النظام الاقتصادي الاشتراكي
بعد تطبيق النظام الاقتصادي الرأسمالي ظهرت العديد من المشكلات التي أوجبت ضرورة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وإدارته. وكان التحول من النظام الرأسمالي إلى نظام يعتمد على الملكية الجماعية لمعظم عوامل الإنتاج واتباع أسلوب التخطيط الاقتصادي لإدارة النشاط الاقتصادي من خلال النظام الاقتصادي الاشتراكي.
1. مفهوم النظام الاقتصادي الاشتراكي ونشأته
تعريف النظام الاقتصادي الاشتراكي
يطلق لفظ الاشتراكية Socialism للتعبير عن الكثير من المعاني المختلفة، فأحياناً يطلق على مجرد تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وبذلك تكون الاشتراكية نقيضاً لسياسة الحرية الاقتصادية. كما يطلق، أحياناً، للتعبير عن تدخل الدولة في حياة العمال، والطبقات الفقيرة، بهدف سن التشريعات الاجتماعية، والاقتصادية، التي تخفف معاناتهم، وتمنحهم بعض المزايا.
إلا أن الاشتراكية، من الناحية العلمية، تعني النظام الذي تؤول فيه ملكية مواد الإنتاج، والأراضي، والآلات، والمصانع للدولة. بمعنى آخر، فإن الاشتراكية، على خلاف ما تقتضيه الرأسمالية، تقوم على الملكية الجماعية لعناصر الإنتاج المختلفة.
أخذت الاشتراكية، في الفكر الاقتصادي والتطبيق الفعلي، صورتين، صورة الاشتراكية الخيالية، وصورة الاشتراكية الماركسية نسبة إلى كارل ماركس. فقبل ظهور الاشتراكية الماركسية، كان المنادون بالاشتراكية يحاولون تصوير عالم خيالي، تسود فيه مبادئ الاشتراكية الخيالية، وتنعدم فيه مساوئ النظم الاجتماعية، والاقتصادية، السائدة، محاولين إقناع الأفراد، والحكومات، بالمشاركة في إقامة هذا العالم الخيالي. وكان اعتمادهم، في ذلك، على التأثير العاطفي المصحوب بسردٍ للمساوئ الاجتماعية، والاقتصادية، التي كانت سائدة في تلك الفترة. ومن هذا المنطلق فإن الاشتراكية الخيالية لم تكن ذات أساس علمي تحليلي، وإنما كانت مجرد تخيلات وأحلام، ليس لها أساس علمي. أما الصورة الثانية من صور الاشتراكية فكانت الاشتراكية الماركسية، أو الاشتراكية العلمية، التي حاول كارل ماركس بناءها على أساس علمي، محاولة لتميزها عن الاشتراكية الخيالية، ولدحض حجج الرأسمالية، التي اعتمدت المنهج العلمي أداة رئيسية في تحليلها للقضايا الاقتصادية المختلفة.
2. الجذور التاريخية للمذهب الاشتراكي
يرجع الكثير من مؤرخي الفكر الاقتصادي المذهب الاشتراكي إلى الفيلسوف اليوناني أفلاطون، الذي صوّر في كتابه (الجمهورية) مجتمعاً مثالياً يعيش فيه الناس حياة ملؤها السعادة، والحرية، والعدالة. وقد بنى أفلاطون هذا المجتمع على ثلاث فئات من الناس هي:
الفئة الأولى: فئة الصناع، الذين يبنون المنازل، وينتجون الطعام، والملابس.
الفئة الثانية: فئة المحاربين، الذين يدافعون عن الوطن ضد العدوان الخارجي.
الفئة الثالثة: فئة الحكام الفلاسفة، الذين يتم اختيارهم بكل عناية ودقة، ويحرم عليهم كل أنواع الملكية الخاصة، حتى ينصرفوا إلى رعاية حكمهم وإقامة العدل بين الناس.
