أزمة النقد الأدبي
تعاني الحركة النقدية الأدبية في العالم العربي عامة فتوراً وتسيباً لا مجال لإخفاء مظاهرهما مهما حاول ذلك المسؤولون عن الحركة الأدبية والنقدية العربية، ذلك أن النقد الأدبي في العالم العربي يعيش أزمة حقيقية تعود في أدق أسبابها وجذورها إلى عدم وضوح الرؤية النقدية كعمل مفسِّر ومقوِّم للأعمال الأدبية، وإلى أن الآخذين بالنقد والقائمين عليه ينظرون إليه نظرة قاصرة، نظرة ضبابية معتمة، خالية من عناصر المعرفة الحقيقية والعميقة لمفهوم النقد الأدبي، وأسلوب ممارسته ممارسة جادة. وحقيقة الأمر أن أبرز شواهد هذه الأزمة الحادة تتبلور في عدم وجود نقاد متخصصين منصرفين كلياً لممارسة هذا النوع من الأنواع الأدبية بعمق وروية وثقافة واسعة الطيف.
إن أكثر نقادنا العرب هم من الكتاب الصحفيين أنفسهم، فالكاتب الصحفي ذاته هو كتب وناقد ومحلل ومفسِّر ومقوِّم، وعندما يتحقق لنا في عالمنا العربي وجود فئة من النقاد المتخصصين، تقف من الكتاب والشعراء والرواة موقف الحياد، وتمسك في يدها مبضع الفصد والتشريح والتحليل، نكون ساعتئذٍ قد بدأنا الخطوة الأولى في طريق حل الأزمة النقدية والتغلب عليها.
نحن العرب إذن نعيش أزمة نقدية، أزمة شاملة بلا حدود، متعددة الجوانب والمظاهر، ولن نستطيع في هذه العجالة أن نضع اليد على الجرح كاملاً، وأن نصف الحلول الشافية للخروج من هذه الأزمة، إنما يجدر بنا أن نشير إلى بعض المؤهلات والأمور التي من شأنها أن ترسي الأساس المكين لبناء حركة نقدية هادفة وناجحة.
ـ قال الشاعر الإنكليزي إليوت: إن الحكم على الأدب لا يكون إلا بمعايير أدبية..
هذا يعني بوضوح أن الناقد يجب أن يتسم بسعة اطلاع غير محدودة في كل مجالات الأدب، وأن يتمكن من الغوص عميقاً في كبد الأثر الأدبي الذي يدرسه، وبذلك يتحقق له هدفان.
الأول: تمكنه من توجيه الأديب الناشئ وجهة صحيحة مضمونة ومأمونة الأهداف، بلفتِ نظره إلى ما يُكتب في الأدب ونظرياته المتطورة في مختلف الأجناس الأدبية، وإلى ما يثور من معارك نقدية تصل إلى حد الصراع حول رأي أو قضية أو موضوعة محدثة.
الهدف الثاني: يستطيع الناقد بذلك، أن يتعمق تفسير العمل الأدبي، دون خوف من عثرة أو زلل. وبذلك يضمن لنفسه سلامة الكشف عما في العمل الأدبي الذي قد تعمق الغوص فيه من قيم جمالية ومن أفكار جديدة، ومن روابط تراثية، ما كان ليستطيع الكشف عنها لو أنه مر بالأثر الأدبي كسحابة صيف عابرة، أو أولاه قراءة سطحية ضحلة، بذلك يتمكن الناقد من إضاءة الطريق أمام القارئ الذي ينشد الفهم والمعرفة، ويحسن إحكام الكوى المنيرة التي تحمي الدارس الناشئ من الانحراف والجنوح في الفهم والتفسير.
والناقد عبر مهماته الخطرة هذه معرض للخطأ والسقوط، إذ إنه في سبيل بلوغ غاياته السامية المرجوة، يجتاز مسافات طويلة على مسار مرهف حاد، يدق في أكثر حالاته عن موطئ قدم، ولكنه يستطيع أن يجنب نفسه هذا المصير، و أن يظل في موقع القيادة والريادة، ما دام يسبح ويحلق في إطار الأدب، بعيداً عن التسطح والأنانية، قاصراً مهمته على رصد التجارب الفنية والأدبية للكتاب، وتحليلها وتفسيرها تفسيراً مقوِّماً رصيناً، لا يشتطُّ خارج دائرة الأدب وعناصره الأصيلة.
ـ لا يكفي أن يعرف الناقد دوره ومهماته الأساسية في العملية النقدية، بل ينبغي وبكل جدارة، أن تركز هذه المهمات، على ساحة واسعة المدى من الثقافة الموسوعية والمتخصصة، فكل ناقد غير معفي إطلاقاً من تحصيل ثقافة إنسانية شاملة، بل هو مطالب أن يكون موسوعة عصرية حضارية ضاربة في أعماق الفن والفكر التراثي والمعاصر، سواء في العلوم الإنسانية أو العلوم التجريبية والتطبيقية. وهذا يفرض على الناقد أن يقرأ دوماً بعمق واستمرار، وأن تكون صلته وثيقة وعميقة كل العمق مع كل بوابات الفكر والتاريخ العريضة، بدءاً من أرسطو ومروراً بالأمدي والجرجاني وابن خلدون، وجون ديوي وهيغل وماركس، ومندور وطه حسين ونعيمة، حتى أحدث الكتاب والنقاد في العالم كله.
