا التطور , سواء على المدى القريب أو على المدى البعيد الذي يستغرق أجيالا ً و يأخذ طابعا ً جينيا ً و وراثيا ً