وقد كان أفلاطون يهدف، من وراء ذلك، إلى تصوير مدينة مثالية، يعيش فيها الناس سعداء متحابين، وتزول منها كل صور الظلم الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي. ورغم أن أفكاره ظلت أفكاراً خيالية بعيدة عن التطبيق الواقعي، إلا أنها ظلت حاضرة في أذهان الكثير من الفلاسفة والمفكرين. فمنذ عهد أفلاطون، لم يمر جيل إلا ويظهر فيه مفكر، أو فيلسوف، يحاول مقاومة مساوئ نظام الملكية الخاصة، عن طريق تصوير مجتمع خيالي تنعدم فيه الملكية الخاصة، ويعيش فيه الناس أحراراً من كل القيود المادية والمعنوية. فقد أفضت القرون، التي فصلت بين عهد أفلاطون، وعصر الإصلاح الديني بالكثير من الأفكار التي تدعو للمساواة، والملكية العامة للمجتمع، وغير ذلك من الأفكار، التي تدعو للعدالة الاجتماعية لأكبر عدد ممكن من المواطنين. وقد تبنى هذه الأفكار الكثير من الفلاسفة، والشعراء، والقساوسة، اعتقاداً منهم بأن شيوعية المجتمع هي الحالة الطبيعية، وأن القانون الوضعي، الذي أوجد عدم المساواة والملكية الخاصة، والفروق الطبقية بين الناس، ليس هو التفسير السليم لقانون السماء.
أما في عصر الإصلاح الديني، في أوربا، في القرن السادس عشر، فقد أثار مارتن لوثر الشكوك حول الملكية الخاصة، وعدّها من السيئات التي يجب أن يتخلص منها المجتمع. إلا أن هذه الآراء ظلت محبوسة في الإطار التخيلي، بعيدة عن التطبيق على أرض الواقع، خاصة في ظل النفوذ القوي، الذي كان يتمتع به الملوك والأمراء. واستمر الحال على هذا المنوال، حتى وضع كارل ماركس أساس الاشتراكية العلمية، التي كانت تهدف إلى تقويض مبادئ الرأسمالية، وساندها في ذلك التفاوت الطبقي، والاضطهاد الكبير، الذي عانته طبقة العمال، في الدول الأوربية، خلال القرن التاسع عشر. وقد أخذت الاشتراكية صوراً مختلفة حيث راوحت بين الاشتراكية الخيالية، والاشتراكية الإصلاحية، مروراً بالاشتراكية الماركسية أو العلمية. ومما لاشك فيه أن إسهام مفكري هذا المذهب قد أثرى الفكر الاقتصادي، وساعد في تطوره، خاصة أنها قد أخذت على عاتقها البحث عن نواقص النظام الرأسمالي وعيوبه.
3. عيوب النظام الاقتصادي الاشتراكي
من الصعب أن يخلو نظام اقتصادي من العيوب، ومهما نجح هذا النظام في علاج عيوب ما قبله من نظم، إلا أن هناك بعض العيوب التي تشوب هذا النظام ومن أهمها:
عدم وجود الحافز القومي لضمان مزيد من تشجيع العمال على الإنتاج، وبالتالي إمكانية حدوث نوع من التراخي من جانب بعض المسؤولين عن إدارة أمور المشروع في ظل النظام الاشتراكي، وكذلك ضرورة توفير جهاز إداري ورقابي ضخم، لأن الدولة هي المسؤول عن المشروعات في ظل النظام الاشتراكي، ويؤدى ذلك إلى زيادة تكاليف الإنتاج من خلال وجود مزيد من الإجراءات الروتينية وتعطيل العمل داخل الجهاز الإداري للدولة.
عدم كفاءة أسلوب التخطيط المركزي لإدارة الاقتصاد القومي، فقد أثبتت التجربة والواقع انه رغم المزايا المتعددة التي يحققها التخطيط الاقتصادي، إلا أنه يحتوي على عيوب متعددة أهمها: أن السلطات التي تتولى التخطيط قد لا تملك المعلومات الكافية اللازمة للتخطيط على النحو الأكمل، فضلاً عن أن الواقع قد اثبت أن التخطيط يجر معه ذيولاً من البيروقراطية الخانقة، ويمهد لسيطرة الحزب الواحد في السلطة. كذلك فإن التخطيط كان يتم كثيراً على حساب فعالية الإنتاج القومي وكفاءته والسلوك الاقتصادي القويم.
