المقالة جدلية الرابعة : انطباق الفكر مع الواقع ” الحتمية“
نص الموضوع : هل الطبيعة تخضع لمبدأ الحتمية خضوعا كليا ؟
طرح المشكلة ← إن الغاية من العلم هو الوصول إلى تفسير الظواهر تفسيرا صحيحا ، أي معرفة الأسباب القريبة التي تتحكم في الظواهر و أنه إذا تكرر نفس السبب فإنه سيؤدي حتما إلى نفس النتائج وقد اصطلح على تسميته من طرف العلماء بمبدأ الحتمية ؛ إلا أنه شكل محل خلاف بين الفلاسفة القرن 19 وفلاسفة القرن 20 فقد كان نظاما ثابتا يحكم كل الظواهر عند الفريق الأول ثم أفلتت بعض الظواهر عنه حسب الفريق الثاني بظهور مجال جديد سمي باللاحتمية فأي الفريقين على صواب أو بمعنى أخر :هل يمكن الاعتقاد بأن الحوادث الطبيعية تجري حسب نظام كلي دائم ؟ أم يمكن تجاوزه ؟
محاولة حل المشكلة ←
الأطروحة ← يرى علماء ( الفيزياء الحديثة) وفلاسفة القرن التاسع عشر ( نيوتن ، كلود برنار ، لابلاس ، غوبلو ، بوانكاريه ) أن الحتمية مبدأ مطلق . فجميع ظواهر الكون سواء المادية منها أو البيولوجية تخضع لمبدأ إمكانية التنبؤ بها . ولقد أشار نيوتن في القاعدة الثانية من أسس تقدم البحث العلمي و الفلسفي : ” يجب أن نعين قدر المستطاع لنفس الآثار الطبيعية نفس العلل ” كما اعتبر بوانكاريه الحتمية مبدأ لا يمكن الاستغناء عنه في أي تفكير علمي أو غيره فهو يشبه إلى حد كبير البديهيات إذ يقول ” إن العلم حتمي و ذلك بالبداهة ” كما عبر عنها لابلاس عن مبدأ الحتمية أصدق تعبير عندما قال ” يجب علينا أن نعتبر الحالة الراهنة للكون نتيجة لحالته السابقة ، وسببا في حالته التي تأتي من بعد ذلك مباشرة لحالته السابقة ، وسببا في حالته التي تأتي من بعد ذلك مباشرة “” وكلود برنار يضيف أن الحتمية ليس خاصة بالعلوم الفيزيائية وحدها فقط بل هي سارية المفعول حتى على علوم الإحياء . وأخيرا يذهب غوبلو إلى القول : بأن العالم متسق ، تجري حوادثه على نظام ثابت وأن نظام العالم كلي وعام فلا يشذ عنه في المكان حادث أو ظاهرة فالقانون العلمي هو إذن العلاقة الضرورية بين الظواهر الطبيعية “
الحجج ← إن الطبيعة تخضع لنظام ثابت لا يقبل الشك أو الاحتمال لأنها غير مضطرة و معقدة وبالتالي فمبدأ الحتمية هو أساس بناء أي قانون علمي ورفضه هو إلغاء للعقل وللعلم معا .
النقد ← لكن مع اقتراب القرن 19 من نهايته اصطدم التفسير الميكانيكي ببعض الصعوبات لم يتمكن من إيجاد حل لها مثلا : افتراض فيزياء نيوتن أن الظواهر الطبيعية مترابطة و متشابكة مما يقلل من فعالية ووسائل القياس عن تجزئتها إلى فرديات يمكن الحكم على كل واحد منها بمعزل عن الأخرى . ولن يكون صورة كاملة عن هذا العالم إلا إذا وصلت درجة القياس الذي حواسنا إلى درجة النهاية وهذا مستحيل .
نقيض الأطروحة ← يرى علماء ( الفيزياء المعاصرة ) و فلاسفة القرن العشرين ( بلانك ، ادينجتون ، ديراك ، هيزنبرغ ) أن مبدأ الحتمية غير مطلق فهو لا يسود جميع الظواهر الطبيعية .