إلا أن هذه الموسوعية الثقافية لدى الناقد يجب ألا تكون عبئاً على الكاتب، أي أن الناقد غير مطالب أبداً بأن يحيط النص الذي يدرسه ويقيّمه بأفكار مسبقة، وتصورات ذاتية، وألا يخضعه لمعيار موسوعيته المطلقة فيفرضها بعنف على كل من الكاتب والقارئ، بل عليه أن يضيف إلى صفة الشمولية الثقافية صفة الحياد المطلق النزيه، فلا يقحم ذاته على غيره، ولا يضع خصوصيته في مركز الدائرة فيحمِّل النص الأدبي فوق طاقته، بل يعالجه بتجرد غير محدود من خلال ما يعطيه وما يوحي به وما يرمز إليه.
ـ من خلا ما تقدم من معطيات، نجد دون لبس أن الحركة النقدية العربية تعاني قصوراً واضحاً، وأن الناقد العربي لم يتكون بعد من النواحي الثقافية والجمالية والحيادية، أو أنه لا يزال في طريقه إلى التكون، كما أنه لم يمتلك حتى الآن جميع أصناف الأسلحة النقدية المشار إليها، والتي يستطيع بوساطتها أن يسلك بثقة واطمئنان في طريق التحليل والتفسير والتقويم والإرشاد والتوجيه، ليغدو بعد ذلك حجة ومرجعاً موضوعياً لا يحتمي بستار من الذاتية المغرضة.
إن الناقد العربي اكتفى بأن يكون إما كاتباً في مجال متخصص من مجالات الفنون الأدبية، شاعراً أو قاصاً، فراح يفرض سلطانه على كل المجالات الأدبية ما يعرفه منها وما لا يعرفه، أو ان يكون صحافياً متمرساً وناجحاً في عمله الصحفي، وهو بحكم أن العمل والنشاط الصحفي في بعض أوجهه يمسُّ العملية النقدية من خلال أن الصحافي مضطر لإصدار أحكام تتعلق بقضية سياسية أو اجتماعية أو فكرية، أو أنه مضطر في بعض الأحيان إلى مراجعة بعض الكتب والمصادر وتعقب ما يصدر من جديد في صدد موضوع ما، لهذه الأسباب أو بعضها راح الصحافي ينتقل من ساحة العمل الصحافي في اليومي والأسبوعي إلى ساحة النقد الواسعة جداً، وهو لا يمتلك من أسلحته إلا طبيعة المهنة التي يمارسها وشروطها.
من ناحية أخرى نرى أن الناقد العربي متقوقع في إطار ضيق محدود، ويروح من خلال هذه الزاوية الضيقة التي يحصر نفسه واهتماماته ودراسته فيها، يطلق أحكاماً عامة تشمل كل شيء وتتناول كل الأدباء، ويصوغ منها في النهاية ظاهرة أدبية نقدية شاملة هي في الحقيقة لا تتناول إلا حالة محددة لا تصلح أن تكون أساساً لحكم شامل عام، يجري ذلك سواء في الأحكام النقدية التراثية أو المعاصرة. فما أكثر النقاد الذين يسوقون للدارسين والأدباء الشباب حكماً عاماً على ظاهرة الشكوى والألم من الحياة والنظام الاجتماعي في العصر العباسي من خلال شاعر واحد كالمتنبي أو أبي فراس، أو ظاهرة الرمز واعتماد الأسطورة في الأدب الحديث والمعاصر من خلال شاعر واحد مثل أدونيس أو عبد الوهاب البياتي، إنما نسوق هذه الأمثلة على سبيل المثال لا الحصر.
ـ إن تحقيق نهضة نقدية عربية شاملة ليس بالأمر السهل، ذلك لأن الأصول النقدية شيء لا يمكن تعلمه لافتقاره إلى القواعد والأصول الثابتة المطلقة، أي أن الناقد الدارس لا يدرس النقد في كتاب ككل العلوم الأخرى، فيتعمق الدرس والبحث حتى يصبح ناقداً.. لا.. إن النقد عملية ذوقية في القسم الأكبر من ساحتها، تعتمد على موهبة أصلية، فمن امتلك ناصية هذه الموهبة المترافقة بالذوق الفني يستطيع أن يثقف نفسه في بطون الكتب وبحور التجربة، فتصقل موهبته ويتنامى ذوقه الفني، ويصبح واحداً في عداد عباقرة النقد، وعندئذٍ لا تكون عملية التعلم والتثقيف أساساً لخلق النقد، بل شحذاً وصقلاً للموهبة والذوق المتأصلين في النفس وتطعيماً لهما بمعطيات المعرفة التراثية والمستحدثة.
بذلك يصبح باب النقد ضيقاً، مصوناً بحارس الموهبة والذوق، فلا يلجه كل طامح وكل قاصر، ولا يتجول في بهوه الكبير كل من شارك أو مارس شيئاً من الأعمال الكتابية والثقافية أياً كان نوعها، بل تظل الساحة وقفاً على القادرين المؤهلين لأن يخوضوا غمار حلبتها بثقة وجدارة.