ومن العيوب كذلك عدم وجود الحافز لاستخدام وسائل إنتاجية حديثة؛ الأمر الذي أدى ذلك إلى تخلف المعدات والآلات المستخدمة في العمليات الإنتاجية وما لذلك من آثار سلبية على جودة الإنتاج، وكذلك عدم الخبرة الكافية في مجال العلاقات التجارية الخارجية. كذلك ضعف جودة السلع التي تنتجها الدول الاشتراكية مقارنة بالدول الرأسمالية الصناعية. وبإحلال الملكية الجماعية والتخطيط الاقتصادي الشامل، فإن أفكاراً مثل المنافسة وقوى العرض والطلب وجهاز الأثمان لتوجيه الموارد وحافز الربح الشخصي لا تجد لها مكاناً في الاقتصاد الاشتراكي. فبدلاً من المنافسة بين المشروعات يكون هناك التنسيق المتكامل بينها. ويتم تخطيط المشروعات وتنفيذها وتوجيه الموارد في المجتمع عموماً، وفقاً لأهداف عينية مادية وليس نقدية، ويكون الهدف تحقيق الإنتاج وإنجازه، وليس الربح الشخصي. نخلص من هذا أن للنظام الرأسمالي مزاياه وعيوبه، كما أن للنظام الاشتراكي مزاياه وعيوبه.
4. الحزب الشيوعي في روسيا، البداية والنهاية
في مارس عام 1898، انعقد المؤتمر الأول لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، الذي أصبح فيما بعد الحزب الشيوعي، وقد تكون هذا المؤتمر، من 9 مندوبين فقط يمثلون أربعة اتحادات عمالية، وعمال إحدى الصحف، وعصبة اليهود الاشتراكية الديمقراطية. وقد اجتمع هؤلاء المندوبون التسعة في مدينة منسك في الأيام الثلاثة الأولى من مارس، واعتبروا أنفسهم حزباً، ودعوا إلى الإطاحة بحكم آل رومانوف، ثم عادوا إلى منازلهم حيث اعتقل ثمانية منهم على الفور. وقد تمكن خلفاؤهم بعد أقل من 22 عاماً من الإطاحة بالحكومة الروسية، معتمدين في ذلك على عبقرية رجل لم يكن من بين هؤلاء التسعة، ولم يحضر اجتماع منسك الشهير، هو فلاديمير أوليانوف، الذي سمى نفسه (لينين) كما اختار لنفسه أيضاً أسماء مختلفة، في أوقات متعددة.
ولد لينين لأب كان مدرساً، عالي الثقافة، إلا أنه طرد من المدرسة بسبب اشتراكه في أعمال الاحتجاج الطلابية. وبينما كان لينين يتعلم في بيته، اكتشف أعمال كارل ماركس، التي تبشر بانهيار الرأسمالية، وسقوط إمبراطورياتها، ورغم أن لينين قد حصل على ليسانس في القانون، إلا أن ولعه بالماركسية قاده إلى سويسرا، التي نشأت في أحضانها الماركسية الروسية، حيث التقى بليخانوف. وبعد عودة لينين إلى روسيا، تم اعتقاله، ومحاكمته، والحكم عليه بالسجن في سيبريا، ولذلك فقد كان لينين بعيدا حينما ولد حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي في منسك عام 1898م. وفي عام 1900م هرب من سيبريا، وجمع قواه مع بليخانوف مرة أخرى، وأسس في ميونخ جريدة بعنوان الشرارة، كانت بعثاً جديد لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي. وكانت جريدة لينين. وفي عام 1903م عقد مؤتمر جديد لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي.
