حُقُوق الأسرة أمام القضاء:
نزلتْ آيات الله البيِّنات على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانتْ بمثابة فصل القضاء في كلِّ منازعة تعرض، أو في كلِّ واقعةٍ تحدث؛ فقد جاءت خولة بنت ثعلبة - رضي الله عنها - تعرض مشكلتها على النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك المشكلة التي طرأت عليها بينها وبين زوجها، وأخذت تناقض وتُجادل؛ حِرصًا على بيتها ومصلحة أولادها، فنزل قوله - تعالى -: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1]
[4].
وفي عهد أبي بكر - رضي الله عنه - كان يبحث عن حكم القضيَّة المعروضة عليه في كتاب الله، فإن لَم يجد بحث عنه في سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لَم يجد، فإنه كان يجمع كِبَار الصحابة، فإن استقرَّ رأيهم على حكمٍ أمضاه، ومثل ذلك كان يفعل عُمر، بيد أنه كان يتحرَّى قضاء أبي بكر - رضي الله عنهم جميعًا
[5].
وكان قُضاة التابعين يسلكون نفس المسلك في القضاء بين الناس، حيث يأخذون بالكتاب والسُّنة وإجماع الصحابة، وعندما اتَّسعت الفتوحات، وكَثُرت القضايا المستحدثة التي لَم يكن للناس عهدٌ بها، كان لا بد من التوسُّع في الاجتهاد
[6] على هدًى من نصوص الكتاب والسُّنة وما أجمع عليه الصحابة، وبجانب ذلك فقد كان القضاة من التابعين يسترشدون بفتاوى الصحابة وأقوالهم.
ومن حيث التدوين، فقد شاءتْ حكمة الله - عز وجل - أن يظلَّ القرن الهجري الأول مُخصصًا للقرآن الكريم، بحيث لا يوجد بين يدي المسلمين كتابٌ مُدوَّن سواه؛ حتى لا يختلطَ الأمر عليهم، فكان ذلك من نعَم الله وفضله وتحقيقه لوَعْده.
وفي عام 99 هـ وجَّه الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - دعوته المشهورة من أجل تدوين سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدتْ تلك الدعوة آذانًا مُصغية في سائر الأنحاء الإسلاميَّة، وهبَّ العلماء في كلِّ مكانٍ للقيام بهذا العمل الجليل، وقد ظهر أول تدوين للسُّنَّة على يد الإمام مالك - رحمه الله - (المتوفى 179 هـ)، حيث وفَّقه الله إلى إخراج أول كتاب في السُّنَّة ألا وهو كتاب "الموطأ"
[7].
ولما أنجز الإمام مالك هذا العمل الكبير، طلب المهدي أن يرسله إلى الأقاليم الإسلاميَّة؛ ليقضي القضاة بأحكامه، حيث قال له:
يا أبا عبدالله، ضَع الفقه ودوِّن منه كتابًا؛ لنحمل الناس - إن شاء الله - على علمك وكتبك نبثها في الأمصار، ونعهد إليهم ألا يخالفوها، ولكن مالكًا - رحمه الله - بما أوتي من علم وحكمة أبَى أن يُلزم الناس بما جمعه في كتابه، وقال: إنَّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكلٌّ على صواب
[8].
ولهذا فقد بقي القضاء مطلقًا غير مُقيَّد، إلا بنصوص الكتاب والسُّنَّة وإجماع الصحابة، وما يمكن أن يقوم به من اجتهاد صحيح، وما كان القاضي يُولَّى إلا من المجتهدين الذين عُرفوا بالنَّزاهة المطلقة، ومن هؤلاء في عهد التابعين: شريح القاضي
[9]، والحسن البصري
[10]، حيث تولَّى القضاء في عهد عمر بن عبدالعزيز فترة وجيزة، ومن هؤلاء في القرن الهجري الثاني: ابن أبي ليلى
[11]، وابن شبرمة
[12]، وهؤلاء وغيرهم لَم يكونوا يتقيَّدون بمذهب في الجملة، أو بمنهاج، إلا الكتاب والسُّنة وإجماع الصحابة
[13].