الحجج ← لقد أدت الأبحاث التي قام بها علماء الفيزياء و الكيمياء على الأجسام الدقيقة ، الأجسام الميكروفيزيائية إلى نتائج غيرت الاعتقاد تغييرا جذريا . حيث ظهر ما يسمى باللاحتمية أو حساب الاحتمال وبذلك ظهر ما يسمى بأزمة الفيزياء المعاصرة و المقصود بهذه الأزمة ، أن العلماء الذين درسوا مجال العالم الأصغر أي الظواهر المتناهية في الصغر ، توصلوا إلى أن هذه الظواهر تخضع لللاحتمية وليس للحتمية ورأى كل من ادينجتون و ديراك أن الدفاع عن مبدأ الحتمية بات مستحيلا ، وكلاهما يرى أن العالم المتناهي في الصغر عالم الميكروفيزياء خاضع لمبدأ الإمكان و الحرية و الاختيار . ومعنى هذا أنه لا يمكن التنبؤ بهذه الظواهر ونفس الشيء بالنسبة لبعض ظواهر العالم الأكبر (الماكروفيزياء ) مثل الزلازل . وقد توصل هايزنبرغ عام 1926 إلى أن قياس حركة الإلكترون أمر صعب للغاية ، واكتفى فقط بحساب احتمالات الخطأ المرتكب في التوقع أو ما يسمى بعلائق الارتياب حيث وضع القوانين التالية :
← كلما دق قياس موقع الجسم غيرت هذه الدقة كمية حركته .
← كلما دق قياس حركته التبس موقعه .
← يمتنع أن يقاس موقع الجسم وكمية حركته معا قياسا دقيقا ، أي يصعب معرفة موقعه وسرعته في زمن لاحق .
إذا هذه الحقائق غيرت المفهوم التوليدي حيث أصبح العلماء الفيزيائيون يتكلمون بلغة الاحتمال و عندئذ أصبحت الحتمية فرضية علمية ، ولم تعد مبدأ علميا مطلقا يفسر جميع الظواهر .
نقد ← لكن رغم أن النتائج و البحوث العلمية أثبتت أن عالم الميكروفيزياء يخضع لللاحتمية وحساب الاحتمال فإن ذلك مرتبط بمستوى التقنية المستعملة لحد الآن . فقد تتطور التقنية و عندئذ في الإمكان تحديد موقع وسرعة الجسم في آن واحد .
التركيب ← ذهب بعض العلماء أصحاب الرأي المعتدل على أن مبدأ الحتمية نسبي و يبقى قاعدة أساسية للعلم ، فقد طبق الاحتمال في العلوم الطبيعية و البيولوجية وتمكن العلماء من ضبط ظواهر متناهية في الصغر واستخرجوا قوانين حتمية في مجال الذرة و الوراثة ، ولقد ذهب لانجفان إلى القول ” و إنما تهدم فكرة القوانين الصارمة الأكيدة أي تهدم المذهب التقليدي ”
حل المشكلة← ومنه يمكن القول أن كل من الحتمية المطلقة والحتمية النسبية يهدفان إلى تحقيق نتائج علمية كما أن المبدأين يمثلان روح الثورة العلمية المعاصرة ، كما يتناسب هذا مع الفطرة الإنسانية التي تتطلع إلى المزيد من المعرفة ، وواضح أن مبدأ الحتمية المطلق يقودنا على الصرامة وغلق الباب الشك و التأويل لأن هذه العناصر مضرة للعلم ، وفي الجهة المقابلة نجد مبدأ الحتمية النسبي يحث على الحذر و الابتعاد عن الثقة المفرطة في ثباتها ، لكن من جهة المبدأ العام فإنه يجب علينا أن نعتبر كل نشاط علمي هو سعي نحو الحتمية فباشلار مثلا يعتبر بأن مبدأ اللاتعيين في الفيزياء المجهرية ليس نفيا للحتمية ، وفي هذا الصدد نرى بضرورة بقاء مبدأ الحتمية المطلق قائم في العقلية العلمية حتى وإن كانت بعض النتائج المتحصل عليها أحيانا تخضع لمبدأ حساب الاحتمالات .