وأطلق لينين على حزبه اسم (طليعة الطبقة العاملة ومنقذها). وبعد العديد من المناقشات، والمناوشات، والانشقاقات انقسم الحزب إلى جزأين، هما: (البلاشفة) أي الأغلبية، و(المناشفة)، أي الأقلية. وكان هذا الانقسام تعبيراً عن الاختلاف في الإستراتيجية الثورية لكلا الطرفين. وانحاز لينين إلى البلاشفة، بينما انضم بليخانوف إلى المناشفة وإن ظل الطرفان ينتميان إلى حزب واحد هو حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي.
وقد خاض البلاشفة والمناشفة كل بطريقته حرباً ثورية، طويلة، ضد حكم آل رومانوف القيصري. وحينما اندلعت ثورة عام 1905م قاد تروتسكي ـ وهو أحد المناشفة البارزين ـ أول تنظيم سوفيتي عمالي في مدينة سان بطرسبورج. وبعد سحق هذه الثورة ونفي تروتسكي إلى سيبريا، إلا أنه سرعان ما هرب إلى الخارج.
وفي عام 1912م كان لينين وجماعته قد قويت شوكتهم، وتمكنوا من طرد المناشفة خارج الحزب. وقامت الحرب العالمية الأولى وبسبب مظالم آل رومانوف، وفسادهم، ثم هزيمتهم أمام جحافل الجيوش الألمانية، ثارت ضدهم الجماهير، وأسقطت حكم القيصر نيقولا الثاني في مارس عام 1917م. وفي هذا المناخ الثوري ظهر لينين وأطلق صيحته الشهيرة:
(إن الجماهير تريد الأرض والخبز ولكن الحكومة الثورية التي خلفت القيصر لا تحقق لها هذه المطالب ولذلك فلابد أن يقاتل البلاشفة من أجل الثورة الاشتراكية)
وكانت هذه الظروف الثورية في صالح البلاشفة، الذين أصبحوا يعدون بمئات الألوف. وقد حدث في ذلك الحين أن ترك تروتسكي صفوف المناشفة لينضم إلى بلاشفة لينين. ودعا البلاشفة إلى ثورة مسلحة لإطاحة حكومة كيرنسكي، الثورية وفي 8 نوفمبر عام 1917م تمكنوا من الانتصار، وشكلوا الحكومة وحدهم برئاسة لينين، وعين ترويسكي وزيراً للخارجية في هذه الحكومة.
في العام نفسه أجريت انتخابات الجمعية التأسيسية، ففاز البلاشفة بنسبة 25% فقط من مجموع الأصوات بينما فازت الأحزاب الاشتراكية المعتدلة الأخرى بنسبة 62% من الأصوات، أما النسبة المتبقية وهي 13% فقد فازت بها الأحزاب البورجوازية. وبعد أول اجتماع عقدته الجمعية التأسيسية، قرر لينين حلها كما قرر حظر نشاط جميع الأحزاب باستثناء حزبه البلشفي، الذي أطلق عليه اسم (الحزب الشيوعي السوفييتي) وفرض لينين هذا الحظر بالقوة، وأعمال العنف، والاغتيالات ضد زعماء هذه الأحزاب وكوادرها، دون تفرقة بين الاشتراكيين والبورجوازيين. وتم ذلك كله تحت شعار (مطاردة منظمات الثورة المضادة).
وفي عام 1919م عقد الحزب الشيوعي السوفيتي مؤتمره الثاني، الذي أعطى الحزب الهيمنة المطلقة على كل شئ في الاتحاد السوفيتي، ورغم أن تروتسكي كان قد عقد (صلح برست ليتوفسك) مع الألمان، إلا أن ثمن هذا الصلح كان باهظاً، حيث تضمن فصل بولندا، وجمهوريات البلطيق وكذلك أوكرانيا عن روسيا السوفييتية. وتدخلت إنجلترا، وفرنسا، واليابان، والولايات المتحدة، لمحاولة إسقاط السلطة السوفييتية، دون جدوى، وتم جلاء قوات البلدان الأربعة فيما بعد عن الأراضي السوفيتية. وأقبل السوفييت على تأميم كل الاقتصاد السوفيتي في الصناعة، والزراعة، وإلغاء كل مظاهر الملكية الخاصة تقريباً. وفي عام 1920م شعر السوفيت بالمأزق الذي وضعوا أنفسهم فيه، حيث انخفض الإنتاج بنسب واضحة. وفي عام 1921م قتلت المجاعة الملايين من أبناء الشعوب. وأمام هذه الكارثة، تراجع لينين عن التأميم الكامل لوسائل الإنتاج، واتبع ما سماه باسم (السياسة الاقتصادية الجديدة)، وأعاد الملكية الخاصة في كثير من القطاعات الإنتاجية. وأصيب لينين بأزمة قلبية وظلت صحته في تدهور حتى توفي عام 1924 عن 53 عاماً فقط.
وقد ترك لينين الحزب الشيوعي السوفيتي وهو منقسم بشأن السياسة الاقتصادية الجديدة، التي كان تروتسكي وغيره ينتقدونها، باعتبارها عودة إلى الرأسمالية. وكان تروتسكي الوريث الطبيعي للينين، ولكن آلة الحزب كلها كانت في يد السكرتير العام، جوزيف ستالين، الذي كان قد اكتسب أهميته النضالية، من تدبيره وتنفيذه لعدة سرقات مسلحة، من أجل تمويل الحزب، أثناء الكفاح ضد القيصرية.
وقد طالب لينين في وصيته خلفاءه تنحية ستالين، ولكن ستالين استطاع أن يسرق السلطة من الجميع، بمساعدة اثنين من رفاق لينين الكبار، هما "كاسينيف" و"زينوفيف". ثم انقلب ستالين عليهما، هما الآخران، بعد ذلك، وتحالف مع كل من "بوخارين" و"ريكوف"، وهما من الشيوعيين المحافظين. وفي عام 1936م أصبح ستالين قيصر روسيا الذي لا ينازع.
وطوال هذه الفترة، ظل الحزب الشيوعي حزب أقلية، حيث لم يكن عدد أعضائه يتجاوز عشرة في المائة من الناخبين الروس. وقد عطل ستالين الحزب كله، حيث لم يعقد مؤتمر للحزب خلال الفترمن من 1929 إلى 1952م، وفضّل أن يدير الأمور بنفسه. وفي عام 1953م توفي ستالين، وخلفه في أمانة الحزب الشيوعي نيكيتا خروشوف، الذي حاول تصحيح سياسات ستالين، إلا أن حركات التمرد ضد الشيوعيين في كل من بولندا، والمجر، في عام 1956م، اضطرته إلى التخلي عن سياسته الجديدة، والعودة إلى النظام القديم.
وفي عام 1964م، أطيح خروشوف، وخلفه ليونيد بريجينيف، الذي قمع ثورة تشيكوسلوفاكيا في عام 1968م، وغزا أفغانستان عام 1979م، ووضع دستوراً أشد تطرفاً في عام 1977م ينص على أن الحزب الشيوعي هو القوة القائدة والمرشدة للمجتمع السوفيتي. واستمر الحال في الاتحاد السوفيتي حتى جاء ميخائيل جورباتشوف، رئيساً للاتحاد السوفييتي في عام 1985، وأعلن سياسة البيريسترويكا. وتعني هذه السياسة إجراء الإصلاحات الاقتصادية، وفقاً للخيار الاشتراكي، أي أنها لا تعني التحول نحو النظام الرأسمالي، كما يعتقد البعض. وفي هذا الخصوص يقول جورباتشوف: "إننا نقوم بإصلاحاتنا وفقاً للخيار الاشتراكي، ونحن نبحث داخل الاشتراكية، وليس خارجها، عن إجابات لكل الأسئلة المطروحة، ونحن نقوّم نجاحاتنا وأخطاءنا على السواء، بمعايير اشتراكية، والذين يأملون بأننا سنبتعد عن الطريق الاشتراكي سيصابون بخيبة أمل كبيرة. ولهذا السبب فإن كل قسم من برنامج البيريسترويكا يرتكز على مبدأ مزيد من الاشتراكية، ومزيد من الديموقراطية. إن الاشتراكية نظاماً اجتماعياً فنياً وبصفتها طريقة للحياة، تملك إمكانيات ضخمة للتطور الذاتي، والإتقان الذاتي، وعلينا أن نكشف عنها، وتملك إمكانيات ضخمة، كذلك، لحل المشكلات الرئيسية للتقدم العلمي، والتكنولوجي، والاقتصادي، والثقافي، والفكري، للمجتمع المعاصر، ولتطوير الإنسان الفرد، وهذا ما يشير إليه الطريق، الذي اختارته بلادنا منذ أكتوبر 1917م، الطريق، الذي كان مليئاً بصعوبات عديدة، وأحداث فاجعة، وعمل مجهد، كما كان مليئاً في الوقت نفسه بانتصارات وإنجازات عظيمة".
ونتيجة لهذا الإيمان العميق بقدرة الاشتراكية، بصفتها نظاماً، على إصلاح الخلل الاقتصادي، والاجتماعي، الذي كان يعانيه الاتحاد السوفيتي، فقد فضل الرئيس السوفيتي جورباتشوف خطة الاقتصادي السوفييتي "ستانيسلاف شاتالين"، التي كانت تقوم على مبدأ السلطة الاقتصادية للشعب وتتضمن تحويل أكثر من ثلاثة أرباع الاقتصاد السوفيتي إلى القطاع الخاص، وتحويل الشركات الكبرى إلى شركات مساهمة، وبيع المنشآت الصغيرة إلى القطاع الخاص والسماح للمزارعين بالإنسحاب من المزارع الجماعية، التي سيتم تفكيكها، وتسليم قطعة من الأرض وقدر من رأس المال، لكل مزارع، دعماً للمبادرات الفردية.
وفي 19 أكتوبر عام 1990م حظي الرئيس السوفييتي بموافقة مجلس السوفيت الأعلى على خطته الاقتصادية، التي تتضمن خطة شاتالين، وترمي إلى التحول من أسلوب التخطيط المركزي القديم، إلى الاقتصاد الحر، مؤكداً أن ذلك ليس خروجاً على الاشتراكية، ولكنه في الواقع تقوية لها. وقد كانت هذه الخطة تسعى إلى خفض عجز الموازنة، وخفض الإنفاق العام، وزيادة إنتاج السلع الاستهلاكية، وزيادة الإنتاج الزراعي فضلاً عن رفع الأسعار بنسبة 70%.
ورغم القوة النظامية، التي كانت تتمتع بها هذه الخطة، إلا أن رياح التغيير التي شهدها العالم الاشتراكي لم تتح الفرصة لتحقيق التطبيق الكامل للخطة. فقد انتعشت القوميات، والعرقيات، وأخذت تسعى إلى الاستقلال. وانتهى الأمر مع بزوغ فجر عام 1992م إلى تحول الإمبراطورية السوفيتية إلى خمس عشرة جمهورية مستقلة على رأسها جمهورية روسيا.
5. صور أخرى من التحول عن الاشتراكية
لقد أعطى جورباتشوف الضوء الأخضر، لجماهير أوربا الشرقية، التي خرجت في حشود ضخمة تؤيد ما يطالب به من إصلاح للنظام السياسي والاقتصادي في المجتمع الشيوعي. أما ما كان يحدث في حكومات أوربا الشرقية فهو ـ طبقا لمبدأ جورباتشوف ـ أمر يخص سيادة كل دولة. وفيما يلي التطورات الهامة في الخريطة السياسية لأوربا الشرقية:
في بولندا
أطاحت حركة (تضامن) بالحكومة الشيوعية، وحكمت البلاد عناصر غير شيوعية لأول مرة، وأصبح الحزب الشيوعي هامشياً.
في المجر
تم حل الحزب الشيوعي المجري، وقيام حزب اشتراكي ديمقراطي خلفاً له، يؤمن بالتعددية الحزبية، وبالديمقراطية، وتبنى قوانين السوق، كما أعيدت كتابة الدستور وخرج إلى حيز الوجود بعض أحزاب المعارضة.
في تشيكوسلوفاكيا
خرجت الجماهير في مظاهرات ضخمة تنادى بالإصلاح، واختفى وجه الزعيم الشيوعي التشيكى ميلوس جاكيس، الذي كان قد وافق عام 1968 على الغزو السوفيتي للعاصمة براغ بعد إطاحة دوبتشيك. ودعا فاتسلاف هاقل، رئيس تشيكوسلوفاكيا الجديد، إلى محو كل آثار النظام الشيوعي السابق في البلاد، الذي كان استمر 44 عاماً، وتعهد بإقامة دولة جديدة تحترم فيها حقوق الإنسان.
في رومانيا
خرجت جماهير الشعب في مظاهرات تطالب بالإصلاح، وانتهت بإعدام الرئيس شاوشيسكو بعد مصادمات عنيفة مع حرسه الخاص، بعد اتهامه بالخيانة، ونهب أموال الدولة. وفي يوليو 1990م، وافق برلمان رومانيا من حيث المبدأ على خطة تعدّ اللبنة الأولى نحو التحول إلى نظام الاقتصاد الحر. وقد نصت الخطة على توزيع نسبة عشرين في المائة من القيمة التقديرية للصناعات المملوكة للدولة، على الشعب، على أن يتم هذا التوزيع في صورة سندات، أو صكوك تطرح للتداول في سوق للأوراق المالية، يتم تشكيلها في حينه.
في بلغاريا
استقال أقوى وأصلب رجال الحكم في صوفيا الرئيس، تيدور جينيكوف، بعد أن تولى رياسة الحزب والدولة زهاء 35 عاماً، وقد بدأت رياح التغيير تعصف بالنظام الشيوعي هناك.
في ألمانيا الشرقية
انتهت الأزمة، التي أحاطت بها، إلى الاستسلام للدعوة إلى التطور والديموقراطية، فاستقال الرئيس هونيكر الشيوعي المتشدد، من جميع مناصبه، واختارت اللجنة المركزية للحزب إيجون كرينتس خلفاً له. وكان لابد من هذه التوجهات المستجدة على المسرح السياسي رغم عناد ومعارضة هونيكر لأي إصلاح، إذ لم تكتف الجماهير بالتظاهر، والمناداة بالحرية. هذا في الوقت الذي كان فيه ألوف الألمان الشرقيين يغادرون بلدهم، هرباً إلى ألمانيا الغربية عن طريق المجر، أو تشيكوسلوفكيا، أو بولندا أو غيرها من المنافذ. كما تهاوى جدار برلين، وعاد شعب ألمانيا الشرقية ليعيش خلف ما تبقى من هذا الجدار. ورغم ما يقال عن أن فترة حكم إيجون كرينتس كانت مرحلة انتقالية، إلا أنه أمام التيار الجارف اضطر إلى الاعتراف بأن ألمانيا الشرقية لا يمكن أن تعيش بمعزل عن التغيير الذي يجتاح أوربا، وأن بيريسترويكا جورباتشوف ضرورية لمواجهه الموقف.
وفي مساء 30 يونيه 1990م جاء الإعلان عن دمج النظامين الاقتصاديين في دولتي ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية، بعد أن قررت الأخيرة جعل المارك الألماني الغربي العملة الرسمية فيها، واتباع نظام اقتصاد السوق الحرة. وقد تمت فعلاً هذه الوحدة الاقتصادية بين الدولتين في أول يوليو 1990م، لتكون خطوة تاريخية، على طريق التوحيد السياسي الشامل للألمانيتين. وفي 31 أغسطس 1990م تم التوقيع المبدئي على معاهدة توحيد شطري ألمانيا، في مدينة برلين الشرقية، بعد التوصل إلى تسوية آخر العقبات أمام هذه الوحدة. وتحدد المعاهدة الشروط القانونية لتوحيد شطري ألمانيا.